أيتام الجنّـة طباعة

زياد عبد القادر
14/07/2007
مهداة إلي سعدي يوسف

جوارب الظل. رائحة النافذة
الوسطي . حمـى الفراشة. عزلة
الجسر. هواجس شيخ في السبعين
يبكي بحرقة أمام النهر . قبضة عشب
يابس في بهو كنيسة مهجورة. قرن الأيل
المكسور../ .أشياء يرميها البحر

علي قدمي...ويمضي/
لا أحد غيري أمام البحر .أمرر كفي
في الماء, أشم حقل كروم خلف هضاب
وضباب , وأرى ما ليس يراه الحالم: أري سعدي
يوسف في منفاه بأقصى لندن.
أفكر: هل كان الشيخ ليبكي أمام النهر
هو سعدي؟
لا أعرف ...
أري الشيخ يمد المنفي بساطا. يفرشه ,
يسويه بكفين متجعدتين من البرد
ومن الويسكي, وينام علي حزن أخيل.
لا يحلم, فالحلم يروض فرخا
يحلم بالطيران، وسعدي قد شب
عن الحزن.
..................
هو الآن بعيد - في المنفي -...
يستيقظ مبهور العينين من الضوء:
"كأني أسري" يقول ويمضي بجناحين
فقيرين إلي حيث الضوء، وينسي أن يطوي
بساط المنفي. يتركه مرميا تحت سفرجله
من عهد التكوين. "سأعود إليه،
حتما سأعود إليه، ولو طرت إلي أعلي
عليين. أنا أعرف ذلك، عفوا - إن العرافة
تعرف ذلك" - يقول ويسري
مأخوذا ببياض في لون القطن...
يحلق للأعلى. تنفتح النافذة الوسطي،
فيرقي. لاشيء غير الضوء. لكن الدرب
بعيد/ إن الدرب بعيد /.
يصاعد ما بين سماءين. يهتز
من وهج الإسراء - مثل ملاك في طور التمرين -
يختض كدوري تقتله الحمي...يختض
ويختض ويختض...
فيرتبك الأيل في أعلي الجبل، ويضرب قرنه
في الصخر...يضرب
يضرب يضرب...
يصاعد سعدي. يضيق النفس،
ينز الصدر الهش من الإعياء...ينز
ينز ينز...
يغيم الدرب
فأمرر كفي في الماء.
....................
....................
ما بين سماء وسماء، لا يعرف أين هو.
يلتبس الأمر. "رائحة السرخس
في أصص الآجر الأحمر. سلال السعف،
سقف القصب، نديف الزغب الأبيض
في لون القطن...كأني في بيتي
علي ضفة دجلة...
كأني في البصرة!
يا الله... ما أسعدني! لكني لن أفرح
حتى أتأكد أن الإسراء حقيقي، وبأني
في الجنة حقا.
لن أفرح حتى ينجلي الأمر!
يغيم الدرب
.........................
.........................
أمرر كفي في الماء.

أري الأيل في أعلي الجبل. يجذب
بعض هواء، ينفثه في صدر الشيخ:
"فلتسر يا سعدي!" يقول ويكمل نطح
الصخر.
........................
يحلق سعدي. هو الآن وحيد
وغريب. يحاول بعض هواء كي يتنفس.
فأفكر: ترى فيم الشيخ يفكر:
"إن سمائي في لون الفحم، وصدري
علبة زنك صدئت من فرط التدخين
ورطوبة لندن. أحقا سأكون في الجنة ؟
أنا بن الشحاذين
أنا المنفي بن المنفي
أنا بن الفقراء...فلماذا لا أدخل
للجنة...
ولكن
أحق هذا الإسراء ؟
يغيم الدرب
........................
........................
أمرر كفي في الماء.
هو عند الباب. ينفتح الباب...
يدخل. لا أحد في الجنة. كأن الجنة
فارغة. يمشي هونا كي لا يزعج أحدا
ولا يفسد قيلولة نساخ الأقدار.
"صمت يصلح للعمل.سأكتب ما شئت
من أشعار و مراثي. ولكني سأحن
لضجيج الحانة حتما!"
يمشي. "قد أجد السكيرين
والمجان - بشارا والمتنبي، ديك الجن
ومظفر - هم أبناء البلد،
أبناء الكوفة والبصرة. سنبحث عن
حان في أقصي الجنة. حان كحنش
الأمة الراعية، وسنبكي كالأيتام.
نحن أيتام الجنة.
آه يا بلدي!
يغيم الدرب
.........................
.........................
أمرر كفي في الماء...
هم الأغراب.ينتظرون صراطا
مكتظا منذ قرون.
"نحن الشعراء الملعونين ـ يقول المتنبي ـ
نحن المغضوب عليهم في الدنيا،
وفي الآخرة ها نحن ننتظر الأوباش الجلادين
وننتظر آيات الله...في الآخرة حتى،
نحن في ذيل القائمة".

يضحك سعدي: "علي هذا لن يأتي دوري
قبل ملايين السنوات. إذن فلنتمش"!
يمشون علي غير هدي ـ تزجية للوقت ـ
يقولون كلاما في مدح الصفصاف المنسي
علي قبر الفاختة،
ويبكون عراقا شردهم.
يغيم الدرب
.......................
.......................
أمرر كفي في الماء...
"هل هذي هي الجنة حقا- يساءل سعدي-
إذن لماذا لا أجد ريح البصرة،
قرقعة الناعور الخشب في ليل الكوفة ؟
لماذا لا أجد مقهى الصيادين، حيث الشاي
الأخضر، أباريق الطين الأحمر، كراسي السعف،
ومساند من خشب الزيتون ؟
لماذا لا أجد خبز الطابون، وتمر الصيش
النجفي ؟
لا جنة في الجنة. أنا المنفي بن المنفي
أنا بن السكيرين!"
..................
تنغلق النافذة الوسطي.
يخر الأيل مكسور القرن
يستيقظ سعدي مبهور العين من الحلم.
يهجس في نفسه: "موحشة هذي
الغرفة.إن الريح هنا تكرهني
وتكره كل الأغراب الشحاذين، ولكني
سأكمل نطح الصخر، رغما عنها،
وعن هذا المطر الساقط منذ قرون!
......................
......................
......................
هو الآن بعيد- في منفاه بأقصى لندن-
وأنا وحدي قرب البحر.

شاعر من تونس