توضيحٌ للأصدقاء طباعة

د. جابر عصفور
أجرى معي الأستاذ محمد شعير حواراً مطولاً لجريدة «أخبار الأدب» القاهرية، وذلك بسبب انتهاء عملي أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وابتداء عملي مديراً للمركز القومي للترجمة. وهو الحلم الذي ظللت أعمل لسنوات عدة إلى أن تحقق وأصبح واقعاً لا خيالاً. وكان من الطبيعي أن يتعرض الحوار لأنشطة المجلس الأعلى للثقافة من ناحية، ولملتقى القاهرة للإبداع الشعري الذي منح جائزته الأولى للأستاذ محمود درويش عن جدارة واستحقاق بشهادة الجميع من ناحية

 موازية. وتطرق الحوار إلى الشعراء الذين تضمنتهم القائمة المختصرة التي تولى إعدادها مختصون من النقاد، وقبلتها لجنة التحكيم من دون إضافات. ولم يكن سراً على الكثيرين أن الأسماء التي تركّز حولها اختيار اللجنة، واعتمدتها من دون غيرها، كانت ستة أسماء، هي: أدونيس، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وسعدي يوسف، ومحمد عفيفي مطر، ومحمود درويش، ونازك الملائكة. واختارت اللجنة الاقتصار على إنجاز هذه الأسماء، لا عن تفضيل مطلق لها على غيرها، وإنما عن تمثيل وموافقة للمعايير التي أقرّتها اللجنة، وتكررت المناقشات والاجتماعات، مع عمليات التصويت التي صحبت المناقشات في كل جلسة، وكانت الغالبية في كل مرة للشاعر محمود درويش، يليه أدونيس، وسعدي يوسف الذي تعادلت أصواته في الدورات الأولى مع أحمد حجازي ومحمد عفيفي مطر، ثم ارتفع عدد أصوات محمد عفيفي مطر الذي بقي في مدى المنافسة إلى النهاية، لكنه لم يحصل، أخيراً، إلا على أصوات أقل بالقياس إلى الأسماء الثلاثة الأولى. وأصبح مؤكداً من محاضر اللجنة تفوق محمود درويش في عدد الأصوات في كل مرة، إلى أن انتهى الأمر بالحسم النهائي الذي جعل الجائزة من نصيبه وحده.
ولم يكن من المستغرب أن يلقى الخلل الثقافي الذي نعيشه في مصر بظلاله على لجنة التحكيم حتى من قبل أن تبدأ، وقيل إنني اتفقت مع محمود درويش على الحضور لنيل الجائزة، وتشكيل لجنة مؤلفة ممن ينتهي حكمهم إلى فوزه المؤكد، كما لو كان محمود درويش في حاجة إلى جائزة، وهو الذي تشرف به أية جائزة ينالها. والحق أن محمود درويش قبل الدعوة إلى الحضور، بعد أن اعتذر عنها اعتذاراً رقيقاً للمرة الأولى بسبب ارتباط سابق. لكنه عندما علم أن ملتقى القاهرة للإبداع الشعري هو آخر الملتقيات الكبرى التي أشرف عليها، قبل تركي موقعي في أمانة المجلس الأعلى للثقافة، قرر الحضور والمشاركة. ولم يكن في ذهنه جائزة هو أكبر منها مهما كانت، ومهما بلغ اضطراب الخيال المريض ببعضهم. أما أدونيس، فقد ألححت عليه أكثر من مرة بضرورة الحضور، وأرسلت له أكثر من دعوة، لكنه اعتذر في النهاية، لأنه لم يستطع أن يتراجع عن ارتباط مسبق مع بعض إخواننا في المغرب. وكان سعدي يوسف كريماً أصيلاً منذ اللحظة الأولى، فتقبّل الدعوة بأريحية المحب وعفوية الصديق. وكان البعض يعلم، مسبقاً، أنه لا يمكن حضور هؤلاء الثلاثة على وجه من أوجه التخصيص إلا بدعوتي الشخصية، وذلك لما لهم من مكانة متميزة، ولما لي من مكانة خاصة عندهم جميعاً، ولأسباب أخرى لم تكن خافية على ذوي الفطنة من المتصلين بلجنة الإعداد في لجنة الشعر التي يترأسها الشاعر أحمد حجازي.
وابتدأ الملتقى أعماله، واكتمل بحضور محمود درويش وسعدي يوسف اللذين تألقا كالعادة، وظل كلاهما جاذباً لأصوات لجنة التحكيم التي كانت تضم صلاح فضل ومحمد فتوح أحمد ومحمد حماسة عبداللطيف ومحمد بدوي من مصر وريتا عوض وشربل داغر من لبنان، ومحمد شاهين من فلسطين - الأردن، وعبد النبي اسطيف من سورية، وحمادي صمود من تونس، وعلوي الهاشمي من البحرين - وكلها أسماء مختلفة الاتجاهات والميول، ويصعب إجماعها، أو اتفاق غالبيتها إلا على قيمة إبداعية لا جدال في ارتفاع شأنها وتميُّز إنجازها. وظلت اللجنة تعمل في حرية مطلقة وجلسات مغلقة، إلى أن انتهت إلى النتيجة النهائية باختيار محمود درويش الذي كان اختياره مبعثاً لفرحة وتقدير واستحسان حضور الجلسة الأخيرة الذين كان تصفيقهم العاصف بمثابة تصديق على قرار اللجنة. وانتهى المؤتمر، ولكن لتبدأ أصوات النميمة الصغيرة من ذوي النفوس المريضة. ولكن الزّبد يذهب جفاء في النهاية. وهو ما حدث بالفعل، وبقي للمبدعين العرب من الشعراء الأصلاء، حقاً، فرحتهم بحصول درويش على الجائزة نيابة عنهم، وتكريمهم جميعاً في حضوره الإبداعي الذي هو حضورهم في نهاية الأمر. ولا يعني ذلك أن ملتقى القاهرة للإبداع الشعري كان يخلو من أي خطأ، أو من تقصير، فقد كانت فيه بعض السلبيات التي استحقت النقد، والتي نبّهنا إليها - بما يفيد في تجارب قادمة - العقلاء من أمثال سعد البازعي الذي أسهم بالحضور والمشاركة، وضخّم منها الذين بينهم وبين لجنة الشعر في مصر ثارات وإحن، بحق أو غير حق.
ومنطقي أن يتناول حوار محمد شعير - في «أخبار الأدب» - الأسماء التي دارت حولها لجنة التحكيم، مركّزة عليها أكثر من غيرها. وقلت - في عفوية الحوار وشفاهيته - إن محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف الشعراء الثلاثة الكبار في الوطن العربي. وسألني المحاور: كيف تحدد الشاعر الكبير؟ فأجبت بأنه الذي لا يتوقف عن الإبداع، ويتجدد دائماً، ويبحث عن وسائل تعبيرية جديدة، ويفكر في خرائط وقارات إبداعية لم يطرقها هو أو غيره من قبل. وكانت الإجابة كلها عفو الخاطر، من دون إعداد مسبق، أو تأمل طويل، وفي سياق الأسماء التي كانت تتردد في اختيار لجنة تحكيم ملتقى القاهرة للإبداع الشعري. وكنت أقصد - حتى مع هذه العفوية - أن التجديد لا تنفصل أسبابه التي لا بد من توفرها في وقت واحد، فلا تتجزأ أو تتبعض، فالشعر يظل عملية كشف لما هو في حاجة إلى الكشف، كما عرّفه أحد شعراء العالم البارزين، ولا فاصل بين دلالة هذا التعريف والبحث عن وسائل تعبيرية جديدة، أو التفكير في خرائط وقارات غير مطروقة لا يكف الشاعر عن اكتشافها في نفسه، وفي العالم على السواء. ولا فاصل بين هذا كله والإخلاص الدائم لتوهج شعلة الإبداع التي يقهر بها الشاعر الموت المقترن بالخمول والعقم والجدب، أو حتى الاحتباس الإبداعي. ولا أظن أنه من الممكن التسوية بين شاعر يواصل عراكه مع المستحيل وشاعر يتوقف عن الكتابة، راضياً أو راغماً، لسنوات تقترب من العشرين.
ولم أكن أقصد إلى أي معيار كمي، فأنا أعرف، مثل غيري بالقطع، أسماء شعراء دخلوا التاريخ الشعري بقصيدة واحدة لا غير، وأعرف كذلك أنه يمكن لمبدعين - مثل نجيب محفوظ - أن يتوقفوا لسبع سنوات مثلاً، إلى أن يعيدوا اكتشاف علاقات الواقع، وشعراء لم يتسع لهم مدى الإنجاز المكتمل الدائرة، كالشابي التونسي، والهمشري المصري، والسياب العراقي، ورامبو الفرنسي... إلخ. لكنهم تركوا لنا ما يجعلهم كباراً دائماً، وما يجعلهم نماذج تُحتذى، في مدى القيمة الإبداعية التي لا ينقضها الزمن. وأخيراً، لم أقصد بذكر الشعراء الثلاثة نوعاً من استخدام أفعل التفضيل على نحو مطلق، وإلا فكيف أغفل أنسي الحاج والماغوط وغيرهما وأنا الذي أعلم بقيمة كل منهما وقيمة أقران لهما، ولكنني اخترت من اخترت على أساس من القيمة التي تميزهم عن غيرهم، فيما يرتبط بسياق محدد، وعدد بعينه من الشعراء الذين كانت لجنة التحكيم تتداول أسماءهم، من بين الشعراء الأحياء الذين كانت اللجنة توازن بينهم. ولماذا لا أكون أكثر صراحة، وأقول: إنني أعتقد أن كل اسم من أسماء الثلاثة الكبار الذين خصصتهم بالذكر أكبر في القيمة، من حيث الإنجاز الإبداعي، من بعض الذين لم أذكرهم من الأسماء التي تداولتها اللجنة، وذلك لمبررات يمكن بسطها وعرضها. ولا يقلل ذلك من وجود الشعراء الكبار والشعراء الاستثنائيين في أقطار الإبداع الشعري وأقاليمه العربية. ولا داعي للتسمية في هذا المقال. والأهم من التسمية، هو ما ألاحظه، إذا انتقلت من خاص الحوار إلى عموم التأمل، أن إحدى مشكلاتنا النقدية تتمثل في أننا قَصَرْنا النقد الأدبي على عملية واحدة أو اثنتين على أكثر تقدير من عملياته الثلاث، فالنقد تحليل وتفسير وتقييم، وقد أصبح الكثير من النقد يكتفي إما بالتحليل أو التفسير، أو كليهما معاً، لكن لا يقترب من التحديد الصريح للقيمة بسبب أنواع من القمع المباشر أو غير المباشر في حالات كثيرة. وقد ترتب على ذلك اختلاط الأوضاع، وتصور الصغار أنهم كبار، وتصوير الكبار على أنهم صغار. وزاد الأمر سوءاً تحول النقد إلى سلاح رخيص من أسلحة تهجّم عدد من الشعراء الصغار على أقرانهم، أو تهجمهم على القيم الكبيرة، ظناً منهم أن تشويه سمعة الكبار يفتح لهم الطريق الخالي من الكبار. والأمثلة على ذلك دالة وكثيرة، خصوصاً فيما أصبح يُعرف باسم «الدكاكين الصحافية» التي قد يتولاها أشباه كُتَّاب لا وزن لهم في ميزان القيمة، ولا همّ لهم إلا في توظيف المساحة المخصصة لهم في جريدة أو مجلة، فيما يعود عليهم بالنفع بكتابة لا علاقة لها بالنقد الموضوعي.
وقد أصبح هؤلاء ظاهرة تقتات على السّباب وتخويف المسؤولين الثقافيين - المهزوزين أصلاً - بحثاً عن مغنم رخيص بنشر ديوان لا يستحق النشر، أو الحصول على مكاسب عينية نراها ونسمع عنها، فلا نملك إلا التحسّر على زمن جميل مضى، استبدل به الحاضر المنكسر زمن الصغار الذين يزدادون صغاراً، مهما كبروا، بزمن الكبار الذي لم يزدهم تعاقب الزمن إلا علوا في القامة والقيمة. ومنطقي أن تتسلل طبائع الاستبداد من السياسة إلى الحياة الثقافية، فيتعصب كل فريق لما يمثله، متصوراً احتكار الحقيقة الإبداعية، ويتحول بعض الشعراء الشواعير والنقاد الجامدين إلى أصوليين يرفضون حق الاختلاف، أو تقبّل الآخر أو المغاير، فلا اعتراف عندهم إلا بالشبيه أو المثيل، ولا تسامح يسم علاقاتهم بالمغايرين الذين سرعان ما يتحولون إلى أعداء.
هكذا، شهدنا - في وقت من الأوقات – «الأدونيسيين» من مقلدي أدونيس الذين لم يقلّدوا أخلاقه، فأصبح كل من ليس أدونيسياً عدواً، وكل من لا يفهم الحداثة على طريقة أدونيس تقليدياً ورجعياً، يستحق الاستئصال المادي أو المعنوي. ولا أزال أذكر المقالات التي كتبها بعض الذين أصبحوا شواعير أصوليين ضد أمل دنقل، عندما احتفل المجلس الأعلى للثقافة بذكراه العشرين، بل لا أزال أذكر مقالات هؤلاء عن صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، تعصباً وتقرباً من شبيه وهمي أو مثيل مفترض. ولم يفارق ذلك كله تحول الاختلاف إلى حرب ضروس، والتبجّح باحترام الاختلاف باللسان، في الوقت الذي لا يعترف به القلم أو تحترمه الممارسة.
ونتج عن ذلك أمران اقترنا بمناخ العنف الذي يسود الحياة الثقافية المصرية على الأقل: أولهما غياب القضايا الكبرى من الحوار الثقافي، فلم يعد الزمن زمن المناظرات الراقية التي جمعت ما بين طه حسين وهيكل من ناحية، والعقاد والمازني من ناحية مقابلة، سواء حول تقابل اللاتين والسكسون، أو حول التقاليد التي كان يدافع عنها أمثال محمد عبدالمطلب الشاعر والرافعي الناثر، في مواجهة دعاة التجديد من أنصار الثقافة اللاتينية والسكسونية على السواء. وحلّ محل القضايا الكبرى قضايا صغرى بين إخوة أعداء، ما أتفه أسباب العداوة بينهم! ويترتب الأمر الثاني على الأول، ويؤدي إلى غياب التنوع الخلاّق، واغتناء المشهد الثقافي بالحوار السمح بين التيارات المتحاورة لا المتنابذة، المرنة في قبول المغايرة لا الجامدة العدوانية في مواجهة الاختلاف. والنتيجة تحوّل النقد الأدبي - في حالات عدة - إلى مجاملة ومدائح في حالات الأشباه أو «الشِّلل» أو الأحلاف وسباب وتهجّم في حالات الأغيار المخالفين المختلفين، وهو وضع محزن لا مستقبل واعداً إلا بتغييره.

اخر تحديث السبت, 10 نونبر/تشرين ثان 2007 12:40