سعدي يوسف.. تجلّيات اغترابٍ أندلسيّ طباعة

          يفصح شعر سعدي يوسف, عبر دواوينه المتتابعة, عن درجة أبعد عمقًا وتجاوزًا, من شعر موجة الرواد الأول الذين سبقوه إلى موضع الصدارة في ديوان الشعر العراقي الجديد: نازك والسياب والبياتي والحيدري. قصيدة سعدي تتوهج بمزيد من الإحكام والنقاء, والانشغال الدائم بفنّيتها وجعلها ذات حضور دائم, ونفاذ أعمق إلى الوجدان.
          الشعرية في كل ما يقول هي همه الأساسيّ, ومعاودة النظر فيما حققته هذه الشعرية من لوحات وصور ورؤى نادرة, هي ما يضمن له باستمرار اقتحامًا لفضاءات لا حدود لها, وإرهاصًا بجديد يوشك أن يتخلّق ويتشكل.

          ولأن الغربة هي لحن سعدي يوسف الأساسي, فقد نجح في أن يعزف عليه تنويعات شتى من أنغام الاغتراب والاستلاب والحلول في المكان, والانسلاخ من الزمان, واستدعاء جذوة (التراث) الكامنة تحت الرماد, وإيقاظ الحسّ العصري بشحنات صادمة من الدلالات التي تفجّرها قصيدته المتدفقة كالنهر الهادر, يجرف في طريقه كل شيء, ويحمل سطحه كل ما حملته ذاكرته, وهو يمعن في اختراق الجغرافيا والتاريخ معًا. عندئذ يصبح الكون الشعري صغيرًا, في حجم قبضة اليد, وتنهار الحدود والمسافات بين العراق والجزائر والأندلس, تحت سنابك حصان الشعر الجامح, تُرى أيهما الحصان الحقيقي, الشاعر أم قصيدته? وأيهما الأسد الحقيقي: (الشاعر أم جواده?:

ولمّا ركزْنا بالعراقِ رماحَنا
تدافع من أدنى منابتها الصبْحُ
تعالوا إلينا: متعبين ورُمّضًا
تعالوا إلينا: إنه الأمل الجرحُ
أقيموا, وكونوا الماء يمنع نفسه
وكونوا رماح الماء إن أورق الرمحُ
لكأن وجهك في يديّ سحابة أولى,
بياض منازل العمال في سفح الجزائرِ
لهفة الأعلام وسْط الساحة الحمراءِ
وجهُكِ في يديّ حمامةٌ
حين التقيْتُكِ كانت الآبار طافحةً
وفي حقل الشمال أحبّك العمالُ
هاهم عاشقوكِ يغازلونكِ:
(حلوة
يا حلوة
ركضنا اليوم للجلوة
ومن كركوك جيناها
من كركوك والبصرة
جينا اليوم للحلوة
جينا اليوم للحلوة)

          وحين يبرق وجه (سيدة النهر) في خضمّ هذا الانهمار الشعري المتدافع, يقول سعدي يوسف:

توهمت أنك زاويتي,
والمدار الذي يقف النجم فيه
توهمت نخل السماوة, نخل السماوات
حتى حسبْتُكِ عاشقةً
فانتظرتُ النهار الذي يطلع النجم فيه
توهمت
أوهمت
لكنّ أرضية الوهم يغسلها ضابط ملكيّ
تلبّسَ عينيْكِ
سيدةَ النهر!
هم يعشقون ولا يملكون
ولكنهم حينما تغرقين
يمدّون كلّ الخيوط التي قطّعتْها احتراقاتهم
أنّ كلّ الزنابق في الماء لم تنتظر مثل عُرْسِكِ
طافية أنتِ
بين الخيوط التي قُطّعت وانتظار المدار

          وتحين لحظة عبور (الوادي الكبير) والوادي الكبير اسم عربي مازال محتفظًا بحقيقته العربية في اللغة الإسبانية حتى اليوم, شاهدًا على الشمس العربية التي غربت وغابت عن الأندلس, يقول سعدي يوسف:

بعدنا عن النّخْلِ
هاهي شمسُ القرى تمنحُ النّخْلَ
غابًا من الريش أحمرَ
هاهي أكواخنا:
- سعفة نستظلّ بها أو وقودٌ لبغضائنا -
كلّها تهبط الأرض,
كوخًا فكوخًا وتلقي بها الأرض
للماءِ
كنا نمدّ لها شعر أطفالنا
سروةٌ شعر أطفالنا
أمسكيها
أَمْسكينا بها
غير أن المنازل مثل الطباشير تُمحى
من الأرض تُمحى
وفي الماء تُمحى
وهانحن بين المدى والسماءِ وحيدينَ
يا أرضنا المشتراةَ المُباعةَ ثانيةً
أنتِ يا وجه من يتذكّرُ منها شهادة ميلاده!
بعدنا عن النخلِ
هاهي شمسُ القرى تمنح النّخْلَ غابًا من الريش أحمرَ
هاهي شمسُ القرى تمنحُ النّخْلَ غابًا
هاهي شمسُ القرى
هاهي.... هي
كواكب مائية في السماء التي تعرف الصيف
والسفن الأمريكية الصُّنْعِ
- في المتوسط لا تستحم الكوابح
- هل تذكرين المنازل?
- تلك التي غادرتْها السفينة?
- لا
- حانةُ البحر في أُورَ?
- لا
- دارتي في سمرقند?
- لا
إن كل المنازل مغلقةٌ, فأمام الوجوهِ
الشريدةِ لا يفتحُ الناس أبوابَهم قد نسينا بقرطبة الشرفةَ الأُمويّةَ
والطفلَ, حين نسافر ننسى الحقائبَ
أو نتناسى متاعبَ وكتابَ القصائد
يأيها الفارس المستحيلُ: تظلُّ المسافاتُ
تنأى, وفي مُقلتيْك تغور الشواطئ
لا تكتئبْ فالحوافر فيها الشرار, وهذا السبيل الحِجار...
(ولكننا قد بعدنا عن النّخلِ
آخر رايات كولمبس المستدقة
تُبحرُ من برشلونة
وآخر أبراج غرناطة اقتحمتْه خيول الشمال تصيرُ المسافات لي راية, إنّ أهلي بعيدون
لا تحمل الطير أخبارهم لي, ولا تحمل الطيرُ أخبارنا
لهم, يا جناح الليالي الطويلة, كن موطني والكتاب الذي ليس يُطبع, كن في مقاهي المحبين.
دورة شاي, وفي شفتي من أُحبّ: الشقائق والرجفة المستسرة.. كن يا جناح الليالي الطويلة نجمي, لقد ضيّع القطب نجم الهداة, ولكنّ أهلي البعيدين ما برحوا بانتظاري.
- إلى أين تذهب يا فارس الليل?
- أهلي بعيدون سيدتي.
- إنني بانتظارك منذ ليالٍ ثلاثٍ..
علمت بأنك آتٍ أتنزلُ?
- سيدتي.. حين أنزلُ أقتلُ
- تُقتلُ في منزلي?
- آه سيدتي.. إنني متعبٌ, غير أني
وداعًا
وداعًا
***
وغادرتُ منزلها, كان في بابه القرطبيّ صنوبرة كنتُ أسمع نبض العصافير إذ تتنفّسُ نائمة بين أفنانها والنجوم الخفيضة.. أحسسْتُ أنّ العصافير سوف تموت صباحًا.
***
حين ناديتُه: فارسَ الليلِ أرخى العنانَ قليلاً, كثيرون مرّوا ببابي, ولكنني لم أجدْ مثله, شاحبا كان, ظمآن لكنه رفض الماءَ من جرّتي.. لم يقف مثل فرسان قرطبة الآخرين يغازلني.. قال شيئًا وسار.
على باب جيّان في قرطبة.
رآه الندى يدخل المسجدَ المتوحّد, في آخر الليل كان الندى خُصلاً في جبين المسافر, والليل إغماضة في عيون الجواد, وكانت نوافذُ قرطبة المشرئبة بالورد تنتظر الخطوة الملكية.. ألقت نوافذُ قرطبة الورد, غطْت به غبرة السّفر المستديمة فوق قباء المسافر, والتعب المُرّ في لَفتاتِ الجوادِ.
وفي لحظتينْ رأيناه يخرجُ من بابِ مسجدنا أغلقَ البابَ. سمّرها دوننا, تحت إغضاء عينيه ثم اعتلى صهوة الفرس المتمايل بين غصون الصباح المبكرة الطير, والنّسوة المسرعات
وكانت ورود المسافر تهطلُ, والنسوة المسرعات يُخبئنها في صدور الصبايا.
ذهبتُ إلى السوق, كنت غريبًا به, مُتعبًا والتّجار
يدورون حولي
يقولون لي: نشتري منك هذا القميص
وكانوا يمدّون أيديهم نحوه:
نشتري منك هذا لقميص الملطّخ
لكنه رايةٌ لبستني غداة الهزيمة
***
جوادي على الوادي الكبير, ورايتي
بغرناطة الأبراج, يكنزها الصخرُ
فلا تسألوا عني وعنها, فإننا
لها آخر العشاق, والهاتف السر
لقد كان لي فيها أنيسٌ, وإنّ لي
أنيسًا بها, حتى لو اجتاحها العصر
وغيّب ما بين القلاع وسهْلها
كتائبها العشرون والسّامر البدْرُ
(إذا عَلَمٌ خلّفْتَهُ يُهْتدى به
بدا عَلَمُ في الآل) أشقر مُفتر
فشدّ على كفي, وأطلع زهرة
من الصدرِ
عند القلبِ
وانهمر الزهر
***
قميص لكلّ المشترين أبيعهُ
وسيْفي
وعيْنا جوادي
أنا الآن منجردٌ بينكم
فاحملوا كلَّ ما يُشترى
- هل خسرتُ سوى عبء أغلالكم -
علقوا فوق جدران قاعاتكم غِمْد سيفي
وعيني جوادي الجميل
اجعلوا من قميصي حديث اجتماعاتكم
- هل خسرتُ سوى عبء أغلالكم?
واتركوني وحيدًا
دعوني أقلْ ما أشاء
دعوني أكنْ من أشاء
دعوني أمتْ, أو أعش نجمةً
فغرناطة العشق عريانة, وحدها
إن غرناطة العشق عريانة وحدها
***
          هذا شعر يكتنز كثيرًا من الدلالات والإشارات والإيحاءات والمعاني, لابدّ من معاشرتها واحتوائها طويلاً حتى تُفضى وتبوح. وهو شديد التكثيف والتركيز, خلا من الترهل الذي وقعت فيه قصائد البدايات الأولى في حركة الشعر الجديد, والهشاشة التي اتّسمت بها, فلم تنجح بعض قصائد هذه البدايات المهمة - لدى شعراء الموجة الأولى في إنجاز معمار بنائي مهيب, باستثناء قصائد السيّاب, الذي مثلت حركة الشعر الحر بالنسبة لإبداعة كلاسيكية من طراز جديد, عمّدتها فخامة البناء التقليدي للقصيدة العربية, وجلجلة إيقاعه, مسقيّة بحساسية التناول الجديد والكيمياء الشعرية الجديدة.

          والأزمنة في هذا النموذج الجميل من شعر سعدي يوسف متداخلة ومتصادمة, واستدعاء المخزون التراثي تلفحه مواجهة الواقع بمكتسبات جديدة, ورؤى وخبرات محدثة, ويصبح لهذا الشعر مذاقه الفريد, وشجنه الكونيّ الخاص, ولفح غربته أو اغترابه, في وطنه وفي غير وطنه, منذ أن غادر فضاءه الحياتي الأول في قضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة بالعراق, وانتهاء بالعديد من العواصم العربية وغير العربية. الترحال دائم والحريق مستمرّ والسؤال - المطروح سُدى - يتولّد عنه سؤال بعد سؤال.

          الجِدّة في هذا الشعر, والفضاء الشاسع الذي يحملنا إليه ويُحلّق بنا فيه, والعلاقة الحميمة مع الإيقاع واللغة, وأمطار الشجن التي تنهمر في كل مقطع وتتجمع في كل مُنْحنى, كلّها خيوط جمال تتجمع وتتآزر, صانعةً هذا النسيج الشعري البديع, في إبداع شاعر حقيقي, وبناء عظيم.