في الأسبوع الأول من شهر أبريل 2006 كان الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف ضيفا على مدينة مكناس وفضاءاتها طباعة

وساهم في جلسة الحوار: محمد أمنصور وكمال التومي.
 بدعوة من المعهد الفرنسي ومجموعة البحث" أكاديميا: التعدد والاختلاف" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس، واستضافه فرع اتحاد كتاب المغرب بمكناس بالمناسبة.
وكان لسعدي لقاء مع طلبة كلية الآداب يوم 02 أبريل 2006 حيث قرأ بعضا من قصائده، بصحبة صديقته "أندريا" التي أضفت بمساهمتها في قراءة قصيدته " أمريكا.. أمريكا" بعدا إيقاعيا وجماليا وموسيقيا فريدا إلى القصيدة وطقسها الخاص.
وكان اللقاء الثاني مساء يوم 04 أبريل بالمعهد الفرنسي، حيث قرأ سعدي، وقرئت بعض نصوصه المترجمة إلى الفرنسية.

وخلال اللقاءين معا كان هناك حوار بين الشاعر والحضور، وكانت الأسئلة كلها متصلة بمعالم تجربته الشعرية ومقوماتها ومنعطفاتها وخصوصياتها الفنية والجمالية، وقد اتسع صدر سعدي لكل الأسئلة، ووسعت هذه كل فضاءات شعره، التي أضاءت وداعته الكثير من أرجائها وجهاتها.
وفي اللقاءين معا ألقى سعيدي المولودي كلمة التقديم التالية:
الإنجاز الشعري لسعدي يوسف كون فسيح، مسكون بالرغبة الدائبة في إشاعة الواقع، وكتابة تفاصيله ودقائقه، إنه شاعر مهادن بقدر ما هو شاعر متمرد، ينبض ويحلم بالفوضى، الفوضى الجميلة للشعر، التي تناجي موقد الحقائق وترقص على النار.
في كل كائنات تجربته يتقدم نحو اجتراح المفارقات، نحو حدة معانقة ارتطام الحقائق ببعضها، له أسطورته الخاصة، له نخيله، ماؤه، سقيفته، حلمه الأخضر، الأحمر، يتسع لكل الغربة ولكل هذا الزمن وما دار.
كل مكان له فيه خطوات، ومداد الأيدي المتعبة، والذكريات المضمخة بالحنين، باليأس واللهب، وتاريخ الغربة، والصدى الدفين، لحطام من خطوات تترقرق في بردة الهباء.
سعدي بلا بلد.
وانتماؤه لكل الأرض، هذه الأرض، التي يقول عنها دائما إنها ليست عادلة. وما أوحشها.
من برودة الصحراء السامقة يخرج سعدي لمنتهى الأحلام، لا جمل لديه، ولا سفينة، ولا خيمة، ولا منزل، وحيدا يرفع سبابته في وجه التاريخ ليسأله: أين المأوى؟محملا بمرارته يمضي، تاركا في هذه الأرض بذورا من النور، ويسأل طريقه الطويل، الطويل، كيف يصد الحنين. إن سبيله الفلوات، كما يقول، وخطواته لبيت اسمه المستحيل، يشبه الخريف، ويبحث عن ظل لا تبتل به الشفتان.
هذا هو سعدي، الشاعر الممطر. الداخل في بهو الغربة المفتوح، ملتصقا بهوى الأرض الجريحة، أرض العراق المتعبة، المثخنة بطلقات الأعداء، وتشق طريقها نحو الهاوية.
قبل سبعين عاما أو يزيد، كان سعدي يمضي نحو أمواجه الثابته، يصرخ في وجه هذا البوار، ما أبهى المطر، ويكتب جرح المسافات في تهاويل العمر.
إني رفيق الضباب، هكذا يقول سعدي، هابطا كالحجر ليمضي إلى ما يريد الضباب. هل نستطيع أن نتحدث عن سعدي دون أن نقرأ هذه الأرض التي ترتكب النسيان، ولا تصغي لدقات القرب، ونبض الجمرات، والعشب المتطاول.. لنقل إنه يصلي وحيدا، إنه لا يمهل الريح، ويشتعل حتى الرماد. هكذا يقف في وجه الأرض، وفي وجه القصيدة، وفي وجه الجراح، ويعزف على كمانها.
في سيرة سعدي، كما في لغته حطام من طفولات جالسة على هوة الفقر، ترفع عقيرتها في ضواحي الصمت، وتكتب ميلادها في أفق خال مأهول بالواقع، والبقاع المهجورة.
يلمس سعدي رائحة هذا الكون ويصعد بها للذروة، ويظل محدقا فيها على الأرض عرين الذكريات المسكونة بضجيج الصمت.من أبي الخصيب جنوب العراق الدامي، جاء سعدي يقتات العتمات، ويلوذ بالنار، قابضا على جمر العبور ويحفر نهره ليذرع مملكة تستريح فيها القوافل القديمة. من حلمه يغطي ذاكرة العمر، العمر النائم في ظهيرة الوحشة، وشظايا النسيان. ويرتدي صمته دائما، يهتف بقارة تستريح على راحته، شمسا بين الضلوع، وتذهب عاليا في انتشار الأعماق وامتداد الضفاف..
سعدي يوسف، شاعر تفاصيل الجراح، يجلس في الشارع أو قطار الضواحي، أو مقهى على البحر أو الجمر، ويفاجيء رمل القلاع، كل شيء له لونه، وكل الأشياء بلا لون.
يقرأ سعدي الجرح الفاصل بين الموت والحياة، بين الشارع والبحر، بين الرصيف والهدوء المتاح، وينادي طفولة الطفل الذي يسكن تلك القرية الهاربة من يديه مذعورا.
سعدي شاعر حزن، له الدهشة، والموجة والصيحة، وراياته الحمراء التي تتقدم اللحظة فالأخرى.
زمانا كان الأخضر بن يوسف، اسمه الضائع في ذرات الروح، الذائع في المآذن والممرات، وما زال يتسلل إلى خرائطه، كأنما يأتي إليه من قمر مجهول.
سعدي قاريء مدائن تنطوي على فيض من العبور أو اليباب: البصرة الخضراء، بغداد، بيروت، باريس، عدن، تونس، دمشق، باتنة، مراكش... يرتع فوق غصونها ويرعى شرفاتها..
سعدي شاعر منفى، يصر إصراره الأبدي على أن العالم ما زال يتسع صدره للقصيدة، وثمة دائما جحيم يتنفسه، ويخطو على مقبرة من غرباء، يهتف بهذه المفازات: أين الغراب؟
لكل شيء في شعر سعدي يوسف فصاحته، وبلاغته، ونبرته دائما حبلى بالنور، والخصب الذي لا يموت.
سعدي يوسف أخيرا: شاعر فقير لا يلزمه غير قليل من الماء وقليل من خبز.
سعدي يوسف صديقنا الآن أعطانا هذه اللحظة الطائرة، فمرحبا به.
ــــــــــــــــــــــــــ
وبالمناسبة كانت لنا جلسة الحوار هذه مع سعدي.
ـ سعدي ماذا بقي من البصرة موطنك الأول ومن ذكرياتها، وماذا يمكن أن تفعله بهذه الذكريات في هذا الوقت بالذات؟
ـ منذ أمد لم يبق من البصرة لدي سوى ذكريات، وهذه الذكريات مرتبطة أساسا بفترة الطفولة والفتوة الأولى. هذه المشاهد أو الذكريات المرتبطة بالطفولة وفتوتي الأولى لم تبهت مع مر السنين والأحداث بل ازدادت صفاء، ربما. والآن أنا أستعملها بين الحين والآخر بحرص شديد، على أن أغرف منها ما أستطيع استخدامه في النص كعامل فني، يؤدي وظيفته في النص. وبمعنى آخر آخذ من هذا الكنز ما يفيدني وظيفيا في النص..
ـ هذا الحضور القوي للذاكرة، هل هو عنصر مساعد أو معيق في علاقتك بالمكان الأول ( العراق ) ألا تجد نفسك وقد اتسعت المسافة الزمنية بينك وبين هذه الذكريات بينك وبين هذه البصرة، بينك وبين تلك الطفولة، أسير الذاكرة التي قد تحجب علاقتك كليا بالعراق الماء الأول، وهل هذا ضروري؟
ـ العلاقة بالمشهد الأول ضرورية، لأن الشاعر بصورة ما هو امرؤ "بدائي" هذا البعد البدائي هو ما يساعده في التقاط ما هو أولي، وما هو مدهش أو مفاجيء في الطبيعة أو النفس البشرية على حد سواء، ومن هنا تظل تلك الالتقاطات المرتبطة بالطفولة والفتوة الأولى هامة جدا. متى تكون معوقة؟، إنها تكون كذلك حينما ترتبط بمرضية الحنين. مرضية الحنين هي التي تحدد قدرة الفنان في السيطرة على مادته الأولية والتحكم بها. هذه الحالة المرضية فيها ضعف. والواقع أني وقفت عامدا أمام مسألة الحنين، وتقريبا بدأت قضايا الحنين تتلاشى لدي ولأقل منذ أواخر الستينيات، لكنها لم تخفت. ونظريا صارت لدي قناعة كافية وقدرة على كبح الحنين. وهذه المسألة هامة جدا، لأنني تبعا لظروفي ظللت دائما متنقلا من بلد لآخر، وأنا أحن إلى الجزائر أو إلى تونس أو إلى سوريا أو غيرها، ولم يبق العراق هو مصدر الذكريات الوحيد. لكن مع ذلك فما ارتبط بالطفولة يظل هاما. إنه كنز لا يفنى...
ـ في ديوانك " حياة صريحة" استعدت هذه الذكريات، وأعدت إنتاجها إذا جاز التعبير، ولكن بصيغة تتجاوز نبرة الحنين التقليدية، هل يمكن اعتبار هذا الديوان محاولة لإنتاج فضاءات أو صيغ جديدة لمشروع استثمار هذا الكنز؟
ـ " حياة صريحة" كان التدريب الأول على مشروع أوسع، كان يشدني إلى أطروحة " الأوديسا"، لا لرسم خط رحلة العودة، وإنما خط رحلة اللاعودة.. وفي هذا الباب يمكن أن يستخدم المرء بعض ما رمزت إليه " الأوديسا م" من محطات، يمكن مثلا أن تكون " إيثاكا" رمزا، ويمكن أن تكون جزيرة " لوتس" رمزا، وبعض المشاهد العاطفية أيضا على أن يحسن استخدامها ويتم تطويرها، وفي الوقت ذاته هناك الحياة المدنية والحضرية التي يعيشها المرء، وصور البلدان والمدن والموانيء... الخ، والعلاقة مع المرأة ومع النساء، ومخاطر الحروب، والحروب الأهلية... والمادة في الحقيقة عسيرة ولكنها غنية جدا.. والتخطيط لها بدأ قبل بداية الحرب الأخيرة واحتلال العراق، ولكن لما تعقدت الأمور أجلت الموضوع، لكن الخطة المتكاملة بتفاصيلها مدونة لدي، وعندما أكون في حالة نفسية مساعدة ومستقرة سوف أبدأ حتما، وربما سأبدأ بعد عودتي من المغرب إلى لندن..
ـ حديثك عن "التخطيط" ألا يعتبر أمرا مفاجئا، وبمعنى آخر كيف يتحدث سعدي يوسف عن "التخطيط"، وهو الذي يكتب يوميا ويربط الشعر بالتلقائية.. فبأي معنى تستعمل التخطيط هنا؟
ـ التخطيط بمعنى إمكان الحديث عن نص محدود، نص يتجاوز مثلا صفحات ثلاث، نظرا لاتساع الموضوع أو المعطيات أو الإرجاعات المختزنة عنه، وعندما يكون بمقدورك أن تتابع هذا الموضوع شعريا، قد تكتب عنه أكثر من ثلاث صفحات، وفي هذه الحال ينبغي أن تضع المخطط للنص، وإلا تبعثر النص وضاع، ويقع ضحية عدم السيطرة. أنت مثلا عندما ثلاث إشارات لا تضع خطا فاصلا، فحينما تود أن تكتب نصا عن هذه الغرفة في أكثر من ثلاث صفحات، فأنت وبشكل بسيط جدا تقول في الصفحة الأولى مثلا آخذ هذه اللوحة، وفي الصفحة الثانية أتحدث عما هو موجود على هذه الطاولة، وفي الثالثة تستعيد أو تتحدث عن ذكريات معينة متصلة بهذا الفضاء، خروج أو دخول امرأة أو أشياء من هذا القبيل حدثت في هذه الغرفة، ولكن لا تفصل، لأن التفصيل في وضع الخطة يمنع تلقائية التدفق، تدفق النص، أنت تضع علامات مفترضة، لكن هذه العلامات المفترضة حتى ولو كلمة واحدة، أو ثلاثة خطوط على أديم الصفحة، هذا كله كاف لينطم العملية، وكي لا يمنع التدفق والتلقائية أيضا ودور اللاوعي في كتابة النص..
ـ في تجربتك دائما حضرت وتحضر تلك الموز التي تصلك بالمكان الأول: النخيل والماء والبحر وما يتصل بها، وتظل هذه الموز حية وثابتة مهما تظللت أو التبست برموز أخرى موازية أو قريبة، وقد وظفتها في تجربتك توظيفا فريدا. في هذا السياق نتساءل ما الذي يجمعك وأنت تنتمي على جنوب العراق، بشاعر صديق ورفيق لك هو بدر شاكر السياب، الذى تعامل مع هذه الرموز ولكنه اتجه اتجاها آخر في توظيفها؟
ـ في الإشارة إلى بدر شاكر السياب ينبغي علي القول بأنني ما زلت أعتبره معلما، وهناك ما يقرب من عشر قصائد لدى بدر أنا أعتبرها أهم ما توصل إليه الشعر العربي الحديث على مستوى الإنجاز الفني: النهر والموت، المسيح بعد الصلب... ويمكن أن أضيف أن لي علاقة جيدة مع بدر، وأنا بعد أن خرجت من السجن عام 1964، كنت دائم الزيارة له في المستشفى، وبعد جئته وقلت له: أنا يا بدر راحل، وهو رحل إلى الكويت حيث توفي، وأنا رحلت إلى الجزائر، وكنت أحمل إليه بين الحين والآخر كتبا باللغة الإنجليزية في الشعر. وفي فترة ما كنا نلتقي كثيرا. ومرتين أطلعني على نصوص جديدة كتبها. كما أني كنت أسأله عن بعض دقائق الحرفة الشعرية في قصائد له، والآن أتذكر أني سألته لماذا حذف اللؤلؤ ( في السطر الأخير ) في قصيدته أنشودة المطر في المقطع التالي:
"أصيح بالخليج: يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى كأنه النشيج
يا خليج
 يا واهب المحار والردى"
فقال إن الصدى يرجع الكلمات ذات أحرف اللين، وهذه كانت بالنسبة لي درسا في التدقيق، وعلمتني أن الشعر يكتب عن وعي، واحترام العلم. واحترام العلم بالنسبة لي بدأ منذ حديث بدر، وصارت قصيدتي لا تتعارض مع العلم وترحب بالعلم والمكتشف العلمي...
ـ أنت تعتبر بدر شاكر السياب معلما، أين موقع عبد الوهاب البياتي مثلا في علاقاتك؟
ـ عبد الوهاب البياتي. لا. فنيا لم أتأثر بعبد الوهاب البياتي.
ـ أنت كتبت عنه بعد وفاته، وما كتبته أثار ردود فعل لماذا في اعتبارك هذه الردود..
ـ آه، صحيح، و كانت تلك الردود عنيفة جدا..
ـ اعتبار السياب معلما يحملنا للقول إن لسعدي "شجرة نسب" في حقل الشعر.وآباء في هذا المجال أثروا في وسائل أدائك الشعري: اللغة، الصورة، الإيقاع... لو طلبنا منك الاقتصار على أسماء ( آباء ) لا يمكن لسعدي أن يكون بدونها..
ـ في التكوين الأول، الأول جدا، أنا أضع بدر شاكر السياب بالتأكيد على رأس القائمة، ثم محمود علي إسماعيل في مصر فقد كان مهما بالنسبة لي جدا، ثم شاعر ربما لا يعرفه أحد، ونشر ديوانا واحدا اسمه " الواحة" هو " صلاح الأسير"، أواخر الأربعينيات، لقد تأثرت به كثيرا، لأنه أعطاني الكثير من الرموز التي أطللت بها على العالم. وامرؤ القيس هو الأول من هؤلاء جميعا، فقد كنت أحفظ من شعره الكثير، وتعلمي الأوزان كان في متابعة حرفية لشعره في تطبيق العروض.
ـ أما زلت تعود إلى هذه الينابيع اليوم؟
ـ في القراءة، لا أعود إليها. أنا أعود إلى لسان العرب مثلا، وفي لندن خاصة، أعود إليه باستمرار أفتح إحدى مجلداته بلا تعيين وأظل أقرأ فيها، و فعلا إني لأجد فيه سحرا أقرب إلى سحر القصائد...
ـ شجرة النسب التي تحدثنا عنها، أليس لها جذور في ما ترجمته من أشعار لشعراء عالميين وإنسانيين، لهم مكانتهم المتميزة في خارطة الشعر العالمي المعاصر: ريتسوس، لوركا، كفافي.. أي آثار لهذه الترجمات عليك..
ـ فعلا، هذه الترجمات أثرت تأثيرات هامة في الشعر العربي الجديد.. وريتسوس أثر علي بشكل عميق، حتى في شكل القصيدة وفي ما تلتقطه من مادة الحياة.. كفافي أيضا أثر في كثيرا، أما لوركا فقد سبقت ترجمات كثيرة له، لكن اونجاريتي مثلا وهو شاعر إيطالي،هو شاعر ما يزال يحظى باهتمام حقيقي، وأنا أحيانا أذهب إلى إيطاليا وأتحدث إلى شعراء إيطاليين واونجاريتي يرد عندهم كثيرا، وله موقعه المتميز لديهم..
هذه السلسلة من الترجمات بالنسبة لي أقرب إلى موسوعة للشعر الأجنبي المعاصر، وهو جهد أنظر إليه الآن وأستغرب كيف استطعت أن أفعل هذا. لكنه أفاد كثيرا. أنا أفادني كثيرا في أنه أبقاني على مستوى من النص لا أستطيع أن أهبط عنه، وأنا لا أعمد إلى المقارنة، ولكنه صار عندي تقدير خاص لما ينبغي أن يكون عليه مستوى النص..
ـ ماهي مهمة مترجم الشعر في نظرك؟
ـ مهمته أن يوطن النص في اللغة المنقول إليها، اللغة العربية مثلا، وهذه معضلة لأن القاريء العربي أيضا لديه حساسيته ورفضه أحيانا لنص معين.أنا مثلا عندما ترجمت "أوراق العشب" لوالت ويتمان، كنت أعمد أن أعطي شحنة خاصة من البلاغة العربية للألفاظ لكي يكون نص "ويتمان" مقبولا لدى القاريء العربي، وعندما اشتغلت على "لوركا" كنت أعمد إلى استخدام اللازمة، والتقفية أحيانا لأعطي وزنا خاصا لمقاطع معينة، لأنه هكذا ينبغي أن يوطن "لوركا" في اللغة العربية، أما بخصوص " كفافي" وكما تحدث لي عنه شعراء يونانيون، فقد كانت أسلوبيته متقشفة، وكان ينبغي أن تخلو لغة ترجمته من البلاغة والمحسنات حتى تكون أكثر أمانة للشاعر وأسلوبه في لغته الأصلية.. الشيء الأساسي بالنسبة للسؤال هو محاولة توطين شعر الآخر في اللغة العربية.
ـ ما موقع القصيدة العربية التي نقلت إلى الضفاف الأخرى، إلى اللغات الفرنسية أو الإنجليزية أو الأسبانية أو الإيطالية..
ـ حظها ليس كثيرا، هنالك أسباب متعددة، وفي هذا الباب، الأساسي هو ماذا يتبقى من القصيدة العربية حين تنقل. في إحدى الدراسات حول ما يتبقى من النص الأصلي عندما ينقل إلى لغة أخرى، تمت الإشارة أو الملاحظة أن القصيدة تفقد خمسين في المائة من قيمتها، وأحيانا سعين في المائة من هذه القيمة، وعلى العموم يتبقى من أساسيات القصيدة ثلاثون بالمائة فقط، هذه الثلاثون بالمائة هي الجوهري والأكثر ملموسية في النص الأصلي.
القصيدة العربية تتصف بأنها ليست ذات ملموسيات، ولهذا عندما تنقل إلى لغات أخرى تفقد مقوماتها اللغوية وتلك الهالة التاريخية، لأن هذه الوظائف غير موجودة لدى القاريء الفرنسي أو الإنجليزي، ولهذا عندما تنقل، تكون في كثير من الأحيان لا قيمة لها، وأنا التقيت شعراء كثيرين وكان أحدهم قرأ شعرا مترجما لشاعر معروف لدينا، وقال لي: أهذا هو شاعركم، قلت:نعم. فقال: إن كان هذا شاعركم، فليس لديكم شعر.
ـ سعدي، على مستوى آخر حين نتعامل مع تجربتك من زاوية الشكل نرى أنه في حقبة معينة كانت القصائد الطويلة هي المهيمنة، وابتداء من الثمانينيات في تقديري بدأ هذا الشكل يتقلص، وطغى شكل القصائد القصيرة، ما هي في اعتبارك العوامل التي تحكمت في صياغة تشكيل قصيدتك عبر مراحلها التاريخية..
ـ والله، الأمر في الواقع يتعلق بمسألة تسويق القصيدة، وتسويق النص حينما يكتب وينشر، في فترة معينة سواء في العراق أو في بيروت عندما أكتب القصيدة الطويلة، كان القراء مهتمين ويقرأون القصيدة الطويلة، الآن حتى المجالات التي كانت تنشر فيها القصائد الطويلة بدأت تتقلص، حقيقة، لم تعد لدينا مجلات كثيرة تعنى بالقصائد الطويلة أو تعنى بالثقافة بوجه عام، الصحف أيضا تقلصت مجالات الشعر فيها، والقاريء نفسه أصبح ملولا، ولم يعد ذلك القاريء الصبور على قراءة قصيدة من ستة عشر صفحة أو عشر صفحات، هذه كلها بالنسبة لي عوامل أدت بي إلى أن أجد القصيدة الأقصر هي الأكثر ملاءمة لمزاج الناس ولمزاجي أيضا بسبب أنني في السنوات الأخيرة، على الأقل، تنقلت بين كثير من البلدان، كما حدثت أمور فيها هول كبير في العديد من الأماكن التي عشت فيها، وهذا جعل مزاجي أقل صبرا على النص الأكثر استغراقا وامتدادا. ربما أعود إلى الأمر في حالة ما إذا توفرت ظروف تكون أكثر مساعدة لي، وأنا عمليا لا أضع حائطا صينيا بين القصيدة الطويلة والقصيرة، ففي كثير من الأحيان القيم ذاتها تتحكم في النصين، القيم الخاصة بي في كتابة النص الشعري هي، هي..
ـ ألا يمكن أن نرد هذا التنويع أو التفاوت أيضا إلى طريقة تعاملك مع الإيقاعات الشعرية، ومع اللغة، ففي القصائد الطويلة تتأتى إمكانية التنويع أو التوزيع الإيقاعي ا, الموسيقي للنص، بينما في القصائد القصيرة تجد نفسك مكرها على أن تعتمد على ما سميته في مرحلة ما باللغة المتقشفة، الفقيرة إلى طلاء المحسنات..
ـ أنا أتفق معك على أن النص ذا الامتداد يوفرإمكاية فنية أكثر بمعنى أنك تستطيع مثلا أن تبني النص بناء سيمفونيا على أربع حركات، أو تخطط للمسألة تخطيطا زمنيا، وتضع كرونولوجيا معينة في كتابة النص أما اللغة فأعتقد أنها لن يطرأ عليها تغيير كبير، لأنها ستظل هي، هي، بمعنى أن طريقة استخدام اللغة أي استخدام المفردة وتوظيف خصائصها ستظل باقية في الاثنتين.والحقيقة أن التجريب في الشعر المتقشف ليست سهلة على الإطلاق، لأنه يعني التخلي عن كثير من قيم البلاغة والبيان الموروثة لدينا، والتي هي هامة وليست رديئة بالمناسبة، وأنا عندما قررت أن تكون قصيدتي متقشفة فقد كنت أدرك أن الطريق إليها ليس هينا...
ـ من الممكن القول يا سعدي، إنك شاعر سياسة بامتياز، وتوظيفك السياسي في الشعري يمتاز بتقنية عالية لا تكاد تتوفر لكثير من الشعراء الذين كانوا مجرد صدى فج لمواقف معينة، كيف تنظر إلى العلاقة بين السياسي والشعري.
ـ أن تخضع كل شيء لقيم الفن، لمعاييره، ولأخلاقياته، وأن توهم بأنك لا تكتب في السياسة، أنا في الواقع أخوض في الموضوع السياسي موهما بأني لا أكتب في الموضوع السياسي، أنا أتوجه لقاريء محايد وأريد أن أقنعه برأيي أو وجهة نظري، لا يمكن أن أقولها جهارا ونهارا، لا أقول هنا باللجوء إلى وسائل ملتوية، لكنني أستعين بالفن العظيم لإيصال رسالة أو فكرة أو تحريض معين...
ـ... وأنت شاهدت أحداثا وفجائع في كل مكان في العراق وفي بيروت وفي عدن، واستطعت أن تضمنها شعرك باحترافية عالية ودقيقة، ومهارة فائقة..
ـ صحيح..فمثلا قصيدة " الماندولين" التي استمعنا إليها، تدخل في هذا الإطار، فلا يمكن أن أقدم مأساة عدن وإسقاط جمهورية اليمن الديموقراطية إلا بطريقتي، واستعمال" الماندولين" هو ضمن هذا السياق، أي أن تتحدث عن أمر سياسي واضح بلغة غير سياسية وتعبير غير سياسي، والناس ستنظر إلى المسألة وكأنك تقوم بلعبة معينة، ولكن في النهاية ستعرف أن هناك مدينة اسمها عدن، وأن هناك تجربة قامت هناك.. الخ
ـ تمكنت من اللغة الفرنسية إبان مقامك بالجزائر، هذا يعني أنك قبل هذه المرحلة لم تقرأ: رامبو، ومالارميه، وبودلير بلغتهم الأصلية. هذا الثلاثي الذي لا يمكن تخيل حداثة شعرية بدونه، كيف أعاد سعدي ترتيب علاقاته معهم بعد قراءتهم بلغتهم الأصلية...
ـ علاقتي باللغة الفرنسية قديمة وتعود إلى سنوات الدراسة ببغداد، وحين عشت بباريس حوالي ثلاث سنوات أفادتني في اللغة اليومية والتعامل مع الناس والقراءة، وبصراحة أنا لم أحبب الشعر الفرنسي، وهذا شيء غريب، لم أحببه لكثرة الاستعارات، الاستعارات ثقل، وأنا أحب المغنين الفرنسيين، أحب مثلا جاك بريل.. ولكن الشعر الفرنسي لم أحببه على الإطلاق، وأعتبره مسؤولا عن مأساة قصيدة النثر العربية، حقيقة لا أدري ما السبب لكن هذا ما حدث فعلا، أشعار الأوروبيين الآخرين: الأسبانيين والإيطاليين والرومانيين والبولنديين تستهويني كثيرا، ولكن الفرنسيين، لا.
ـ هل هذا ما يفسر اتجاهك في تقاطع معاكس لأدونيس مثلا..
ـ لا.. هذا ربما يعود إلى طبيعة التكوين الثقافي لكل منا، أدونيس حقيقة ميال كثيرا إلى الشعر الفرنسي.
أنا أرى مثلا أن شعر روني شار لم يقدم للقاريء العربي كما هو، فقصائده في الحرب لم تترجم لأن المترجمين لا يومنون بأن يكون للشعر علاقة بالحياة، وهناك تعمد عدم تقديم هذه القصائد كشهادة على ارتباط الشعر بالحياة، وهذا نفسه حدث للشعر الإنجليزي مع اللغة العربية، فقد ترجم إليوت فقط، بينما كل جيل الثلاثينات الذي هو في معظمه جيل شعراء يساريين، هو جيل عظيم وهو الجيل الأهم حتى الآن في الشعر الإنجليزي، حجب عن القاريء العربي..
ـ ثمة قولة للمفكر المغربي عبد الله العروي تفيد ما معناه أن الذي يومن بالقدر لا يمكن أن يمتلك وعيا مأساويا... أنت كشاعر أصدرت ديوانك الأخير تحت عنوان " صلاة الوثني" هل يمكن القول إن هذا الديوان ينطلق من رؤية لا تومن بالقدر بالمعنى المشار إليه، وبمعنى آخر هل يجوز القول إن سعدي يوسف عندما يكتب الشعر ينطلق من وعي مأساوي لا يومن بالمسلمات واليقينيات..
 ـ أنا قاريء التضاريس طبيعة وأرضا ولربما أفكارا أيضا ضمن هذه التضاريس.. وأنا غير معني بالجانب الديني، غير معني بتوظيف الدين أو معالجته على الإطلاق، هذا أمر غير وارد لدي.وصلاة الوثني يمكن اعتباره عودة إلى البداءة، إلى هذه البدائية التي تهتم بالطبيعة والنباتات والأنهار والبحيرات والبحار، وينهض فيه وكأنه إنسان في معبد الطبيعة، يستل رموزه منها ويتجه إليها، وهذا سياق آخر تماما...
ـ ما جدوى الشعر يا سعدي حين تكون البشاعة طاغية...
ـ البشاعة دائما كانت طاغية، الإنسان كان دائما في عالم غير عادل، والطبقات المسيطرة دائما تفرض معاييرها، ولكن الإنسان أبدا يناضل.. الفلاسفة والمفكرون أطاحوا بلويس السادس عشر، وثورة أكتوبر أطاحت بالقيصر، والأمريكيون حققوا استقلالهم وحرروا العبيد.. والإنسان يظل طموحا مهما كانت الأهوال..
ـ كيف تنظر إلى النقد العربي في مجال الشعر...
ـ كالنقد في المجال السياسي، لا يوجد نقد، لأن الأشياء متصلة مع بعضها، ومادام ليس هناك نقد في السياسة فليس هناك نقد في الشعر، وفي أي جانب من جوانب الثقافة... يوجد شيء جامح يكبح النقد ويمنعه، فكيف للناقد أن يخرج من هذا الطوق المحكم...
ـ كيف تنظر إلى مستقبل العراق اليوم..
ـ لمدة خمسة عقود قادمة ليس هناك من ضوء...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ