سعدي يوسف يخطط لرواية شعرية من عشرة كتب و150 ألف بيت طباعة

سعدي يوسف: الرواية فن أكثر جدية من الشعر وقد لا يكون أكثر كشفاً
         Imageفي منطقة جميلة وهادئة من الريف اللندني يقيم الشاعر العراقي سعدي يوسف منذ عام 1999، متفرغاً للكتابة والترجمة والنشاط الإبداعي، بعد أن تنقل وأقام في العديد من المدن العربية والأوربية، متشرباً بهمومه الوطنية والإنسانية، وممتلئاً بآمال لا تنضب من أجل واقع أفضل يحمل الخير والحرية والرفاه لوطنه ولشعبه وللإنسانية جمعاء.
هذا الشاعر الذي اختير عضواً في الهيئة الاستشارية لمجلة <> العالمية التي تصدر في العاصمة البريطانية، عاش حياة المنفى المريرة والقاسية ثلاث مرات في حياته. فبعد أن عاش المنفى بين

عامي 1959 و1957 في سوريا والكويت عاد إلى وطنه العراق، ولكنه وجد نفسه في المنفى ثانية بين عامي 1971 و1964، وعندما عاد إلى العراق هذه المرة كان يحلم أن يستمر به البقاء في وطنه، إلا أنه تحمل الكثير من الضغوط والمعاناة ليجد نفسه مرة أخرى في المنفى منذ عام 1978 إلى يومنا هذا. وهكذا نجد أنه عاش35 سنة في المنفى ولا يزال.
خلال هذه المسيرة الحافلة أصدر الشاعر 31 مجموعة من شعره، و23 كتاباً مترجماً من اللغة الإنكليزية تجمع بين الشعر والرواية والبحث، وسبعة كتب أخرى تتراوح بين القصة القصيرة والمسرحية والرواية والمقالة.
كان في انتظاري عند اقرب محطة قطار توصل إلى محل سكنه. شاءت الصدف أن يحضر كلانا قبل حلول الموعد بنصف ساعة تقريباً. عندما التقيته شعرت كأننا لم نفترق أبداً. لقد كان يتدفق حباً وعطاءً وأملاً. ذكرني بأول لقاء لنا وكيف استضفته في شقة متواضعة كنت أسكنها في اليوم الثاني لعودته من أحد المنافي.
ونحن نستقل الباص كان يحدثني عن المنطقة التي يسكن فيها، والتي تتسربل بهدوء خاص يشجع على التأمل والكتابة. هنالك بحيرات وقنوات جميلة وميناء نهري. وقبل أن ندخل شقته الجميلة والبسيطة والمتواضعة، أراني شجرة زيتون زرعها مؤخراً، وهو يرعاها ويراقبها كل يوم. تساءلت في سري هل يهتم بهذه الشجرة المباركة لأن أغصان الزيتون ترمز للسلام..؟
عرّفني على تفاصيل شقته بألفة ومودة، كانت هناك لوحات جميلة تزيّن الجدران بعضها لصديقة حميمة له من أصل نمساوي. تشعب بنا الحديث كثيراً، ثمة أحلام وآمال كثيرة نتقاسمها منذ أعوام ثقيلة بأحزانها وأحداثها، وهناك أصدقاء كثيرون مشتركون تعددت بهم السبل، وتباينت أوضاعهم ومصائرهم. وسأحاول هنا أن أخرج من أحاديثنا الشخصية، إلى ما يمكن أن يكون مفيداً لتسليط بعض الأضواء على جانب من تجربته وعطائه:
إزاء العطاء الكبير الذي قدمته وما زلت تقدمه، يمكن أن يسأل أحدنا كيف تبرمج يومك.. ومتى تكتب؟
? إنني أنظم وأبرمج وقتي بشكل مدروس. وبالنسبة للكتابة، وكتابة الشعر خاصة، فإنني اعتيادياً أكتب في الصباح، وغالباً في الصباح الباكر، وأتذكر هنا وصية أبو تمام للبحتري بالذهاب إلى الشعر في الصباح الباكر حيث يكون الدم في صفاء نشاطه. أما في المساء فإنني أقرأ أو استمع إلى الموسيقى أو أذهب إلى دار سينما أو مسرح، أو أؤدي بعض الالتزامات. إنني أحب أن أستقبل العالم في الصباح، وعندما أكون في مدينة ما أحب أن أخرج قبل أن تفتح الدكاكين والمقاهي أبوابها.
ألم تكتب في وقت آخر غير وقت الصباح..؟
? إن حياتي كلها مكرسة للشعر والإبداع. ربما أفكر في هذا الوقت أو ذاك بكتابة نص ما، ولكنني أدع التجربة تكتمل وتتفاعل. قد تمر علي في المساء مثلاً خاطرة أو ملحوظة معينة يمكن أن أستفيد منها شعرياً فأدوّن ذلك على ورقة مستقلة، وأشتغل عليها في الصباح.
لك رواية واحدة هي <<مثلث الدائرة>> كيف كانت تجربتك معها؟
? هنالك قول أصبح كأنه قاعدة هو أن الرواية الأولى تكون على العموم سيرة ذاتية، وأحداث روايتي <<مثلث الدائرة>> تدور في خمس مدن تنتمي إلى خمس دول مختلفة، وهذه المدن هي البصرة، بيروت، نيقوسيا، باريس، عدن. هذه المدن حللت فيها، واستطعت أن أقرأ أرضها، فصار لي حق الكتابة عنها. والسبب الأساس في الأمر هو حاجتي إلى تلفيق الأحداث لأن الرواية هي فن عظيم، بل ربما هي أعظم الفنون. إنها أروع الفنون الكتابية، وهي فن أكثر جدية من الشعر، وقد لا يكون أكثر كشفاً. إن معمار الرواية يتطلب جهداً هائلاً، ويستدعي نوعاً من البحث. وأنا حاولت أن أحترم صعوبة هذا الفن. لقد تضمنت الرواية خمسة فصول، قسّمت إلى عشرة أقسام يتألف كل واحد منها من خمس صفحات ليس أكثر، وقد وضعت خطة لذلك التزمت بها. فأنا أو القارئ نعرف أن هنالك جهداً في احترام فن الرواية.
كم استغرقت فترة كتابتها..؟
? لم تستغرق أكثر من ثلاثة أشهر.
برنامج مدروس لعمل روائية شعرية
مرت على صدور الرواية عشر سنوات، وأعقبتها أحداث كثيرة جديدة ربما تحتاج إلى توثيق، هل تفكر بمشروع روائي جديد وماهو؟
? المشاريع التي أفكر فيها كثيرة في الواقع، وعندي خطة الآن لعمل شعري كبير، وقد وضعت له النقاط الأساسية. (ينهض من مكانه ويأتي بأوراق منظمة وضع عليها خطته ليرينا إياها). لقد وضعت الخطة قبل سنوات وأطلقت على هذا المشروع اسم <<الأوديسا>> وهو نص لرواية شعرية. وستكون الخطة التي وضعتها قاعدة لهذا العمل الذي يتألف من عشرة كتب، يقع كل واحد منها ب50 صفحة تنقسم إلى خمسة أقسام، كل قسم بعشر صفحات كما هو واضح، وتضم الصفحة الواحدة 30 بيتاً شعرياً، وهكذا سيكون مجموع أبيات القسم الواحد 300 بيت، والكتاب الواحد 1500 بيت، ليرتفع هذا الرقم بعد أن ينسحب على كل الأجزاء إلى 150 ألف بيت.
ألا تعتقد أن هذه البرمجة تؤثر على التدفق الشعري؟
? إن العمل كبير جداً، وهو ليس عملاً كبيراً فقط وفق مفهوم مبسط، ولعل الأمر يكون أكثر وضوحاً إذا ما عرفنا أن قصيدة بأكثر من ثلاث صفحات تحتاج إلى أن تضع علامات بارزة لها حتى لا يتبدد النص وتتبدد أنت معه. انت مثلاً عندما تقول إن كل كتاب يتألف من 50 صفحة وإن كل قسم يتألف من 10 صفحات، فإنك ستعمل بحريتك المطلقة ضمن الأبيات الثلاثين، وتترك حرية كافية لاستقبال الذاكرات فتعمل كلها بحرية. لقد كنت أحلم بأن أكون قد بدأت فعلاً بهذا المشروع، وأتمنى أن أبدأ به في وقت قريب، لقد شلّت كياني الحرب التي شنت على العراق، وقد أخذ هذا الهدير يخف تدريجاً. لقد كانت أعصابي في حالة سيئة جداً. فعندما كنت في أمستردام لحضور مهرجان للسينما بدعوة من منظمة العمل الدولية شنت الحرب وتعرضت بغداد للقصف، فأصبت على الفور بشلل لم يمكنني من المشي لمدة يوم واحد. كان رد فعلي طبيعياً جداً، ولكنه كان في منتهى التعبير. إنني نتيجة لارتطامي بهذه الحالة التي ما زالت تترك تأثيراتها علي حتى الآن، وجدت نفسي لا أستطيع البدء بعمل مخطط له مثل هذا. لقد صرت الآن أكثر هدوءاً وقدرة على امتلاك المضي في عمل مدروس ما، وسأبدأ بهذا العمل في وقت قريب.
هل ترى أن كتابة الشعر تحتاج إلى قدر ما من التلقائية؟
? أنا شاعر تلقائي، ومعظم نصوصي أكتبها أحياناً تحت عمدة تلقائية. كيف عمدة تلقائية؟ أنت عندك كثير من الأرجاع النفسية والبصرية. في لحظة معينة، في قرار معين تقول أنا أريد أن أستقبل الأشياء استقبالاً صحيحاً. أنت تتيح لأعصابك أن تنطفئ بأشياء وتهتم بأخرى عبر استقبال حر. أنا أؤمن بهذه الطريقة، وهي طريقة هامة جداً في كتابة الاستقبال الحر. إنني أحترمها وأمضي معها وأقف حيث يتوقف النص لدي. لكن أي عمل واسع 15 ألف بيت مثلاً يحتاج بالتأكيد إلى تخطيط دقيق جداً.
تراجع عام
تعمد نظام صدام حسين المقبور محاولة حجب اسمك وتغييبه عن أجيال شعرية جديدة، ويذكر أن غياب اسمك وغياب أسماء شعراء آخرين معروفين قد أثر على الحركة الشعرية العراقية الجديدة بشكل سلبي. كيف تقيم هذا الأمر؟
? كنت ألتقي أحياناً بمواطنين عراقيين في الأردن، أغلبهم شباب ليس لديهم اهتمام بمتابعة الحركة الشعرية، بعضهم طلاب في المرحلة الثانوية. كنت أريد أن أعرف ماذا يعرفون، فأجدهم لا يعرفون شيئاً غير شعراء النظام من طباليه والمهرجين له. لا يعرفون شيئاً عن نصوصي ربما سمعوا باسمي فقط كأسطورة مثلاً. وفي تقديري ان غياب شعراء مثل فاضل العزاوي ومظفر النواب وأنا وآخرين عن الساحة الشعرية العراقية أثر فعلاً في افتراض التطور الطبيعي للنص الشعري العراقي، إذ أغفل تطورالشعر الحقيقي الذي يمثل بدر شاكر السياب والموجة التي ما زالت تملك قوة اندفاع. إن السياب حتى الآن لم يعْنَ كما يلزم في الحركة الشعرية العراقية. فقد ظلت أسئلة عدة عن مسيرته لم يجب عنها بعد. أنا معك أن تطور الحركة الشعرية العراقية اعتراه تشوه طويل.
هل هنالك تراجع في الشعر لصالح الرواية برأيك؟
? أنا أعتقد أن هنالك تراجعاً عاماً في عموم الفنون العربية، وليس في الشعر أو الرواية. ولعل من أسباب ذلك العقود المتتالية من الرقابة والعسف والقمع واضطهاد حرية الفكر. هذه أسس لتخلف هذه الأمة ثقافياً. والآن نشهد تماماً كيف يحدث انهيار كامل. كانت هذه الأمة مصونة بوعي ثقافي وذاتي أصيل وقوي. أما ما لدينا الآن فمسألة أخرى، ولا بد من أن نأخذ بنظر الاعتبار أننا أمة متخلفة ثقافياً، فنحن لا نقرأ كما ينبغي، وتوزيع الكتب لدينا في أدنى مستوى، كما أننا لا نستطيع التعبير لأن لا مثيل للرقابة الموجودة لدينا.
لقد زرت أستراليا وأقمت أمسية ناجحة جداً للجالية العراقية فيها، هل أتيحت لك خلال الزيارة فرصة للتعرف على الحياة الثقافية في أستراليا عموماً؟
? لقد استطعت أن ألتقي بشعراء أستراليين في اتحاد شعراء سدني، وهم يقيمون أمسيات في أحد المقاهي يومي الأربعاء والخميس من كل أسبوع، وقد حضرت أمسيتين والتقيت بعدد من الشعراء. أنا عندي قراءات للشعر الأسترالي. ولكنني أعتقد أنها غير كافية. وقد التقيت خلال السنة المنصرمة بشاعرة أسترالية زارت لندن، كما تعرفت على ديفيد معلوف بشكل جيد، وهو في الأساس شاعر قبل أن ينتقل إلى الرواية. وقد التقيت به أياماً عديدةً في الأردن واستقبلته في بيتي هناك مرتين وترجمت له روايتين.
كيف تم اختيار هاتين الروايتين من أعماله.. هل قرأتها جميعاً؟
? اعتقد أنني قرأت جميع أعمال ديفيد معلوف. ومن ضمن ما قرأت له كتابه الأوتوبيوغرافي عن منزله الأول في أديلايد، وهو بيت جده الذي أمضى مرحلة طفولته به. ولكنني اهتممت على نحو خاص بروايته <>، لأنها تتحدث عن أوفيد الشاعر الروماني الذي نفاه الإمبراطور خارج حدود الإمبراطورية إلى المنطقة التي تقع عليها رومانيا حالياً، وكانوا يتحدثون هناك اللغة اللاتينية إلى جانب لهجة خاصة بهم، وكان على أوفيد وهو الشاعر العطيم صاحب Metamorphosis <<مسخ الكائنات>>.. كان عليه أن يعرف الأشياء بنفسه، وأن يسمي الأشياء من جديد بأسمائها. لقد وجدت تماثلاً بين حالة أوفيد وحالتي أنا المنفي باستمرار. ثم ترجمت له مسرحية <> ووضعت لها عنواناً آخر هو <<الإرهابي>>، وهو يتحدث فيها عن إيطاليا، فديفيد معلوف يقيم في إيطاليا بمنطقة توسكاني حوالى نصف العام وعلى معرفة جيدة بإيطاليا. ترجمت هذه الرواية لأنني أعتبرها مثلاً لهندسة الفن الروائي الرفيع. كما أن فيها تعاطفاً مع حركات التغيير في المجتمع.
(لندن)