شاعر الشعراء طباعة

(مصر)
'كلما خطوت خطوة في طريق الشعر الطويل.
أحسست بأني أقترب أكثر من الحرية'
سعدي يوسف
مثل قراء أبواب الحظ في الصحف اليومية، أحيانا أتعامل مع الكتابة والكتاب، خاصة الذين ينتمون الى منطقة الشرق الأوسط الموسع، فاقسمهم إلى ما يشبه الخريطة 'الإبداعية/ الثقافية' مثلما يوزع مؤلفو الأبراج البشر إلى فئات تحددها تواريخ ميلادهم، فهناك قسم للكتاب الجنوبيين وآخر لسكان أهل الشمال، وهناك قسم لسكان الصحارى والبراري وغيره لسكان السهول الزراعية، كذا أهل المدن الصغيرة وأهل المدن الكبيرة الصناعية أو التجارية، وقد وضعت طبعا لهذا التصنيف. الشاعر سعدي يوسف ضمن زمرة الشعراء الجنوبيين، وقد صدق هذا المرة حدسي وهو غالبا مايخيب رغم كون أدواتي في تصنيف الكتاب، ربما تخالف الأعراف والنظريات العلمية

لدي علماء الانثروبولوجيا وعلم اجتماع الأدب.
لاحظت أن الشعراء الجنوبيين تهيمن على رؤاهم أحاسيس الاقتلاع والاغتراب والرفض، وهو ما نراه عند السياب وأمل دنقل، فالجنوب في هذه المنطقة من الشرق الأوسط طارد بطبيعته، فقد ولد سعدي يوسف في نفس المنطقة التي ولد فيها السياب جنوب البصرة عام 1934 في 'أبي الخصيب'، بل انه، كما السياب، ترعرع يتيما في كنف أخيه الكبير، ثم رحل مثله مثل شعراء العراق في هذا الجيل الى بغداد ليلتحق بكلية المعلمين وهي المعهد الذي خرج منه جميع شعراء قصيدة التفعيلة الرواد في العراق مثل نازك الملائكة والسياب وغيرهم، ومرحلة الاغتراب والنفي هي المعلم الرئيسي في مسيرة 'سعدي يوسف' الشعرية، فلم يقتصر فعل الاقتلاع على هجرته الى الشمال المحلي، بل انه وحتى وقتنا هذا مازال منفيا خارج وطنه، ينتقل من منفى إلى منفى، ولكنه رغم هذا لايبكي مدارج الصبا، كما بكاها السياب طوال مسيرته الشعرية، لقد أصبح إنسانا وشاعرا أمميا وليس كوزمو بوليتانيا، فهو لايزخرف روحه بالثقافات المتعددة التي عاشها ويعيشها، فقد أصبحت جزءا من كيانه وطاقته الإبداعية، بحيث يصعب ردها إلى عناصرها الأولى.
****
قيمة سعدي يوسف تكمن فيما أحدثه من تغيرات في الشعر المكتوب بالعربية، هناك شعراء كبار استطاعوا التنظير لاتجاهات شعرية جديدة مثل شعراء مجلة شعر' اللبنانية لكنهم لم يستطيعوا تأكيد وترسيخ نظرياتهم إبداعيا وهناك شعراء قدموا الشعر والشعر فقط بينما يفتقرون الى ملكة التنظير والترويج، 'سعدي يوسف' في الفصيل الثاني، َمَثلْ شعره الموجة الأولى في التجديد الثالث لشعر العربية، كان التجديد الأول في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه 'شكري عياد' النموذج الرومنسي، الذي تثبت أقدامه بجماعتي 'الديوان' و'ابوللو' وكان التجديد الثاني بعد الحرب العالمية الثانية وهو ماعرف 'بجيل التفعيلة' أو جيل 'رواد الشعر الحديث' وكان منهم شاعرنا سعدي يوسف، أما التجديد الثالث فكان مواكبا لحركة 1968 الشبابية العالمية، وهو ما عرف بجيل السبعينيات.
هناك مفاصل تربط بين جيلين في الإبداع، وفي إبداعهم نجد عناصر التجديد مجاورة لعناصر التقليد، في مركب تمثل أدوات التفاعل والربط فيه الموهبة الاستثنائية للمبدع، هكذا كان شوقي ومطران في حركة التجديد الأولى، وكان محمود حسن اسماعيل في الحركة الثاني وفي حركة التجديد الثالثة كان أدونيس و'سعدي يوسف' الرابطة بين جيل السبعينيات وماقبله، ومابقي من جيل السبعينيات، هو نتاج رؤيتين للشعر واحدة ميتافيزيقية ومثلها أدونيس، والآخر واقعية جديدة، ومثلها 'سعدي يوسف' وهي واقعية بلا ضفاف كما وصفها روجيه جارودي، سحرية في ثقافة، ويومية جارحة في اخرى، فهي واقعية تنتمي إلى الثقافة التي أنتجتها وليست تلك الواقعية المعيارية العابرة للحضارات.
في بداية حركة التجديد الثالثة، كان لأدونيس تنظيرا وإبداعا الغلبة على الرؤية الأخرى، التي مثلها 'سعدي يوسف' ولكننا الآن عندما نلقي نظرة على شعر العربية الراهن سنجد أن الاتجاه الذي حفر له سعدي يوسف مجراه، قد امتلأ بالمياه، وأصبح نهرا هادرا، يتجه إلى مصبه في محيط الشعر العميق والمترامي الأطراف، فقد ولدت حركة تجديدية رابعة، تعود سماتها إلى رائدها الأول 'سعدي يوسف' الذي جمع بين عناصر التجديد التي مثلت العنصر المهيمن على شعره وبين عناصر التقليد التي نشأ 'سعدي يوسف' في أحضانها، ولكنها لم تستطع ابتلاعه، كما فعلت مع رفاقه من جيل الرواد.
لقد جمعت نصوص 'سعدي يوسف' بين مستويات عدة من التقنيات الشعرية، فقد اعتمدت هذه النصوص الحد الأدنى من البلاغة العربية التقليدية، فهي تكاد تخلو من الاستعارات والكنايات حيث تعتمد المفارقة كبديل للاستعارة والتشبيه فيها من الدرجة الأولى تسبقه أداة التشبيه، التي تؤدي وظيفة إضافية، غير وظيفتها في خلق الصورة، فهي أداة لقتل العاطفية والتقريب بين القارئ والصورة، وإزاحة الغموض والإبهام في النص، فالنص عند 'سعدي يوسف' يعتمد الشائع والمألوف واليومي كأدوات خلق لشعريته.
****
شعراء حركة التجديد الرابعة يعتمدون التفاصيل اليومية واللغة العربية المعاصرة، وخلق المشهد الشبيه بالمشهد السينمائي والمسرحي في نصوصهم، وكل هذه العناصر يعتمد نص 'سعدي يوسف' كعناصر أساسية تمثل بؤرة، النص، أي إنها ليست عناصر مساعدة أو هامشية، وفي دراسة فخري صالح في مجلة فصول، المجلد الخامس عشر العدد الثالث، خريف 1996 وعنوانها 'سعدي يوسف' شعرية قصيدة التفاصيل يقول الناقد.: 'الاتكاء على السرد وعناصره البنيوية، واستخدام المفارقة التي تعد عنصرا أساسيا في بناء الأنواع السردية، من رواية ومسرح وقصة قصيرة وسينما، يجعل شعر 'سعدي يوسف' شديد القرب من تجربة قصيدة النثر خلال العشرين عاما الأخيرة'.
قراءة 'سعدي يوسف' رغم بساطة نصوصه الظاهرة تحتاج الى وعي واشتباك مع العالم، لهذا فهو كما قيل عنه 'شاعر الشعراء' فلن يغفر له غير شاعر تغريده في منافيه بعيدا عن السرب البالغ من العمر أكثر من ستة عشر قرنا من الزمان.
بالنسبة لي يمثل 'سعدي يوسف' أحد روافدي الثقافية والشعرية بجوار بيرم التونسي وصلاح جاهين، وقد كتبت قصيدة من جزءين أوائل التثمانينات عندما كنت غارقا في تقصي نصوص التصوف الكبرى في الحضارة الإسلامية، وقد نشرت القصيدة ناقصة في مجلة 'الكرمل' الفلسطينية عام 1984 في العدد الخاص بالأدب المصري، كما قدمتها لمراقبي النصوص في مهرجان المربد العراقي عام 1985 ولم القها بالطبع وهذه القصيدة ذات الجزءين كانت بعنوان 'سعدي يوسف (1)' و'سعدي يوسف (2)' وقد ضمها ديواني الطاولة 48 الذي صدرت له طبعة خاصة عام 1989، وطبعة ثانية عن الهيئة العامة للكتاب عام 1993.
****