سعدي يوسف.. دوحة الكستناء طباعة

مقالة بقلم الدكتور: ضياء خضير

دوحة الكستناء هذه التي "أسقطتها رياح شمالية هبت الفجر" كما تبدو في القصيدة شجرة حقيقية قريبة من الغابة التي تطوق بيت الشاعر العراقي المعتزل شمال العاصمة البريطانية لندن. وهي، في الوقت نفسه، شجرة خيالية يمكن أن ترمز  للشاعر الذي يتوقع وسط عزلته المكتهلة السقوط مثل هذه الشجرة في أية لحظة.

فهي تؤلف إذا معادلا موضوعيا وظيفته تكمن في التعبير عن عواطف الشاعر الداخلية غير المعلنة والتي يمكن أن نتلمسها ونراها عن طريق العرض أكثر من الوصف المباشر  للمشاعر . وهي، بهذا، تستبدل التقسيم القديم الذي وضعه أفلاطون عن التمثيل والمحاكاة لأشياء غير موجودة إلا في سماء المثُل لتجعلها تمثيلا أو محاكاة لأشياء واقعية موجودة على هذه الأرض، ولكنها ترتفع هنا حين تدخل قفص القصيدة لتكون رمزا واستعارة وظيفتهما الأساسية توفير جماليات النص واكسابه قدرا من التركيب وقبول التأويل وتبعدانه عن أن يكون ذا بعد واحد.

فالابتعاد عن الأداء العاطفي والتعبيري المباشر  عن طريق خلق العناصر  والأشياء الخارجية التي يرتبط بها الشاعر  من الناحية النفسية، مع انفصاله عنها من الناحية الظاهرية، هو الذي يعمل على توفير وحدة العمل الفنية، مع أنها تبدو كما لو كانت تفصل الشاعر  عن موضوعه، وهو هنا شجرة الكستناء التي سقطت قريبا منه.

وهذه الموازاة أو المماثلة والتشابه بين الشاعر  والشجرة موضوع  هذه القصيدة ذات وجوه متعددة. منها هذا الثبات المتطاول والمشرئب بوجهه وأغصانه نحو السماء، والقدرة على المقاومة والوقوف الشاهق بوجه العواصف والظروف الطبيعية، والكرم البالغ الذي يوفر  الثمار والظل العميق والحضن الذي تأوي له الطيور بأشكالها من عصافير ويمام، وكذلك السناجب التي تجد في الشجرة الكبيرة وثمارها ملجأ وغذاء.

والسؤال الذي يطرحه الشاعر عن مصير هذه الطيور  والسناجب بعد اختفاء هذه الشجرة هو،في الواقع، سؤال عن مآل الوجود الشخصي للشاعر بعد أن طال الضعف والوهن كل أنحاء جسده دون أن يمس روحه في عزلته تلك بعد أن:

"لم يَعُدِ المرتقى شاهقاً،

ليس من غصُنٍ مُوغِلٍ في السماءِ

التي أقفَرَتْ ،

ليس من شبحٍ في الظلام"

و(خلو الظلام من الشبح) يشبه أن يكون خلوا للمكان من المعنى، والسماء من غصن السؤال الموغل في الصعود إلى مرتقى الخيال والجمال الذي ينطوي عليه البحث عن السر الخبيئ في هذا العالم.

كما أن عراقة هذه الشجرة التي تتشرّبُ ماءَ البُحيرةمن عَتْمةِ الجذرِ حتى الثمارْ"، تشبه

عراقة الشاعر  الذي أمضى حياته بحثا عما يغذي به شجرة حياته وثمار قصائده من هذه الجذور العميقة بكل أشكالها المتوفرة في الواقع المعاصر والتاريخ والصور الشعرية الطازجة، واللغة المبرأة من أنفاس الآخرين واستخداماتهم.

والشاعر  يعود إلى تأكيد هذه العلاقة في المقطع الأخير من القصيدة حين يقول:

"دوحةُ الكستناءِ التي سقطتْ

سوف تأتي إلَيّ

سوف تأتي

لتدخلَ غرفةَ نومي...

فتمنحَني

الكستناءةَ...

تلكَ التي ليس يعرفُها في العشيّاتِ ،

إلاّ امرؤٌ لا ينامْ".

فهذه الشجرة التي سقطت وتخلت هكذا عن ثمارها وطيورها سوف تأتي إلى غرفة نوم الشاعر  لتمنحه ثمرتها (الكستناءة) التي تبدو كما لو كانت بديلا أو مرادفا صوتيا ودلاليا  للكلمة الأخرى (الهناءة) والتي لا يعرفها في العشيات ويقدر قيمتها غير الشاعر  نفسه. وهو لا ينام لأنه ينتظر العلامة والإشارة التي حملها إلى حياته السقوط المفاجئ، المتوقع وغير المتوقع، لهذه الشجرة.

والقصيدة بمقطعيها الأول والثاني وما بينهما من نقاط فراغ، تشير إلى الزمن الفاصل بين موت الشجرة وزيارتها المرتقبة للشاعر،  مبنية على نظام إيقاعي ودلالي ثابت وغير ملتزم بغير تفعيلة المتدارك (فاعلن) مع قد يصيبها من زحاف وتشعيث.

28.09.2020

والجملة التي قد تأتي تامة في سطر  أو ناقصة في آخر، لا تنتظر الختام بقافية موحدة توقف نمو السطر إلا بعد الفراغ من المعنى وإتمامه حتى إذا زادت التفعيلات عن العدد المعهود في بحر المتدارك. ولذلك فبالإمكان الحديث في هذه القصيدة عن ثلاثة أبيات مكتوبة على هذا النمط المختصر أو الممتد في تفعيلاته التي تختتم في كل مرة بقافية الميم المسبوقة بالألف. وهي اليمام والظلام و ينام، على التوالي.

***

يبقى أن نشير إلى أن قصيدة سعدي يوسف هذه تذكرنا بقصيدة الشاعر الأمريكيHenry) (Wadsworth Longfellow المسماة قرية الحداد  (Blacksmith Village (Theالتي كتبها عام 1842 للتعبير  عن حزن الشاعر  وألمه لتحول دوحة الكستناء تلك التي يعرفها  مثلما تعرفها قرية الحداد، والحداد نفسه الذي كان يستظل بظلالها، تتحول إلى قطع من الخشب يصنع منه الكرسي الذي يجلس عليه الشاعر.

فهي قصيدة رثاء طويلة لتلك الشجرة الكريمة التي كانت ثمارها تؤلف جزءا من غذاء تلك القرية الامريكية في ذلك الحين البعيد من الدهر. وليس بين قصيدتي الشاعر العراقي والشاعر الأمريكي من علاقة في غير  الموضوع الخاص بموت هذه الشجرة أو سقوطها. والغربة التي جعلت سعدي يوسف لا يتحدث هنا عن سقوط نخلة البرحي البصرية ومذاق ثمرها العسل، وإنما عن الكستناءة التي ستقدمها له جارته القريبة دوحة الكستناء وما صنعته إلفة الفضاء الجديد وأشيائه التي جمعت الشاعرين للحديث عما أصاب هذه الشجرة المباركة.

اخر تحديث الإثنين, 28 شتنبر/أيلول 2020 18:07