قصيدة سعدي يوسف (الأميرة) قراءة نقدية مقارنة.. طباعة

د.ضياء خضير

الأميرة

سعدي يوسف

الفراشةْ

نحلةٌ بجناحَي مَلاكْ

هل رأيتَ الفراشةَ ، وهي تراكْ ؟

الفراشةُ كانت ترِفُّ

ترفرفُ

لكنها الآنَ مشغولةٌ بسواكْ ...

الفراشةُ لا تأْمَنُ

الفراشةُ تُؤتمَنُ ...

الآنَ

تدخلُ في حانةِ القانطِينَ ، الفراشةُ :

تختارُ طاولةً

ثم تختارُ شخصاً ...

تقولُ لهُ :

أنتَ حُبِّي

حبيبي ...

ورُبّتَما صدّقَ الشخصُ ما غمغمَتْهُ الفراشةُ ،

رُبّتَما مَدَّ إصبعَهُ ...

غيرَ أنّ الفراشةَ

مثل الأميرةِ ؛

في لحظةٍ

وبكلِّ مَهابتِها

تنحني ...

وتطير !

لندن في 12.08.2020

ما يميز هذه القصيدة الصغيرة من قصائد سعدي يوسف المكتوبة حديثا، ليس فقط سهولة اللغة وخفتها التي تشبه خفة جناح الفراشة، بل أيضا طريقة المزج والتركيب الذي تختلط فيه صورة هذه الفراشة المرئية بالشاعر الرائي.  لغة متحركة وطائرة مثل الفراشة، ترف وترفرف، ولا تمسك بمعنى حتى تنشغل بسواه.

فهذه الفراشة - النحلة بجناحي ملاك لها ، مثل صاحبهاالشاعر،  القدرة على الاختيار  والكلام وإعلان الحب. غير أن الأمر لا ينتهي أو يتوقف عند هذه الصورة الغريبة، وإنما يتعداه إلى صورة الفراشة (الأميرة) أو المرأة التي تختار أحدًا في الحانة التي دخلتها لتقول له أنت حبي وحبيبي. وبما أن هذه الحانة هي حانة (القانطين) إياها، وليس أخرى سواها، فإن الضمير  أو الخطاب المضمر في مجمل هذا المقطع من القصيدة يعود بنا إلى استذكار الشاعر نفسه باعتباره أحد هؤلاء القانطين الذين يختلفون إلى هذه الحانة الخاصة، والتي تشكل مثل تلك المرأة - الفراشة بالنسبة إلى البشر القاطنين فيها الأمل المستحيل والفكرة التي تأتي ولا تأتي، تقترب من التحقق، ولكنها تبتعد وتطير بكل مهابتها، ولتُبقي صاحبَها الذي اختارته عند موضعه في حانة القانطين بعد أن أوشك على تصديق ما يسمعه من غمغمة الفراشة الأميرة، وما يراه في عيني خياله من أن ما حدث له معها كان واقعا حقيقيا، وليس حلما خياليا.

وهكذا، فهذه القطعة، أو اللوحةالشعرية المرسومة بألوان مائية خفيفة، تخفي بين بقعها وخطوطها المختلفة أو  مقاطعها وكلماتها البسيطة، معاني رمزية غائرة بين طياتها، تتعدى الصورة الواقعية المرسومة لهذه الفراشة التي يستحضر الشاعر من خلالها روح الطبيعة (كان الرومان مثل اليابانيين يتصورون الروح عند خروجها من الجسد فراشة جميلة) وخفة الوجود ورقته والفرح الذي يمكن أن يدخل من خلاله السرور إلى قلب الشاعر .

وهذه القصيدة تذكرنا بقصائد شعرية أخرى عديدة موضوعها هذه الفراشة، منها فراشة الشاعر الإنكليزي المعروف وليم وردزورث William Wordsworth التي يقول فيها:

"تعالي غالباً عندما تشائين، حطي هنا دون خوف،

على الغصن بالقرب منا!

لنتحدث معاً عن الشمس، عن الشكاوي،

عن ايام طفولتنا الحلوة، عن ايام الصيف الخوالي"

وقصيدة محمود درويش (أثر الفراشة) التي يقول فيها:

"أثر الفراشة لا يرى

أثر الفراشة لا يزول

هو جاذبية غامض

يستدرج المعنى، ويرحل

حين يتضح السبيل

هو خفة الأبدي في اليومي

أشواق إلى أعلى

وإشراق جميل.."

ونحن ننتقل بين هذه النصوص الثلاثة من الصورة الرومانسية والتعبير العاطفي الحالم عند الشاعر الإنكليزي، إلى الصورة المحللة التي ترى في هذا المخلوق الجميل تعبيرا عن جوهر الوجود وروحه المضمرة وأثره الذي لا يزول عند الشاعر الفلسطيني، إلى التعبير  الذي نرى فيه هذه المواءمة بين الصورة الطبيعية الرومانسية، الواقعية والرمزية، العاطفية والفلسفية مجتمعة كلها في نص الشاعر العراقي.

والخطاب العاطفي والرومانسي العامر بروح العاطفة والحب لدى وردزورث، والتحليل الفلسفي الذي يرى في الفراشة تعبيرا عن جوهر الوجود وجمالياته الغامضة التي تستدرج المعنى وتجذبه لدى محمود درويش، إلى الصورة الواقعية والرمزية التي تتحول فيها هذه الفراشة الجميلة إلى (أميرة) وفكرة خيالية محلقة تجمع، في ألوانها، الأفق الرومانسي والفلسفي المُعَبَّر عنه بالفعل الواقعي والخيالي الذي لا تكتفي فيه هذه الفراشة پأن تُرى وتكون مجرد موضوع للوصف والتعليق والمعاينة، وإنما تكون هي الأخرى،  ذاتا قادرة على الرؤية وتبادل ِالحركة والفعل السردي مع صاحبها السارد؛ فهي تأمن ولا تُؤتمن، تَرى ولا تُرى فقط:

"هل رأيتَ الفراشةَ ، وهي تراكْ ؟

الفراشةُ كانت ترِفُّ

ترفرفُ

لكنها الآنَ مشغولةٌ بسواكْ ...

الفراشةُ لا تأْمَنُ

الفراشةُ تُؤتمَنُ .. إلخ..."

أي أن هناك بؤرة، أو بنية مركزية مختلفة في كل قصيدة من هذه القصائد.

وهي تتمثل في الواقعة العاطفية المصطلح عليها بالرومانسية المتعلقة بالطبيعة وشؤون القلب في قصيدة وردزورث، وهي الذاكرة الوجودية ذات الطابع الفلسفي المتصل بالعقل عند محمود درويش، وهي مسافة الرؤية والصورة المتصلة بالعين بالدرجة الأولى، ولكنها تفسح المجال للرؤيا الأكثر مدى وسعة أفق عند سعدي يوسف.

اخر تحديث السبت, 15 غشت/آب 2020 18:31