سعدي يوسف : لأدونيس رؤيته الخاصة وأنا معني بالتفاصيل الصغيرة طباعة

Imageفي أميركا يقتفي أثر الروائي هيرمان ملفيل ومصير السفينة «اسكس»
سعدي يوسف يطارد معاني الحياة النيويوركية
نيويورك: صلاح عواد
في الربيع الماضي، حين جاء سعدي يوسف للمشاركة في المهرجان الدولي للأدب في نيويورك، والذي نظمه الكاتب سلمان رشدي ورابطة القلم الأميركية، عبّر الشاعر العراقي آنذاك عن رغبته في زيارة جزيرة «نانتكيت» الواقعة على الجانب

الشرقي من المحيط. وحين عاد سعدي ثانية وقرر الإقامة بصحبة صديقته النمساوية اندريا في نيويورك، كرر نفس الرغبة في زيارة جزيرة نانتكيت، ولكن اندريا اقترحت زيارة جزر الحيتان. واكتشفت أن جزر الحيتان التي كانت، وربما لا تزال تعيش فيها أكبر الكائنات البحرية، هو تعبير واسع وفضفاض، قد يعني مجموعة من الجزر في آسيا وأميركا الشمالية واللاتينية وفي جزر الحوض الكاريبي كانت لصيد الحيتان قبل القرن العشرين. لكن سعدي فاجأنا باستذكار جزيرة نانتكيت التي تقع في ولاية ماساشوسيتس، جنوب الجزيرة السياحية المعروفة جدا «كيب كاد» وبعد استقراء اكتشفنا أين تقع جزيرة نانتكيت وكيفية الوصول إليها، واكتشفت أثناء الرحلة من نيويورك إلى الجزيرة بواسطة الباص أن سعدي يوسف يسعى إلى تتبع خطوات هيرمان ملفيل ومصير السفينة «اسكس» بعد أن هجم عليها الحوت موبيدك الذي أصبح عنوان أهم رواية أميركية كتبت في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. هذا الحوار أجرته «الشرق الأوسط» على هامش رحلة سعدي يوسف للوصول إلى جزيرة «نانتكيت» التي توقف عندها هيرمان ملفيل وكتب عنها في روايته «موبيدك»: «نانتكيت هي ثلثا الأرض واليابسة والبحر، يعود إليها وهي تملكه كما يملك الامبراطور امبراطوريته». والجزيرة التي اغوت سعدي يوسف والتي لا تزال مصدراً لصيادي الأسماك، أغوت أيضا إدغار ألن بو والشاعر الأميركي روبرت أويل وشاعر ويلز ديلان توماس. وهنا نص الحوار:
> لماذا هذا الاهتمام بالسفر إلى جزيرة "نانتكيت"، وأتذكر أنك كنت تفكر بالذهاب إليها منذ فترة من الزمن؟
ـ تعود هذه الرغبة إلى سنوات طويلة، وهي بالأساس مرتبطة بالكاتب الأميركي ملفيل الذي كان يتردد على هذه الجزيرة أثناء التحضير الطويل لكتابة روايته "موبيدك". نتيجة لاهتمامي بالرواية، وبحياة كاتبها، تولدت لدي رغبة حقيقية في الذهاب إلى هذا المكان. ثم وبالمصادفة وجدت كتابا في لندن يتحدث عن "موبيدك" والحدث الذي استلهمته الرواية، وهو غرق سفينة "اسكس" بعد هجوم الحوت عليها. ولم يبق كما اعتقد من البحارة إلا أربعة، استطاعوا العودة الى جزيرة نانتكيت بزورق نجاة، بعد أن اكلوا واحدا من اخوتهم البحارة نتيجة تعرضهم إلى هول شديد في طريق العودة. وعندما تحققت هذه الرغبة وجئت الآن الى "نانتكيت" وذهبت إلى المتحف شعرت وكأني احقق حلما قديما.
> هذا يحيلنا إلى علاقتك مع ملفيل، وكيف بدأت علاقتك بروايته "موبيدك"؟
ـ اعتبر كتاب "موبيدك" بمنزلة احد الكتب المهمة جداً بالنسبة لي، لأنه يحكي عن المصير البشري بشكل قاس ومفصلي في آن واحد. ومن الصعب أن تجد كاتبا تتوافر لديه تفاصيل مثل التي تقرأها في "موبيدك". ربما ان "الحديقة الجوراسية" تتوافر فيها معلومات دقيقة، لكن الفرق كبير بين عصر ملفيل والعصر الذي كتبت فيه "الحديقة الجوراسية"، ومن هنا نتلمس عظمة هيرمان ملفيل.
> لماذا هذه الصلة بكاتب مثل ملفيل بالتحديد، وليس بكاتب أميركي آخر مثل وليم فوكنر، على سبيل المثال؟ وكيف تشكلت هذه العلاقة بين سعدي يوسف وملفيل؟ وما هو المشترك بينكما؟
ـ كما تعلم ملفيل كتاب "الجزر الوحشية" وقد ترجم إلى العربية. وقد ترجمت رواية "موبيدك" على يد استاذ عظيم هو الدكتور إحسان عباس. ولكن علاقتي بالأمر أبعد حتى من هيرمان ملفيل نفسه. بمعنى أنني مهتم كثيرا، بالكتاب الذين يتناولون مناخات غير مألوفة والذين أجهدوا أنفسهم كثيرا للوصول إلى هذه الأجواء. وملفيل لم يستق معلوماته من نانتيكيت فقط، وإنما ذهب إلى أماكن غريبة عجيبة من مناطق الجوار، ولنقل انه ذهب إلى اماكن تجوال الحيتان، ووصل إلى اماكن لا يمكن وصفها آنذاك في جنوب القارة الأميركية. ويبدو لي هذا التنقل والسعي للوصول إلى اماكن مهجورة وغريبة متعلق بهجرة الكاتب مثل جوزيف كونراد برحلاته وتجواله، وهناك اندريه مارلو ورغبته الحثيثة في الوصول إلى أماكن بعيدة وغريبة.
> هل تجد قرابة بين ملفيل وكونراد؟
ـ بالطبع هناك قرابة بينهما، وتوجد أكثر من صلة، لأن كونراد كاتب بحري بامتياز ولديه رواية واحدة فقط عن البر. وهي عن محاولة انقلابية في جمهورية من جمهوريات أميركا اللاتينية. فملفيل وكونراد كلاهما كاتب يبحث عن الأجواء الصعبة.
> لديك قصيدة "الأحفاد" التي تتحدث عن البحارة العرب وعن حضرموت، هل لهذه القصيدة صلة باهتمامك بملفيل وكونراد؟
ـ لا تنس أن مجموعتي الأولى "القرصان" متأثرة بأجواء البحارة العرب، ولأنني من البصرة أثر فيّ هذا الجو كثيرا. وبعض المعلومات عن حياة البحر والمغامرات، كنت استقيها من البحارة القدماء في البصرة، حيث كنت التقي بهم، ويحدثونني عن اسفارهم إلى أسواق آسيا وأفريقيا والهند. وكانوا يحدثونني -حسب معتقداتهم وتجاربهم- عما يجدونه في البحر من أهوال وعجائب، وعن الحوريات والعواصف.
> إذا اردنا تلمس أثر شعري "لموبيدك" في أعمالك، كيف يمكن أن تدلنا عليه؟
ـ بالتأكيد لا اشعر بأنني ذلك الكابتن إيهاب، بل أشعر بأنني انا الحوت (يضحك) المطارد دائما وسوف ينتصر في النهاية على الشر المتمثل في الصراع. وفي النهاية "موبيدك" الحوت الأبيض الهائل والجميل ينتقم من مطارديه. واللون هنا، في الرواية، له معنى ودلالة، وهو البياض الصافي والعظيم والذي يظهر في نهاية الرواية منتصرا.
> مدينة نيويورك كما يبدو جذبتك وتزورها للمرة الثانية؟
ـ هذه هي زيارتي الثانية وربما آتي لمرة ثالثة. وعندما زرت نيويورك للمرة الأولى، قلت تكراراً وكتبت أيضا، بأنني احسست بألفة مع المدينة، ولست مثل عدد من الشعراء الذين توسموا عداء معينا إزاء المدينة. ربما كانت الظروف المحيطة بهم مختلفة، في حين شعرت انا بشيء آخر، بسبب وجود اصدقاء لي فيها، سهل أمري للتعرف على المدينة بشكل مختلف، ومن الاقتراب من أهلها العاديين. فمدخلي لأي مدينة وحتى مدخلي لنفسي هو متابعة الحياة اليومية للناس العاديين، وإقامة صلة مباشرة مع الفرد العادي، وربما لهذا السبب اشعر بهذا الود والعلاقة الممتازة مع نيويورك.
> تكتب يوميا عن زيارتك لنيويورك التي استغرقت شهرا كاملا. لكن عندما تكتب نصك الشعري هل تحضر أمامك تجارب شعراء آخرين، كتبوا عن نيويورك أو تجد نفسك منقطعا عن تلك التجارب؟
ـ أمامي تجارب الشعراء الأميركيين الذين كتبوا عن نيويورك لأنهم أحق بمدينتهم من أي شاعر آخر، وتتميز كتاباتهم بشيء من الجدل، بمعنى أنهم يحبون المدينة وفي الوقت ذاته يكرهون الكثير مما فيها، وهم يهتمون بتفاصيلها ويسعون في مناكبها- كما يقال- ويسهرون ويغنون ويعملون ويلاحظون ما حولهم. ربما تحضر تجربة لوركا الذي كتب "شاعر في نيويورك"، وهي قصيدة مهمة، كتبها لوركا متفاجئا بالمدينة، ومنتقلا منها إلى أميركا اللاتينية. وما يحمد في نص لوركا هو المزج الجميل بين السوريالية والواقعية ومن ثم ليست هناك أحكام نهائية في قصيدة لوركا عن نيويورك. وكما يبدو أن المدينة في النص لم تتفق مع المزاج اللاتيني للوركا.
> أشرت إلى الشعراء الأميركيين، من هم هؤلاء الشعرء برأيك الذين تعتبرهم الأكثر صلة مع نيويورك؟
ـ لنأخذ شعراء جيل "البيت" فهم الأكثر تمثلا لروح المدينة الأميركية مثل آن غينشبرك وغورسو، ويحضرني مثلا الشاعر اميري بركة.
> ماذا علينا أن نتوقع من مجموعتك الشعرية التي ستصدر عن نيويورك؟
ـ مسعاي أنا في هذه القصائد التي كتبتها عن نيويورك، وقد وصلت إلى أكثر من 20 قصيدة يتمثل في متابعتي لرصد الحياة اليومية والكتابة عنها. بمعنى أنني لم الجأ إلى التعميم في نصوصي. وآخذ يوميا كراساً وأذهب كل صباح إلى ساحة "واشنطن سكوير"، أجلس هناك وأرى كيف تبدأ الحياة، وحركة الناس، وكيف يستفيق المتشردون من نومهم على المصاطب. اشاهد مسافري القطارات "المترو" وكيف تفتح المخازن، وأقوم دائما بتسجيل ملاحظاتي. أحيانا أكتب البدايات الأولى للقصيدة، ثلاثة إلى أربعة أبيات، ثم أعود إلى الشقة لمواصلة العمل.
> كيف تنظر إلى قصيدة أدونيس "قبر من أجل نيويورك" هل تلتقي معها بالتجربة؟
ـ لدى أدونيس رؤية معينة لا تتوفر لدي وأنا شاعر معني بالتفاصيل البسيطة، ولست معنيا باستخلاص أحكام، وإذا كانت ثمة أحكام فأترك للقارئ الوصول إليها. وإذا وجدت أية أرضية مشتركة فهي عملية النقد، لأن العمل الفني يقوم على النقد أساسا.
> أنت من الشعراء العرب المعاصرين القلائل المهتمين بالمدينة، وسبق أن كتبت عن باريس وعدن، وها أنت الآن تكتب عن نيويورك. ماذا تشكل المدينة بالنسبة لك، ولماذا هذا الاهتمام بها؟
ـ لست شاعرا ريفيا، واعتبر المدينة هي المساحة التي يصل إليها البشر لتشكيل الحاضرة، التي تتركز فيها مجموعة من القيم ويتشكل فيها المسعى الفني، ويتبلور العمل السياسي وغيره من الأنشطة الإنسانية كالبناء والمعمار. وأحب أن اقيم علاقة وثيقة مع هذا المنتج الجميل للبشر الذي هو المدينة التي تختلف وتبتعد عن الريف. في المدينة تقدم أسئلة أصعب من اسئلة الريف. وثمة شيء آخر هو إصراري المستمر على ضرورة المكان، وأعتبر المكان عاملا أوليا وضروريا ولا يستغنى عنه في بناء القصيدة. واهتمامي بالمدينة هو جزء من احترامي لعنصر المكان والتعامل معه في النص الفني.
> هل يمكن أن توضح هذه العلاقة بين النص الفني والمكان؟
ـ لنأخذ مثلا الشعر الجاهلي الذي اعتبر انه أهم ما انجزه العرب حتى الآن باستثناء الثورة الحديثة في الشعر. واعتبر القصيدة الجاهلية، تقدم المفاتيح الأولى للقصيدة الجيدة، وتجد فيها المكان واضحا. ولا يوجد نص جاهلي من دون مكان. القصيدة الجاهلية كانت تحترم عواملها أو عناصرها، وتحترم الحياة. وعندما بدأ الشعر العربي ينفصل عن الحياة تلاشى المكان أيضا، أو صار المكان مستعارا، ولم يعد مثلا الطلل طللا، وغابت الرحلة الحقيقية في المكان ولم تعد الصحراء صحراء. فكيف يمكن لشاعر اندلسي أن يتحدث عن الأطلال؟ هذا برأيي لا يمكن أبدا. وهذا الانفصال عن المكان هو انفصال عن الظرف. والنص الذي ينفصل عن ظرفه ومكانه، لا أقول فقط إنه سيكون نصا معلقا، بل أكثر من ذلك سيكون نصا منقطعا وهو نص اللاعلاقة. العلاقة مع المكان ليست ميكانيكية، بل تنطوي على مجموعة معقدة من العوامل والعمليات، إضافة إلى احتدام الأسئلة. على سبيل المثال، لو قلت كلمة كالفرات أو ضفاف دجلة هي إحالة الى مكان، فما أكثر ما يثيره ذلك المكان من تداعيات.
> مجموعتك الأخيرة "الشيوعي الأخير" التي صدرت عن "دار المدى" بدمشق و"دار توبقال" بالمغرب، تختلف عن أعمالك الأخرى، وتنطوي على عنصر من التحريض، إضافة إلى المسافة الكبيرة من التجريب.
ـ مجموعة "الشيوعي الأخير" كنت بدأتها مع تجربة الأخضر بن يوسف، حيث كنت أتتبع الأخضر بن يوسف من مكان إلى آخر. وفي الديوان الأخير هناك شخصية الشيوعي الأخير، وكنت أسير معه وأتتبعه أحيانا يهبط بالمظلة، واحيانا يغوص في البحر، ويسافر إلى برشلونة ليشارك في ذكرى الأول من أيار، ويضم هذا الديوان حوالي 20 قصيدة.
حصلت هذه التجربة نتيجة متابعني لأمر معين فنيا، وكذلك كنت اتابع أمرا سياسيا وأؤمن أن الشاعر هو دائما مع الخاسر وهذا ما اعتقده دائما. هذا القول ليس لي، وإنما هو للشاعر لوركا، عندما سئل في المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية الإسبانية وقبل مقتله، هل أنت مع الجمهوريين أو مع الفرانكونيين، فأجاب لوركا: "الشاعر مع الخاسر". وقفت مع الشيوعي الأخير لأنه بدا لي هو الخاسر. وفي الوقت نفسه أردت التأكيد على قيم معينة كالحرية والعدل والتحرر، وغيرها من القيم النبيلة. والشيوعي الأخير هو رحلة عبر التاريخ. فعلى سبيل المثال، هو يذهب إلى برشلونة ليشارك في تظاهرة الأول من أيار، وليقارن ما بين تظاهرة 2006 وتظاهرة عام 1936 مثلا، فيجد فرقا هائلا وهو يحاول استعادة تلك الفترة من تاريخ برشلونة لكي يكتسب ثقة جديدة لا ليشعر بمزيد من اليأس. ومثلا يكون الشيوعي الأخير في بغداد، ويقرر وحده القيام بتظاهرة ضد الاحتلال، ويبدأ بخط شعار "يسقط الاحتلال". وعندما يخرج من البيت لا يجد من يمشي معه فيقول "إني حزب نفسي". واعتقد ان هذه مسألة مهمة في تطور الشيوعي الأخير، ومسألة مهمة بالنسبة لي. كان علي أن اختار في وقت، أيّد فيه أغلبية المثقفين العراقيين الاحتلال الأميركي- وحتى الآن بالرغم من الجرائم المرتكبة كل يوم- وحددت موقفا لي وخططت شعارا هو "يسقط الاحتلال". في هذه المجموعة ألقيت التبعة على الشيوعي الأخير وهنا يحصل تطابق بين الشخص والنص، واعتقد أن تجربة هذا الديوان لها أهمية معينة في مسيرتي الفنية والفكرية في الوقت نفسه.
> عنوان المجموعة ينطوي على نوع من الاستفزاز والتحريض، لماذا هذا العنوان؟
ـ بالنسبة للعنوان، تبدو لي المسألة بسيطة جدا، فمثلا هناك من يقول الهندي الأخير، والمحارب الأخير، والجندي الأخير، وانا اخترت الشيوعي الأخير. ربما لأن الكثيرين، تخلوا عن هذه الصفة. وفي الواقع أن هذا الشخص الذي كتبت عنه، لا يزال متشبثا بشيوعيته وفلسفته في الحياة، وفي نظره إلى الأمور. ولا اعتبر العنوان ينطوي على الاستفزاز، بل أعتبر الأمر طبيعيا، وقد ورد هذا التعبير أو ما يماثله في الكثير من الظروف