أغنية صياد السمك وقصائد نيويورك» ... قصيدة سعدي يوسف المفتوحة الأبواب طباعة

 رفعت سلاَّم
الحياة  - 13/02/08
Imageكلما ضاقت به أرض، اتسع للأرض، وكلما ضاقت به الأحداث والوقائع، انفتح ليستوعب التواريخ والأساطير، وكلماطردته مدينة أو عاصمة، أعلن نفسه سيداً أعلى من المكان والزمان. لا ضغينة أو مرثية. لا بكاء على الأطلال، ولاهجاء للزمن. وهو الذي دفع أكثر من

 ثمن.في ديوانه الجديد «أغنية صيادي السمك وقصائد نيويورك»، الذي صدر قبل أسبوعين في القاهرة، يواصل سعدي يوسف أنشودته التي لم يغفل يوماً عن مواصلة نسجها، كما لم يغفل يوماً عن التنفس. أنشودة فريدة، بسيطة، يواجه بها الزمن وتقلبات الأحداث ومصاعب الحياة، بلا شعارات أو إعلانات. فهل تصبح القصيدةُ بصيرةً للشاعر؟ وهل تلك البصيرة هي ما عصمته، ذاتيّاً وشعريّاً، من التخبط مع التقلبات التراجيدية - على نحو ما حدث مع كثيرين - لحياته ومصيره؟أنشودة تحتفي بالحي، المتحول، في الأشياء البسيطة، الطبيعية والإنسانية. هي اللحظات العابرة التي نكتشف، من دون أن يقول، أنها - في جوهرها - تمثل جوهر العالم والحياة، وتنطوي على قوانينه الأبدية، تماماً كما قال ريتسوس ذات قصيدة: « أَتَخَفَّى وَرَاءَ الأَشْيَاءِ الْبَسِيطَةِ/ كَيْ تَعْثُرُوا عَلَيْ،/ فَإِنْ لَمْ تَعْثُرُوا عَلَيَّ، فَسَتَعْثُرُونَ عَلَى الأَشْيَاء،/ سَتَلْمَسُونَ مَا لَمَسَتْهُ يَدِي،/ فَتَمْتَزِج بَصَمَاتُ أَيْدِينَا».وفي ذلك يصبح الطبيعي والإنساني- بلا تجريد لأيٍّ منهما- وجهين لحياةٍ واحدة. Imageفالعناصر الطبيعية (أشجار، أنهار، مطر، طيور وكائنات، غيوم، جبال، سهول، إلخ...) أعمدة رئيسة في بناء العالم الشعري. ليست إطاراً خارجيّاً أو أرضيَّةً عامةً، بل شريكٌ جوهري في العالم، بتحولاته التي لا تتوقف، والتي تحدد- في أغلب الأحيان- توجه العنصر الإنساني. فالاحتفاء بالطبيعي ليس خارجيّاً، زخرفيّاً، بل هو أساس من أسس الوجود اليومي والدائم (ليس غريباً إذن أن يضم الديوان أربع قصائد متتالية بعنوان «منظر طبيعي» تليها قصيدة بعنوان «منظر غير طبيعي» يحتلها- بدورها- المطر ونبتُ البيت وأوراق الماغنوليا اللامعة والزان المتطامن في البستان). والحضور الإنساني مرهون بالتحديدات الطبيعية، بألوان قزحية، للَّحظة والفعل. والتحديدات الطبيعية تشبه أسلوب «التأثيريين» في الرسم، تلك اللمسات المختصرة المكثفة، المنطوية على شحنة انفعالية مُضمَرَة. فلا قصيدة- لدى سعدي يوسف- لا يهطل فيها المطر.بل كثيراً ما يكون الطبيعي- هو ذاته- جديراً باحتلال القصيدة بكاملها، والاكتفاء بها. فـ»البازنينو» (الاسم الدارج بالجنوب العراقي لليعسوب) يمكن أن يحتل القصيدة وحده.وهو ليس الطبيعيَّ الرومانتيكي، الذي يصبح وجهاً وتعبيراً للحضور الإنساني، بل له حضوره الراسخ المستقل، وحياته المتحولة الموازية لحياة الإنسان، وتعبيراته المتفردة عن التغير والصيرورة. وجودٌ في ذاته، قوي ومفعمٌ بالدلالات.أما الحضور الإنساني فيتأسس في المكان. وهو ليس مكاناً واحداً أحاديّاً، بل أمكنة تنتشر على سطح الأرض، لكل منها وجهه الخاص، وفعاليته المتفردة الفاعلة على الحضور الإنساني. حضور أساسي لأمكنة القاهرة (القاهرة ذاتها)، فمقهى «زهرة البستان»، والنادي اليوناني، وحي الدرب الأحمر (حوَّله إلى الدرب الأصفر)، وشاطئ الأنفوشي السكندري، والبار الأرلندي في لندن، كنيسة سان-جون وود، جزيرة وايت، فضلاً عن نيويورك التي اختصها سعدي يوسف بمجموعةٍ ختامية من القصائد (تذكر- بطريقةٍ مختلفة- بقصائد لوركا عن نيويورك، وقصائد ماياكوفسكي «الأميركية»). وهو ليس المكان الطبيعي أو «السياحي» هو ما يمتلك الحضور، بل المكان «الإنساني»، الذي يعكس ماهية الحضور الإنساني.وفي اكتشاف المكان والإنسان، يعتمد سعدي يوسف الوصف الدقيق الغائر في أعماق اللحظة والأشياء، والسرد الحكائي كأداتين رئيسيتين. لا انزلاق على السطح الزلق، ولا تجريد أو ذهنية. هو استنطاق الأشياء واللحظات العادية بما تكنه في أعماقها السرية الحميمة، وأركانها المعتمة. هو البحث عمَّا لم تقله، ولا تكشفه أو تبيحه. وهو السرد الذي ينفي الثرثرة والتزيد ويعتمد انتقاءً صارماً للتفاصيل التي تصلح لبنةً للبناء.
فطريقة الوصف والسرد هي التي تفجر الشعرية، بما تقوم على الدقة والرهافة والبنية المتراتبة في خفاء، وخصوصاً أن المشهد دائماً ما يبدأ اعتياديّاً، يوميّاً، لا يلفت - على السطح - انتباه أحد.أما ذاكرة القصيدة - كفاعلية شعرية أساسية - فمفتوحة على الأزمنة واللحظات والأماكن والتواريخ بلا حدود أو فواصل. توحد بينها جميعاً، وتستدعيها في الصيغة المناسبة، لتفجر دلالةً أو ومضةً أو حدساً ما خاطفاً. قراصنة ملوك العصور الوسطى الأوروبيين، جُند روما، المغول، بحرية هنري الخامس، القلاع الصليبية، والتماسيح الآلهة في مصر الفرعونية، والسفائن الغارقة من زمان البطالسة، ومجزرة دير ياسين، و»قصر الشتاء» القيصري إبان الثورة البلشفية.لكنها ذاكرة مترعةٌ بالعراق والعراقي، الماضي والراهن، الموضوعي والذاتي، حتى في لحظة السعادة مع الحبيبة. وتأتي له الذاكرة بالأصوات، من فراشات الأنديز ونايات القرغيز... إلى «صَلْيَاتِ رَصَاصٍ فِي الْبَصْرَة»، إلى «أُم قصر» الذي قاوم جنودُه الاحتلال الأميركي 2003، إلى الجنرال الفرنسي روجكوف الذي شارك في حرب 1991 ضد العراق، وجسر باب سليمان. كأن كل شيء - في الوعي واللاوعي - يفضي إلى العراق، كل شعور وفكرة وإحساس وخاطرة.هكذا تصبح قصيدة سعدي يوسف مفتوحة الأبواب والمصاريع عن آخرها. لا أفكار جاهزةً أو أيديولوجيا، لا شعاراتٍ أو لافتات. وكل شيء قابل للشعر، بلا معاضلة أو مماحكة أو افتعال. كل شيء يمكن أن يأتي بقصيدة مُترعة: صورة فوتوغرافية قديمة، عطلة نهاية أسبوع، دمية قطن على مقعد المدرسة، الفتاة التي ستغني قصائدها بلسان العصافير، غيومٌ بيض تعبر هادئةً تحت سماء زرقاء، غيوم الصبح الباردة، وطاولة خضراء في الحديقة... لكنها أيضاً مفتوحة النهاية على ما يجيء، ذلك المجهول. ولا توجس أو خوف، بل هو اختيار داخلي أصيل: (قُم وَافْتَحِ الْبَابَ../ قُلْ: مَرْحَباً!/ وَانْتَظِر مَن يَجِىء،/ انْتَظِر مَن تَجِىء)؛ (إِنِّنيَ الآنَ أَخْطُو خُطْوَتِي الأُولَى/ الرِّيَاحُ وَئِيدَةٌ/ وَعَصَايَ تَمْضِي بِي إِلَى مَا لَسْتُ أَدْرِي)، (أَيْنَ أَمْضِي؟)؛ (الآنَ أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ/ الآنَ أَدْفَعُ سَيَّارَتِي، مُسْرِعَ النَّبْضِ/ مُنْدَفِعاً/ فِي الطَّرِيقِ الضَّبَاب)؛ (كُنْتُ عَلَى مُفْتَرَقٍ لِثَلاَثِ دُرُوبٍ،/ الأُولَى: تَأخُذُنِي نَحْوَ الْبَحْر./ الثَّانِيَةُ: اتَّجَهَت نَحْوَ الْجَبَل./ الثَّالِثَةُ: انْطَمَسَت أَيُّ عَلاَمَاتٍ فِيهَا../.../ قُلْتُ: «لِيَ الثَّالِثَةُ الْمَطْمُوسَة»)، (سَوْفَ أُقِيمُ هُنَا/ فِي بَيْتِ الْعَاصِفَة).لكن القصائد - أو الالتفاتات - النادرة ذات الطبيعة «السياسية» تدفعها «الحماسة الوطنية» إلى التفلُّت أحياناً من الدقة والرهافة الشعرية الغالبة. تتزيد حيناً إلى المباشرة الحادة (أَيُّ عِرَاقٍ هَذَا؟/ أَيُّ عِرَاقٍ جَاءَ بِهِ السُّفَهَاءُ الْخَوَنَة/ وَرِجَالُ الدِّينِ الْمُخْتَرَمُون؟ أَيُّ عِرَاقٍ جَاءَ بِهِ أَردَأُ مَن سَكَنَ الْبَيْتَ الأَبْيَض؟)، وحيناً إلى تقليدية «القصائد الوطنية» («أَنَا: الكُوفَةُ، مَا خُطَّ فِي الْعُرُوبَةِ خَطٌّ قَبْلَهَا، وَالْعَوَاصِمُ الأََلْفُ مَا كَانَت سِوَى مِن كِنَانَتِهَا»، «أَنَا: هَذَا الْفُرَاتُ، الَّذِي يُوَحِّدُ أَهْلاً، وَبِلاَداً، وَأُمَّةً. كُلُّ كَفٍّ مِن مَائِهِ مَوْعِدٌ مِن جَنَّةِ الْخُلْد»). ومثلما كتب محمود درويش - ذات يوم - «بَيرَوتُ خَيْمَتُنَا الأَخِيرَة»، جَاءَ الوقت على سعدي ليكتب: بغداد: «الْجِدَارُ الأَخِير».فلا بأس.فـ»الْحَدِيقَةُ هَامِدَةٌ/ لاَ الطُّيُورُ تَطِيرُ/ وَلاَ الْوَرَقُ الْغَضُّ يَهْتَزُّ./آخِرُ بُقْعَةُ صَحْوٍ تَلاَشَت مَعَ الْغَيْم./ رَعْدٌ قَرِيب.../ وَفِي لَحْظَةٍ/ سَوْفَ يَأتِي الْمَطَر»فما يزال قادراً على الحلم، وعلى الشعر معاً. وما زلنا ننتظر منه ما يليق به وبنا شعراً وحياة.