باقة ورود حمراء في سبعينية سعدي يوسف طباعة

زمنه حاشد حافل، تماماً مثل المحطات الجغرافية التي جعلته ضيفاً على منافيه، أو منفياً في ضيافاته، أو مغترباً غريباً ليس غير، وببساطة قاسية جارحة. من سنة الولادة (1934) في أبي الخصيب بالبصرة، إلى أحدث سنوات المنفى (2004) في لندن، ومن بغداد إلى الكويت وبيروت ونقرة السلمان وبعقوبة وعدن وتونس وبلغراد ونيقوسيا وباريس ودمشق وعمّان... يبدو الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف وكأنه الفينيق الأبدي، دائم التحوّل دائم الغنى دائم العطاء، وفي الآن ذاته سرمدي الأسى والأحزان أيضاً.

في عام 1991، بعد قصف البصرة على يد الأمريكيين، وقبيل وأد انتفاضة العراقيين في الجنوب والشمال على يد الوحش صدام الذي أدّبه جورج بوش الأب دون أن يقطع الخطوة الضرورية فيجهز عليه، آنذاك كتب سعدي في قصيدته الجميلة "مدينة القرن الأولى":

أقول: لا، للقتل
الآلاف الخمسون من أهل البصرة (كم أحبهم الحريري!) لم
يتذروا تحت القصف الأمريكي. لقد تكفل الأمريكيون بالجنود
الذين ليس لهم من الجند سوى البدلة التي تجعلهم هدفاً
معلناً.
أقول: الآلاف الخمسون من أهل البصرة لم يقتلهم الأمريكيون
إلا بواسطة الوحش الذي خنق في دقيقة واحدة
الآلاف من بلدة كردية،
اسمها حلبجة"...

وفي 15 / 3 / 2003 ، وبعد أيام معدودات على بدء القصف الأنغلو ـ أمريكي الوحشي للعراق، كتب سعدي قصيدة أخاذة بعنوان "نشيد شخصي"، جاء فيها:

"أهو العراقُ؟
مباركٌ مَـن قالَ إني أعرفُ الطُّــرقَ التي تُـفْـضي إليهِ
مباركٌ من تمتمتْ شفتاهُ أربعةَ الحروفِ:
" عراقُ ، عراقُ ، ليس سوى عراقٍ " ..
سوف تنقَـضُّ الصواريخُ البعيدةُ
سوفَ يَدهــمُــنا الجنودُ مدجّــجِــينَ
وسوف تنهارُ المنائرُ والمنازلُ
سوف يهوي النخلُ، منقصفاً؛ وسوف تضيقُ بالجثثِ التي تطفو
ضفافُ البحــرِ والأنهارِ
سوف نرى، لُـماماً، "ساحةَ التحريرِ"، في كتُبِ المراثي والتصاويرِ...
المطاعمُ والفنادقُ:
ماكدونالد Mc Donald
دجاج كنتاكي KFC
وهوليداي إنْ Holiday Inn
سوف تكون خارطةَ الطريقِ، وبيتَــنا في جنّــة المأوى،
وسوف نكون غرقى
مثلَ إسمكَ ياعراقُ
"عراق ، عراق ، ليس سوى عراق..."

لقد استعاد صرخة إبن بلده، وابن البصرة، الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، وقال لا للمتعاونين مع الاحتلال من "الأنذال" و"الفالاشا" على حدّ تعبيره. واستصرخ ضميره وقال لا أخرى أشدّ حزماً ضدّ "آيات الله" الجدد الذين دخلوا العراق على ظهور دبابات أمريكية، وكانو قبل الاحتلال مجرّد أنبياء كذبة تعاونوا مالياً وتعاقدوا مهنياً مع مؤسسات نظام صدّام، سرّاً غالباً أو علانية اضطراراً.
وفي نيسان 2003، وفي مقالة بعنوان "آية الله كنعان مكية"، كتب سعدي:
"… وفي العام الثالث بعد الألفَـين من ميلاد السيد المسيح، هبطَ على الديار العراقية، من سمتيّـةٍ أمــيركانيّةٍ، آيةٌ من آيات الله، ينتسب إلى مكّــةَ، كانتساب أبي رُغالٍ إليها، لكنه لم يُطِـل المكثَ، إذ سرعانَ ما رفعته السمتيةُ التي جاء بها، ليعود إلى دياره، خائباً خاملاً، حاملاً أوراقه التي اهترأتْ من طول تداوُلٍ وتناوُلٍ. والحقّ أن آية الله كنعان مكية، كان ينتظر في الناصرية مَن يعرفه فلم يجد أحداً، ولَربّـما كان مَرَدُّ ذلك أن الناس في الناصرية ناطقون بالعربية دارجةً، وليس بالإنجليزية/ الأميركانية رطانةً، بينما المأثورُ عن آية الله هذا قوله إن العراق ليس عربياً. قولٌ حقٌّ أريدَ به باطلٌ، أو قولٌ باطلٌ أريدَ له أن يُجرى مُـجرى الحقّ. والأمرُ في الحالَين واحدٌ ، كما يرى الـمَـناطقةُ (...) مصيرٌ مؤلمٌ لآية الله كنعان مكية… بعد كل المشوار الذي قطعه ابتداءً بتروتسكي، وانتهاءً بتل أبيب!"...

وهكذا فإنّ سعدي لم يثبت أنّ مكانته رفيعة عالية نقيّة في الشعر وحده، بل في صدقه كمناضل، ومصداقيته كمثقف عضوي، وإصداق القول لأهله وقرّائه والعالم.
باقة ورود، حمراء قانية، لأبي حيدر في سبعينه!
سانت لويس ـ ميسوري