أن تكون عراقيا في هذا الزمن الضيق: سعدي يوسف نموذجا لتيه الأقلية النبيلة في الشعر والمواطنة طباعة

فاروق يوسف
Imageليس العراق مكانا علي الأرض، عسر تعريفه إنما يدل عليه: ثقبا أسود، دربا أعمى وعصا تشير إلي أفق لا وجود له. مزيج من النار والرمل والزئبق والنحاس والسراب والذهب والهواء والورق والزبد والرقي والمياه حكاياته التي تشي بجراحه التي تغطيها طبقة ناعمة من الزيت والخمر. القيامة ليست إلا لحظة من تأريخه، وهي بشارته: إبراهيم الذي ترك شجرته عالقة

بين فخذي نهر هو نوع من تلك النبوءة. أصل النبوة، نبع الدين الحافي، ودم القربان وصفاء الشعر هناك وأيضا أن تخترع دينا تستوعبه الكتابة. يكون حبرها فيما تكون دواته. هو الذي رأي. لم يكن جلجامش سوي محاولة للتماهي مع المسافة التي اجترحها ابراهيم لتكون حصته من المعرفة. ولم يكن الخلود سوي ابن للموت الذي يحرر من الخوف. كتابة ومحو، كتابة ومحو، كتابة ومحو. دائما كانت هنالك كتابة ودائما كان هنالك محو. لذلك أمسك الرسام شاكر حسن آل سعيد برأس الخيط الذي يؤدي إلى المسألة كلها بيسر: أن تكتب معناه أن تمحو وأن تمحو معناه أن تكتب، وفي الحالين تكون عراقيا أصيلا وأنت ترسم ما لا يرسم لترى ما لا يرى.
ليس العراق بيتا ليهدم ولا نهرا ليجفف ولا متحفا لينهب ولا حقلا ليحرق ولا كتابا ليمزق ولا آنية لتكسر ولا شجرة لتقتلع ولا سيفا ليثلم ولا عشبة لتداس ولا كسرة خبز لتلتهم ولا سقفا ليهوي ولا فريسة لتنهش ولا وقتا لينقضي. العراق كل هذا ولكنه ليس شيئا منه. صوته وقد صار حنجرة يذهب بالنغم إلى تخوم الموسيقي الصافية، خفقة هوائه وقد رفت مثل جناح تقف الملائكة أمامه بخشوع، تلويحة وداعه وقد اختصرت كل يد إنما تشير إلى القيامة، خطوته وقد باركت كل قدم مست هذه الأرض بالدعاء هي فكرته عن ترف النظر إلى النور، كلمته وهي معجم لم يكتب بعد. لذلك كان غموضه ولا يزال هو الوضوح كله. موجود وغائب، مرئي وخفي، صلد وشفاف، ممكن ومستحيل. لن تبحث عن وجه إلا وتجده بين ثنيات ضحكته، ولكن وجهه يظل عصيا علي النظر. لم يكن وجهه ذريعة للتصوير يوما ما. كنبي يرتجل نوره. العراق هو العمي كله والبصيرة كلها وهو الموت كله والحياة كلها بالقوة نفسها. يعمي حين يقبل ويكشف حين يدبر. ما لا يعرف منه يظل عصيا علي كل يقين. يا بني هذا بلد صعب هذا ما قاله فيصل الأول في وصيته لابنه غازي. ولم ينطق الملك العربي بالحكمة. من اوروك في الألف الثالثة قبل الميلاد إلى بغداد في الألف الثالثة بعد الميلاد والأفعى تبحث عن شجرة بعينها. المشكلة تتكرر: العراق لا ينتج فلاسفة بل شعراء.
هل أدلكم علي عراقي يشبه بلاده؟ مثلها تماما، شقي وعصي ونافر ومتمرد وعنيد ومنفي ومشرد ورقيق وآسر وكريم ومتوتر ومشدود وعاشق ومستوحد وعاكف علي فكرته التي هي مصدر سوء فهم مطلق: سعدي يوسف الشاعر الأكبر من بين العراقيين الأحياء. لقد قرر أن يكون في اللحظة الحرجة فردا، لا يشبهه أحد من الناس ولا يشبه أحدا. كان كذلك دائما ولكنه اليوم غير ما كانه في أي يوم من أيامه السابقة. هو اليوم رمز لقضية أخري غير الشعر، هو أيقونة المقاومة. اختار سعدي أن يقف ضد الجميع. وهو من خلال موقفه هذا فضح نوعا مبتذلا من قراء شعره. لقد صار المعجبون القدامى بشعره يرتجفون هلعا أمام شجاعته وجرأته وصلابته وخشونته. صُدم مقلدوه بقسوته. لقد ضلل سعدي الكثيرين إذا، وهو مستمر في خديعته إذ يلقب نفسه بـ الشيوعي الأخير . سعدي يوسف في موقفه الأبي والنبيل والمقاوم هو الآخر الذي لم يتوقعه أحد. لقد انتهي الشيوعيون العراقيون إلى أن يكونوا خدما للمحتل بل وماسحي أحذية الغزاة. هذا الشاعر عرف كيف يكون عراقيا في زمن ضيق. زمن ليس للأحياء فيه مكان يذكر. سعدي وحده اليوم، شاعر الأقلية الغامضة الذي قرر أن يكون حيا فيما فرض الموت علي كل عراقي.
يا لتعاستهم وهم يكرهون سعدي يوسف: الشاعر الذي الهم أجيالا. لا أقصد من الشعراء وحدهم بل وأيضا من القراء وهم بالملايين. لقد علمهم الوطنية فيما ينكرون عليه حقه في أن يكون مواطنا جريحا ومقهورا وغاضبا ومنددا ومعترضا وحانقا وأبيا. صنع سعدي زمنا لقصيدة مختلفة، خارجة عن السياق التقني العام، هي مرآة للبلاء الأعظم. وهل الشعر سوي تلك الشظية القادمة من العدم؟ عجن يوسف خبرات الحياة المؤلمة وصنع منها خميرة لشعر لا يجرؤ العرب علي كتابته اليوم. شعر سعدي هو ابن خبرتنا في العذاب. وهو في ذلك إنما يقترب من الإمام علي في بلاغته التي تشف عن خبرة الألم العراقية. لقد اضطر الكثيرون إلى أن يقفوا ضد معبودهم الشعري، لا لشيء إلا لانهم ظنوه آلهة صامتة. جماله الصامت كان مصدر إلهامهم وحين تكلم ذلك الجمال جرحهم صوته. كان من البديهي أن يحتفوا به مواطنا عاديا قرر أن يقاوم المحتل بدلا من أن يضعوه في خزانة زجاجية، يستعرضون من خلاله وفاءهم ليسار ميت. لا أحد منهم في إمكانه أن يشير إلى الخطأ الذي ارتكبه سعدي يوسف ليكون بسببه موضع مقت واستبعاد وانتهاك وامتعاض. أنا علي يقين أن (الشعراء) الذين يكرهون سعدي يتمنون لو أنهم كتبوا واحدة من قصائده الأخيرة التي لا تشبه الشعر، بل وتعاديه. العراقي سعدي هو الذي كتبها وليس ذلك الشاعر المكرس الذي نعرفه. سعدي أكبر من شهرته. لديه ما يفعله غير التغنج: وطنه محتل.
للعراقيين اليوم ما يفخرون به: شاعرهم الذي قاوم الاحتلال. هو نوع من بول ايلوار وبابلو نيرودا ولوركا واراغون وبريخت ومعروف الرصافي وأبي القاسم الشابي. بل هو الآخر الذي قرر أن يمضي بعراقيته إلى الأقصى. هذا الذي يكرهه الجميع اليوم من ملحدين ومتدينين ويساريين ويمينيين وحداثويين وفلكلوريين، كان هو نفسه من غطس في بحيرة الشعر الخمسيني ليلتقط أجمل الجواهر ويسلمها إلى الستينيين وهو نفسه من أعاد إلى القصيدة حياتها اليومية في السبعينات بعد أن غرقت في خواء العدم الستيني. كان سعدي هو منقذ الشعر في العراق. ما يفعله سعدي اليوم لا يخرج عن دوره التقليدي: انه ينقذنا من عته الشعر وبلاهته وانحطاطه اللغوي وفقر خياله. إنه يخرجنا من رهان الشكل ليلقي بنا في لجة الشعر الصافي. وفي كل حالاته يواجهنا سعدي يوسف بالحقيقة: العراق في صفته بلدا محتلا. هي أشبه بوصية الملك فيصل لابنه: العراق في صفته بلدا صعبا. بداهة ولكن ليس من اليسير فهمها. لقد انشق سعدي في اللحظة الحرجة. ولذلك صار مرئيا أكثر مما يجب. لم يعد رهينة شعر كتبه في أوقات سابقة بل هو ابن لشعر لم يكتب بعد، بل هو ابن لوطن في طريقه إلى الولادة .

سعدي يوسف هو ابن العراق.

اخر تحديث الإثنين, 19 نونبر/تشرين ثان 2007 18:22