"سعدي لم يذهب إلى الغابة" طباعة


سلام عبود
إلى روح سعدي الحيّة أبداً!
كتب هذا المقال حينما اشتدت الحملة المسعورة على سعدي، وحينما وصلت حدّاً بشعاً برفع شعار "لندق آخر مسمار في نعش سعدي يوسف"."
لا أعرف على وجه اليقين من دفعه الى ذلك! من دفعه الى هناك، الى الغابة، الى غابة أديث تحديدا؟ أنا أعرف أن سعدي يستطيع الذهاب الى أي مكان يخطر بباله، يستطيع حتّى أن يلبس قرط المماليك. هذا هو سعدي الذي نعرفه. ولكن أن يذهب الى هناك، الى غابة أديث. هذا حدث ربما يحتاج الى تأويل استثنائيّ.

من يعرف سعدي يوسف شاعرا يعرف أيضا أن سيرته إنسانا لا تحوي جفوة بينه والغابات البتة، أو بينه والشاعرات. لكن الغرابة تكمن في أنه لم يذهب الى غابة نخيل في أبي الخصيب، ولم يذهب الى غابة صقـّليّة، أو كرديّة، أو جيفاريّة. لقد ذهب الى غابة أديث تحديدا. وما أعنيه هنا هو أنّه ذهب اليهما معا، الى أديث وغابتها، اليهما مجتمعتين. أديث وحدها، بلا غابة، فصل عظيم من فصول الغابات الشعرية الساحرة.
أمّا الغابة الأديثيّة فهي فصل خرافيّ من فصول التلاقح المذهل بين الصمت والبوح، بين الاستنطاق العميق لروح الكائنات الخفية وبين رهافة ووضوح الصورة، بين الأمل وقسوة اليأس، بين الضباب وبين شعاع الشمس الباهر، بين نجمة تسطع في الظلمة، وأخرى تخرّ على الأرض متكسرة، فتغدو شظايا تجرح الأقدام الحافية. تلك هي الغابة، وتلك هي أديث، اللتان وسوستا الى سعدي.
لم أقرأ سعدي يوما وأفهمه كاملا بنفس القدر الذي قرأت فيه قصيدته الأخيرة: "أربع قصائد". مقاطع قصيرة، كتبت في أوقات متقاربة، لا يفصل بين بعضها زمن، تجمعها أيام ستة حسب. أيّام ثمينة، تمتد من الثلاثين من أيلول حتى الرابع من حزيران، كما لو أنـّها أيّام الخلق الستة.من دون شك، كلّ ما كتبه سعدي من قبل استمتعت به نغمة نغمة، واستمتعت بشعره كيانا كاملا أيضا، في هيئة ديوان أو مجموعة. وفي كلّ مرة كنت أجد سعدي يرتحل فنيّا أو فكريّا أو شعوريّا، لكنّه يلبث مقيما حيث وضعته لنفسي، في الذائقة وفي المشهد الشعريّ وفي الحياة. رجل مقيم، أينما ارتحل. مقيم على دأبه الصادق في أن يكون أصيلا ومغايرا في الوقت عينه. يكون أصيلا بامتياز، ومغايرا بلا دعاية، بلا طبول حزبيّة وتنظيميّة، أو حكوميّة. فقد جرّب سعدي الوقوف خارج زنزانة السلطة وتفوق عليها بشعره، وقف خارج أحبولة التنظيم ونجح في ترقية ثباته على التقدم الفنيّ والعاطفيّ، ووقف ضد نفسه ونجح في أن يحتفظ لنفسه بمن هو. ذلك هو سعدي.
أينما حللت، في بيروت، في عمان، في أقاصي الأرض يكون سعدي الموضوع الأوّل- "العراق الأوّل العربي"- لدى المثقفين العراقيين. به يتخاصمون، وعليه يختصمون، وبه يقاتلون ذبّان وجوههم الغاضبة. بيد أن ما يدمي القلب أنّنا لا نجد، وهذه طبيعة شائنة، من يقول: أما يكفينا ما فعلناه بالسياب؟ أما يكفينا ما فعلناه بالرصافي؟ أما يكفينا ما فعلناه بمظفر النواب؟ سعدي لم يعد مطوقا بالاحتلال ومنظـّريه وفقهائه، أو بجحافل المتحاصصين الجهلة وجيوشهم اللئيمة. سعدي مطوق بهزائمنا، مطوق بانكساراتنا، بمخازينا، برخاوة ضمائرنا، التي تريد منه أن يكون صورة طبق الأصل من خرابنا.
في عمان انتقد صديق قديم طيب طريقة سعدي في تناول الكحول، نطق ذلك وهو يعبّ الكأس أمامي وخيط من المرارة يندلق من أطراف شفتيه. في بيروت انتقد فنان صبوة سعدي للنساء وخلف رأسه صورة لإحدى فاتنات سعدي، رسمتها أنامله يوما ما، قبل أن يرتـّد سعدي من عبادة التلمود الحزبي الى عبادة العجل الذهبي. بعض أولئك اشترط عليه أن يكون نبيّا مؤدبا، يكتب قرآنا أو إنجيلا أو زبورا استعماريّا مهذّبا، متناسين أنّ الكتب المقدسة لعنت الشياطين أشدّ لعنة. لعنات سعدي ومغامراته المتأخرة لا تعفينا من واجب رئيس نصرّ على تناسيه جميعا، لأسباب شرّيرة خالصة: قد لا نقوى على أن نكون أصدقاء سعدي في هذه اللحظة القاسية والمضطربة؛ ولكن، هل يتوجب علينا أن نكون أعداءه وكارهيه وناكري حضوره ووجوده ومكابداته، التي نحن سبب أساسي من أسباب تناسلها! كيف ننكر عليه تمرده على غيبوبة العقل والضمير، ولا أقولن غيبوبتنا السياسيّة، فالأخيرة قد نخلتف فيها وعليها!
للمرة الأولى أقرأ سعدي كاملا في قصيدة واحدة. للمرة الأولى أجده ملموما في حزمة محكمة، مجموعا بقوة شاعرا وإنسانا، رائيا ومرئيا، قائلا ومنطوقا، صورة وأصلا، كلمة ولحما، فكرة ودما، ارتجافة روح ومتانة صخر، إشراقا ووميضا.لمن لا يعرف سعدي أقول إن سعدي ترجم أديث سودرغران عن الإنكليزيّة. وهي ترجمة جميلة، لكنّها ككل ترجمة عبر لغة وسيطة تحدثت عن الغابة الإنكليزيّة، وهي تريد التحدث عن الغابة الاسكندنافيّة. وفي حقيقتها العمليّة والشعريّة كانت أديث خليطا أسوجيّا فنلنديّا روسيّا عالميّا، لا تستوطن الغابات التي تكتب عنها، كما نتوهم. بل تستوطن أنفس كائنات الغابة اللامرئية، التي تختفي خلف كثافة الأشجار والنباتات والظلال. الغابة كانت نفقها السري الى الأحلام العصيّة المنال، كما كانت ممرّها الضوئيّ الى طريق البيت الأليف. هناك ولدت، وهناك مضت الى خلودها.
تتكون قصيدة سعدي من أربعة مقاطع: الأول والثاني والثالث خارجة أو ربّما ذاهبة الى غابة أديث. هذا أمر يستطيع أيّ طائر تأكيده، تستطيع أيّ شجرة الاعتراف به، ويستطيع الصمت والضباب والنحل التحدث عنه بإسهاب وثراء، أكثر منـّي.بيد أنّ المقطع الرابع ينعطف فجأة في اتجاه مريب. يذهب الى بقعة الغموض العميق الواضح وضوح الشمس. من دون تمهيد، يتوقف سعدي في منتصف الغابة، حيث الغبش والضباب والمدخنة الشاحبة والصمت وأرجوحة الخيزران. يتوقف كما لو أنـّه تذكر بغتة أمرا جللا. يفتش في جيوبه، لكنـّه لا يجد ما يبحث عنه. أهو مفتاح البيت؟ ربما. متعجلا يغادر سعدي الغابة. لكنـّه، ياللعجب، لا يغادر أديث. يغادر الغابة مصطحبا أديث معه، في مشهد لم يحصل من قبل لا لأديث، ولا للغابة، ولا لسعدي.
يغادر سعدي معبده الشعريّ الشاخص أمامنا في هيئة غابة، لكنـّه لا يغادر سرير الملائكة. يتوجه الى غابة الذاكرة، الى غابات النعيم والجحيم، الى أبي الخصيب، الى سجن نقرة السلمان، الى متحف الضمير الحجري. هناك يضع العراق، كلـّه، أمامه صفا واحدا. يقف - ربما هو لا يقف، وإنما يجلس في بار بصبحة امرأة خدرة- لا أعرف حقيقة اللحظة هذه، لكنّي أعرف أنـّه يقف أمام عشرة آلاف مثقف وإعلاميّ عراقيّ مسجلين في قوائم الاتحادات والأحزاب والجيوش المتقاعدة، قائلا لهم: هذا أنا! من أنتم؟
كثيرون، سيسيئون فهم سلوك سعدي المغامر والمشاكس والمستفزّ. سيحسبونه يشتمهم، أو يستصغرهم. لكنّ سعدي لا يحاكم أحدا بسؤاله غير البرئ هذا، بل هو يحاكم نفسه. هو لا يطلب من أحد أن يجيب عن سؤاله. فقد كان هو نفسه المعنيّ بالسؤال. لذلك بدا جوابه مقتضبا، صريحا، واضحا وضوح قرط المماليك: العراق، العراق الأوّل اسمي.العراق الأوّل ليس اسما سياسيّا، ولا جغرافيّا، وليس اسما لعرق، أو آيديويوجيا خيّرة أو شرّيرة، دينيّة أو مدنيّة، خياليّة أو واقعيّة. العراق الأوّل هو اسم بيتنا الأوّل، هو باختصار شديد اسم حليب أمّهاتنا، وأغنية المهد اللعينة الأولى:" دللّول يا الولد يا ابني دللّول، عدوك ذليل وساكن الجول"،"
سعدي يعود من "الجول" - البرية المقفرة، المسكونة بالأرواح الشرّيرة- الى المهد، الى النهد، الى الحلمة التي أحبّها، والتي نصرّ جميعا على إبعاد فمه عنها. نصرّ نحن جميعا، ببراءة وبراعة القتلة، على إسكانه غابات مخازينا، لكي نخفي أثر الغابة الأولى، التي ألف سعدي نخيلها وسجونها، مفاتنها وقبائحها، عويلها وأغانيها، موبقاتها وأئمتها المنتظرين. أيّها المتزاحمون حول الجبّ، أيّها المرتابون بأرحام أمهاتكم، يا أخوة يوسف:
لا تقيموا له نصبا في ساحة أمّ البروم. تحاصصوه! ازدردوه! لكم هذا. لقد تحاصصتم كلّ شيء. تحاصصوه إذاَ، كما تحاصصتم الماء والسماء، النفط والقار، الحدود والجنود، ماركس وبريمر. تحاصصوه كما تحاصصتم رؤوس الحسين وشمر بن ذي الجوشن والمختار الثقفي! ولكن، لا تقصوه عن اسمه الذي وهبته أمّه إيّاه، عن عراقه الذي يراه حتـّى حينما يغلق نوافذ روحه، عن حلمه الناهض في الأغباش السومريّة: عراق الشاعر المفتون بالأبعد والأجمل والأبهى.
آن لنا أن ندعه يذهب الى مملكته الخضراء، الى غابته السرّيّة، الى اسمه الأوّل.دعوه يذهب الى بيته السمويّ المضاء بملايين الشموس الطليقة. أيّها المتزاحمون حول الجبّ! يا من سرقتم براءة الذئب، وبراعة القتلة!لقد خدعكم سعدي شرّ خدعة!سعدي لم يذهب الى الغابة، الغابات، كلـّهن، ذهبن اليه".

اخر تحديث الأربعاء, 09 فبراير/شباط 2022 11:55