صيانة المودة طباعة

(فلسطين)
Imageمنذ قرأت شعر سعدي يوسف، صار هو الأقرب إلي ذائقتي الشعرية. في قصيدته الشفَّافة صفاء اللوحة المائية، وفي صوتها الخافت إيقاع الحياة اليومية.
وقد أجازف بالظن أنه، ودون أن يكتب (قصيدة النثر) السائدة اليوم، أَحد الذين أصبحوا من ملهميها الكبار، فهي تتحرٌك في المناخ التعبيري الذي أَشاعه شعر سعدي في الذائقة الجمالية، منذ أَتقن فَنَّ المزج بين الغنائية والسردية.
وهو أَحد شعرائنا الكبار الذين قادهم الشعر أَو قادوه إلي التمرٌد على تعالي اللغة الشعرية،

وإلى تأسيس بلاغة جديدة، ظاهرها الزهْد، وباطنها البحث عن الجوهر... ليصبح الشعر في قصيدته هو الحياة بسليقتها وتلقائيتها، والحياة هي الشعر، حين تكتبه ذات ليست ذاتية تماما. فقد تماهت الذات مع الموضوع، وتآلف الموضوع مع الخصوصية الذاتية... دون أن يتخلَّي الشاعر عن قدر من (حياد) موضوعي، يخفٌِف عن القصيدة طابعها الأوتوغرافي، ويوَفٌِر لها استقلالا عن سيرة صاحبها.
الشاعر أم القصيدة؟
ليس هذا سؤال سعدي يوسف، فقد بلغ من النضج خبرة قادرة علي أن تجعل حياة الشاعر وحياة النَصٌِ واحدة ومنفصلة في آن واحد، فهو يعبٌر عن نفسه، ولا يعبّر عنها وحدها، في اللقاء الحميم بين داخله الذاتي وخارجه الموضوعي في عملية مركٌبة يتبادلان فيها الأدوار.
سعدي يوسف، الذي يحاور نَصّه الشعري تاريخ الشعر، لا يشبه شاعرا عربيا آخر، لكن الكثيرين من الشعراء أرادوا أن يشبهوا سعدي، وعانوا مما أَسماه هارولد بلوم (قلق التأثير(.
لقد بهرتني بساطة سعدي المعقٌدة، في نزوعها إلى البحث عن شعرية الأشياء الصغيرة الكامنة في نثر الحياة، والبحث عن العلاقات السرية بين اليومي والتاريخي. وبهرني أكثر من ذلك إلحاحه علي محاولة الإمساك بالحاضر الهارب.
وإذا كان صحيحا أَن في داخل كل شاعر مجموعة من الشعراء كما يقول أوكتافيو باز، وأن النص هو محاورة مع نصوص أخرى، فإن سعدي يوسف كان أحد الشعراء الذين درَّبني شعرهم على التنقيب عن الشعري في ما لا يبدو أنه شعري، وأَغراني بمقاومة الإغراء الإيقاعي الصاخب، وبالاقتصاد في البلاغة.
وكم سئلت عن فترات َبيَاتي شعري مررت بها، وكنت أَقول دائما: ما دام سعدي يوسف يكتب، فإنني أَشعر بأنه يكتب نيابة عنٌِي!
صديقي منذ ثلاثة عقود. لم نتوقف عن صيانة المودٌة المتبادلة، النادرة بين الشعراء، منذ التقينا للمرٌة الأولى في بغداد. كان في آخر الليل متهوٌرا يقود سيارة هرمة، كادت تسقط بنا في دجلة. كم خفت من موت عبثي ينتظرنا في قاع النهر. لكننا اليوم، نحتفل بعيد ميلاده السبعين. هو في لندن، وأنا في رام الله.
أتذكره في منافيه العديدة، في بيروت، وفي عدن، وفي نيقوسيا، وفي باريس، وفي عمٌان... يعتني بأصص الصبَّار.
لقد أدمن سعدي يوسف المنفى، فصار جزءا عضويا من حياته ومن لغته، لا باعتباره مكانا جغرافيا نقيضا للوطن فحسب، بل باعتباره مجالا حيويا لتعرٌف الذات إلى نفسها في الآخر، وللتأمل في الأشياء الأولى من بعيد، وباعتباره قيمة أدبية تعبٌِر عن غربة وجودية.
كنا دائما نؤمن بأن الغد أَجمل. لكن التاريخ يفاجئنا دائما بخيبة أَمل جديدة، تغري الشاعر بمديح أمس. بيد أَنَّ الشعر لا يمتثل إلى هذه المحنة، لأنه أَدمن النظر إلى أَبعد... وإلى أعلى.
*****