أدونيس المتغطرس يصف سعدي يوسف بـ " مهندس القصيدة العربية " طباعة

  عبد الرزاق عداي
في احدى الامسيات في اواسط السبعينيات من القرن الماضي في مقر اتحاد الادباء العراقيين”وكانت امسية للشاعر سعدي يوسف“ حول شعر الاميركي”والت وتمان“ كانت اغلب مقاربات الندوة تؤكد باصرار على ضرورة الربط الحيوي بين الحرية ضمن اوسع فضاءاتها والفعل الشعري، مبينة ان تحاشيا لا مفر منه بين التوازن الحاصل بين اللغة والرؤية الشعرية وهذا الامر لا يتم بشكله الناجز الا عبر فضاء الحرية التي يمارسها الشاعر عبر منجزه الشعري ومدى انغماسه الحر

والشامل لحياته ومجمل مسؤوليته في الكتابة حتى النهاية.
وسيرة الشاعر سعدي يوسف الحياتية والشعرية تمنحنا مثلا شاخصا ومتعينا لما ذكرته اعلاه، فلقد تطابق حياتيا وشعريا مع حريته في اطار التجاوز الشعري المستمر وفي مقاومة المصدات والكوابح التي ارادت له ان ينحني وان يذعن لاية ارادة خارجية مهما كانت هذه الاشكال سلطوية او بوليسية او دكتاتورية، فهذا الشاعر يقف في الصف الاول من الادباء العراقيين الذين تمردوا على انماط التعسف والارهاب الذي مارسته ضده سلسلة السلطات المتعاقبة والجائرة، ويمكن الرجوع الى كتابه النثري”قفزات الكنغر “ في هذا الصدد، حيث يسرد على وجه الخصوص مأساته ازاء سلطة السبعينيات عبر الاساليب البوليسية الثقافية والمتابعة من قبل ازلام النظام السابق والمسالك التعسفية الهادفة الى اذلاله والحط من شأنه، اما في فترة الثمانينيات ابان هجرته وغربته الثانية، فقد عمدت السلطات الى منع تداول كتبه وسحبت كل مطبوعاته من المكتبات الخاصة والحكومية، فكانت مؤلفاته تروج بين محبي شعره كالمناشير السرية. فالنفي لهذا الشاعر لم يقتصر على الجسد انما جرى الامر على مستوى الحضور الشعري الهائل في الساحة الثقافية العراقية وعلى مستوى ازاحة حضوره الرمزي المعنوي الذي يشكله في اوساط المثقفين الشباب على وجه الخصوص. ففي مقتبل حياته وفي اوج تألقه الشعري غادر بلاده تحت طائلة الاضطرار والمطاردة السياسية وحصرا في بداية الستينيات وظل لاكثر من عقد من الزمان يجابه الغربة نازفا من الشعر المكابد الاصيل المرتبط مع المرحلة التكوينية الجنينية الاولى في بلاده، فظل هذا الاخير حاضرا في قصائده عبر رموز ونكهة تبعث عبر مجساته الشعرية الشفيفة التي تلامس العراق من بعيد اذ تنهض عبر مكونات شعرية متألقة وذات نبرة اصيلة ومؤثرة. وهناك التباسات كثيرة تثار واسئلة ربما تنهض عندما نتناول سعدي يوسف الشاعر والانسان، فالامر لا يحتاج الى مزيد من الجدال للاعتراف فانه يقف في منجزه الشعري في طليعة الشعراء العرب، ورغم هذا نلمس ان هناك الكثير من التهميش بل حتى اسدال الستار حول شعره من قبل النقاد ووسائل الاعلام الثقافية والنقاد العراقيون يتحملون المسؤولية الاولى قبل غيرهم على هذا الصعيد، ترى هل هو خوف من الخوض في منجز هذا الهرم الشعري، ام ان الامر يندرج في خانة التباينات الديماغوجية او هؤلاء النقاد الذين يجترون النظريات النقدية وبطريقة عشوائية متخبطة ينتظرون موته حتى تبدأ الطبول والابواق في عزفها المأساوي المعهود في كل مرة. اعتقد ان الشاعر سعدي يوسف لا يحتاج الى تعريف او تعريفة شعرية على مستوى ابعد من الرقعة الثقافية العربية، حقيقة الامر انه يعاني من موجة احسب انها مقصودة بشكل عام تهدف الى ابقائه مركونا في زاوية من الظل، فعند انعقاد مهرجان الشعر العالمي- في المانيا- في السنة قبل الماضية مثل العرب في هذا المهرجان الشاعر محمد بنيس من المغرب، ودون شك وبلا تحزب اقليمي يمكنني ان اقرر وببديهية صريحة ان لا مجال للمقارنة بين القيمة الشعرية الباهرة للشاعر سعدي يوسف  والشاعر المغربي محمد بنيس لتمثيل العرب، وهذا بالطبع من شأنه ان يعكس مدى الظلم الذي احاق بالشاعر سعدي يوسف وبالتالي مدى الخسارة التي اصابت الثقافة العربية، فكان الاولى ان تمثل من قبل المواهب الرفيعة شعريا والتي يتمتع بها سعدي يوسف، دون شك بدلا من ان تمثل بمستوى متدن من الشعرية العربية.
ان الاعتراف بـ”سعدي يوسف “ عربيا يأتي احيانا واقعا تحت طائلة الاضطرار المعبر عنه او المصرح به بصوت هامس فادونيس المتغطرس يصف سعدي يوسف بانه مهندس القصيدة العربية والكثير من النقاد وشعراء العراق والعرب يعترفون بهذه الحقيقة حتى الذين لا يطمئنون الى ذكر اسمه، فشعراء وادباء المؤسسة في النظام السابق وأكاد اجزم جميعهم يتفقون ولو سرا على اصالة هذا الشاعر في الحياة والشعر، حتى ان احد رموز النظام السابق في مجال الثقافة اصدر كتابا اسماه” الموجة الصاخبة “ كان موجها اساسا الى توصيف الموجة الستينية في تاريخ القصيدة العراقية، ولكنه عندما يتعرض الى سعدي يوسف هنا وهناك نراه يعترض على المسلك الحياتي دون التعرض الى شعرية سعدي يوسف من بعيد او قريب، ذلك لان هذا الشاعر ظل شامخا ومتقاطعا مع رغبة المؤسسة الثقافية الدكتاتورية السابقة، والمؤسس على الخنوع والتزلف للسلطة الثقافية والمركزة نحو الرمز الدكتاتوري.لقد كان ظهور سعدي يوسف في اعقاب الرواد في الشعر العراقي عند نهاية عقد الخمسينيات اي بعد نازك الملائكة ، بدر شاكر، عبد الوهاب البياتي، ولذلك نستطيع القول ان هذا الشاعر تمكن من حيازة ارث وان كان بسيطا من نزعة الحداثة والتجديد في القصيدة العربية على العموم، فاستطاع ان يزيل الشوائب والترهلات التي كانت تشيع الى حد معين في قصائد السياب والبياتي، وقد تجسد هذا في مجموعته المهمة”بعيدا عن السماء الاولى “ الصادر في اواسط الستينيات حين كان يقيم في المغرب العربي”الجزائر “.الجملة الشعرية عند سعدي يوسف تبدو مفصلة، محايثة، تماما مع الرؤية وهي مختزلة الى حد بعيد، وهي جملة تطابق مقولة المتصوف العربي الكبير”النفري“: اذا توسعت الرؤية ضاقت العبارة “ فمن الصعوبة ان نعثر على مكان رخو في جملته، حتى الحرف يأتي في مكانه المشتغل عليه طويلا، ولذلك يمكن القول بان سعدي يوسف هو من كرس مفهوم الريادة بشكلها الحقيقي للقصيدة العربية من خلال بلورة معالمها وشروطها الفنية وبشكل ساطع وفاعل ومتعين، فهو مثلا انهى تماما مخلفات وقع القافية التي تخيم على شعر نازك الملائكة والسياب، وابتعد عن الترهل والتشتت الذي شاع في تلك الفترة واكد بقوة وحدة القصيدة، وراح يكثف رؤاه الشعرية عبر اشكال متعددة منها تكرار اللوحة الصورية للقصيدة بغية تثبيت التوازن المطلوب بين الصورة وبين الرؤية عبر لغة موحية، متوهجة، وحتى لا يغيب عن بالنا ينبغي ان نؤكد على صفة المحلية في قصيدة” سعدي يوسف “ فشعره يستنكف من المطلق والمجرد فهو لا يهبط من النظري المؤدلج الى الواقع، انما على الضد من ذلك استطاع ان يرتفع بالمحلية وحتى حالتها المترسبة في الذاكرة عند سنوات الغربة الطويلة، فهناك خيط لا ينقطع بين اشيائه الاولى وتشكيلاته الشعرية.
كما انه بمقدور الشاعر سعدي يوسف شأنه شأن الشعراء الكبار مثل”ريستوس” اليوناني ان ينهض بالاشياء المهملة او الصغيرة ليرتفع بها الى مستوى الشعري لتبدو في موقع مقصود لدى المتلقي. نشر الشاعر سعدي يوسف في فترة السبعينيات قصيدة في جريدة”طريق الشعب “ اسماها” الخيط “ فاحدثت القصيدة التباسا واسع النطاق آنذاك، ففي ذاتها كانت تحمل الملابسات وفيها الكثير من ابعاد التأويل، فالبعض وجدها نوعا من الترف الشعري الذي يقصد ابراز المهارات الفنية او انها وضمن تأويل اخر تحمل المزيد من الغموض غير الضروري خصوصا عند معطيات المرحلة تلك، وواقع الامر ان القصيدة تحمل كل مواصفات الشعر في الفن والرؤية، وقصة القصيدة ان طفلا يلتقط ورقة  مهملة في الطريق ، ثم يربطها بخيط لتنطلق في الفضاء فتظل هذه الورقة موضع اهتمامه.. هنا الشاعر بلغ امرين الاول ان الاشياء المهملة يمكن ان تتعرض الى فعل او منطق الصيرورة والتحول، والامر الثاني يمكن لاي انسان ان يبلغ ولعه الخاص حتى في اشياء هي متناثرة هنا وهناك، وهكذا يتبع المنطق الجدلي بين المهمل وبين المولع به او موضع الاهتمام والقصدية، وهنا استطاع الشاعر بمهارة شعرية باهرة ان يصنع مادته الشعرية من اشياء هي حولنا وربما تكون صغيرة ومهملة او معمورةاو بعيدة عن مسار او منظور الوعي العادي.
ان فعالية سعدي يوسف وعلى مدى تاريخه الشعري والشخصي تنتمي الى هذا الارتباط الشديد اللا منقطع مع افق الحرية.لقد تم الاحتفال في مصر احتفالا وطنيا بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، لقد ساهمت وسائل الاعلام المصرية وبجهد كبير في تقديمه الى المحافل الدولية وكذلك جرى الامر بالنسبة الى بهلوان القصيدة العربية” ادونيس “، اما الشاعر الكبير والذي ظل محروما من بلاده ومبعدا لفترة زمنية تمتد لنصف قرن تقريبا فقد ظل في الظل، حتى ان النقاد العراقيين لم ينصفوا هذا الهرم الشعري الكبير بدراسة متخصصة او بحث او كتاب وهذا يعد تفريطا بثروة ثقافية وطنية كبيرة .