سعدي يوسف في (ديوان السونيت) طباعة

استلهام مزدوج لسونيتات (شكسبير) ومُوشّحات (الحبُّوبي)

محمد مظلوم

تبدو الحدود الفاصلة بين سيرة سعدي يوسف مع المنفى والترحُّل وتغيير الأمكنة، وبين طبيعة تجربته الشعرية ذات الخصوصية الدؤوبة على تجريب الأشكال (والمحاولات التي أفضتْ إلى تحوُّلات) تبدو متداخلةً إلى حدٍّ كبير، وفي الوقت نفسه تمتاز تجربته الكتابية على صعيد الموضوعات، بالغزارة والتنوع فبينما يواصل هذا الشاعرخصوبته الإبداعية

وهو في منتصف الثمانينات من عمره، حتى فاق عددُ كتبه سنوات عمره، فإن انعكاس ظلال تلك الأسفار بدا واضحاً على التنوع والتجريب الشكلي في تجربته الشعرية التي كثيراً ما تحوَّلتْ هي الأخرى عبر الأمكنة المتعددة التي أقام فيها، فكل حقبة من تجربته امتازت بخصائص المكان والأشكال المختلفة التي انعكست على معمار قصيدته وهي علاقة يمكن أن يلخصها بيت أبي العتاهية:

طلبتُ المستقرَّ بِكُلِّ أرضٍ 

فَلَم أرَ ليْ بأرْضٍ مُستَقرَّا

ويمكن استبدال كلمة (أرض) في الشطر الأول، بكلمة (شكل) باطمئنان كامل في أية مقاربة لشعر سعدي يوسف وعلاقة شكله الشعري بالمكان. فدواوين مثل (نهايات الشمال الإفريقي) و(الأخضر بن يوسف ومشاغله) اللذان يمثلان تجربة إقامته في الجزائر، شكلا تغريبة مغاربية بينما شكلت (الليالي كلها) و(تحت جدارية فائق حسن) انعطافة (بغدادية) للشاعر البصري القادم من ريف أبي الخصيب، وكذا الحال في سائر مدن الترحال والنفي: عدن وبيروت ودمشق وعمان وقبرص وباريس وصولاً إلى منفاه الحالي في لندن.

ربما كان النخيل هو الأفق التأمُّلي الذي يجمع ما بين بساتين أبي الخصيب والجزائر واليمن، وصولاً إلى غابات بريطانيا، في المشهد العام، لكن تجربته في (العاصمة القديمة) للكولونيالية امتازت بنوع من الشعر الرعوي التأملي، ومشهدية الطبيعة، وهو ما اتسمت به قصائده خلال العقدين الأخيرين، لكن سعدي المصغي جيداً لحركة الأشياء والتفاصيل اليومية الأخرى لم يغفل عما يجري تحت ظلال نخيل وادي الرافدين، وفي الأفق البعيد الذي تخفيه خلف اهتزازات سعفاتها، فأعاد تشكيل قصيدته عبر تلك الرحلات وباستمرار.

وفي كل هذا لم يبتعد عن (نخيل العراق) وتراجيدياه المستمرّة بين زمن الدكتاتورية وصولاً إلى حقبة الاحتلال التي خصَّصَ لها ديوانه (صلاة الوثني)

وفي ديوانه الجديد (ديوان السونيت) الصادر عن دار التكوين-دمشق، مصحوباً بتخطيطات قرائية مستوحاة للفنان السوري يوسف عبدلكي، يستلهم شكلاً شكسبيرياً، عبر خمسين سونيتاً تقوم على التزام وحدة شكلية محكمة.

و(السونيت) كما ابتكره الإيطاليون على يد لينتينو، واقترن أكثر باسم بترارك، يعني في منشئه الإيطالي-الأوربي الأساسي، (أغنية قصيرة) لكن الغناء هنا ليس ملحمياً ولا انثيالاً مفتوحاً، إنما هو شكل مركَّز ومقطَّر ومحدَّد، فهو أغنية داخلية للنفس، وهمس مترسِّل، وبوح لا ينتابه ضجيج لصوت خارجي. ومثلما ارتبط السونيت في إيطاليا باسم بترارك، ارتبط في إنكلترا باسم شكسبير رغم أنه استجلب أولا من قبل عدة شعراء انكليز في القرن السادس عشر، لكن سونيتات شكسبير التي كتبها أواخر ذلك القرن السوناتة أسست تقليداً للكتابة يقوم على مشاعر واحدة ومحددة، مع (تجلي) أو (إغلاق) الفكرة كخاتمة في البيتين الأخيرين.

ولأن السونيت يستمدّ موضوعاته من الحب ومناجاة العمر الغابر، واستعادة الذكريات، بإيقاع وجداني، فقد ارتبط في تقاليد الشعر الأوربي، بالبحر الإيامبي (الخماسي التفاعيل) ومنذ ذلك الوقت زاحم هيمنة الوزن البطولي الملحمي سداسي التفاعيل، في محاولة للتخلص من الضجيج الملحمي والإنشادي الذي كان سائداً. بيد أنَّ سعدي لا يتبنى إيقاعاً محدداً لكتابة مقترحه للسونيت العربي لم يخضع إيقاع السونيت لوزن محدَّد فقد كتب بعدة بحور شعرية مؤتلفة التفاعيل كالرمل (الذي يبدو أنسب إيقاع للسونيت كما كان للموشح) وكذلك الكامل والوافر والمتقارب والمتدارك، إضافة إلى البحور ذات التفعيلات المختلفة كالطويل والبسيط والخفيف، وإذ اعتمد على بحور عربية، سمتها (الجلجلة) كالطويل الذي يبدأ به أولى السونيتات، إلا إنه نجح في ترشيق اختلاف التفعيلات وتناوبها في البحور غير المؤتلفة، وقدَّم في أغلبها همساً داخلياً ينسجم مع تأمل السونيت، فيما حاول على صعيد المضامين تجربة موضوعات مختلفة فضمَّن هذا الشكل، موضوعات في السياسة والتاريخ كما في قصائد: (لينين) و(نابليون) و(نصيحة أبو إياد) و(هيروشيما العراق) وهذه الأخيرة بالذات ذات نبرة هجائية صريحة يبدو من الصعب إدراجها ضمن الخصائص الفنية الداخلية للسونيت، ما عدا شكلها الإيقاعي.

هكذا يجمع سعدي ما بين بحور الشعر، وتخوم المدن الساحلية، والأشخاص الذين وقفوا على تلك الشواطئ أو عبروا منها إلى أبديتهم ففي اليمن يستعيد شاطئ  رامبووإرث حضرموت وأيام عدن، وصورة عبد العزيز المقالح، وفي الجزائر تتموج أيامه في العاصمة وتلمسان وحسين داي وسيدي بلعباس، مشحونة بوجوه الطاهر وطار وحسين قهوجي ومحجوب العياري، وفي الطريق إلى حلب حيث المعرَّة، يلوح ظل المعري ومحبسه: المولد والمدفن. لكنَّ أبا نواس والبصرة هما الأكثر حضوراً في السونيتات الخمسين، فقد خصَّصَ للشاعر البصري (ثلاث سونيتات) تلخص حياة الشاعر الذي يستعيد من خلاله سيرته الذاتية الخاصة من خلال صورته طفلاً في البصرة، وشاباً في حانات بغداد، ثم محتضراً مغتالاً على يد (آل نوبخت)

ويعلن انتماءه لخياره الشعري المتمرد في الحانة والاحتجاج من خلال وعد شعري:

(بضفيرتَينِ، وراءَ ظَهرِكَ، يا فتى،

بالقِرْطِ في اليُسرى، وبالأسمالِ، أمضي

سأظلُّ، مثلكَ، صائحاً أو صامتا

سأظلُّ في الصّهَدِ الـمُـمـِضِّ

سأظلُّ، يا ابنَ مدينتي، في مأْمَنِ المنفى

لأقولَ شيئاً لن يقالَ، وأُلْغِزَ الحرفا)

في تقديمه الوجيز لقصائد الديوان يصف سعدي ديوان السونيت بأنه (امتحان ذاتٍ صعب) في شكل (غير متوافر، في تفصيله الدقيق، عربيّاً) لكنها محنة التجريب. لقد ضاق الثوب، وأخْلق. واستُقدمَ ما لا يليق لقد حاولتُ أن أروِّضَ نمراً...)

والواقع أن إرهاصات السونيت في الشعر العربي والمشرقي عموماً يمكن تلمسها في مقطوعات الوجد لدى الشعراء الصوفيين. وكذلك محاولات الشعر العربي في عصور المتأخرة نسبياً في التسميط والتخميس والتشطير، حيث غالباً ما تجتمع في القصيدة ثلاثة رباعيات ومثنوي، وكذلك في الترجمات المبكرة الموزونة لغزليات حافظ شيرازي، من حيث قيامها على المقطعية لكن باستبدال تعدد القافية بتعدد الفكرة التي عادة ما تقوم على الحب ورثاء العمر واستعادة الذكريات. كما أن الموشحات الأندلسية تعد شكل قريباً من السونيت، ولعل تجربة الحبوبي، في تجديد التوشيح الغنائي متعدد المقاطع والقوافي، أقرب نموذج لروح السونيت وشكله، سواء في عراقياته، أو نجدياته، أو إخوانيته. ويبدو موشحه (هزَّت الزوراءُ أعطافَ الصفا) نموذجاً دقيقاً لذلك. لذا فإن الشكل العام للسونيت لا يبدو طارئاً تماماً، لكن ما فعله سعدي وامتاز به هنا، إنه التزم التزاماً صارماً بالشكل الشكسبيري للسونيت: أي أربعة عشر سطراً، وليس أربعة عشر بيتاً، مقسمة، بصرامة أيضاً، على مقاطع ذات قافية متغيرة تجمع بين الرباعي والمثنوي حيث ثلاث رباعيات متعددة القوافي موحدة الوزن، يليها مثنوي (من شطرين وليس بيتين) بقافية مختلفة، فالبيت العربي من شطرين، لا كما في السونيت الأوربي حيث كل سطر يشكِّل بيتاً.

والواقع أن السونيت برزخ آخر مرَّتْ به القصيدة العربية في طريقها لقصيدة التفعيلة لكنها لم تتوقَّفْ عنده كثيراً، ولم يترسخ شكلاً شعرياً قارَّاً، كما لم يدرس نقدياً بوصفه ممراً للعبور بالشكل الشعري نحو مسارب أخرى ، خاصة إذا ما استذكرنا تأثر ما سمِّي جيل الرواد في العراق، بشعر مدرسة أبولو المصريين، فالسيَّاب كان معجباً بشعر علي محمود طه وأرسل له مطولته الشعرية (بين الروح والجسد) فيما اهتمت نازك بشعره وكتبت رسالتها لنيل الماجستير عن شعره (الصومعة والشرفة الحمراء-دراسة نقدية في شعر على محمود طه) والبياتي كان معجباً بشعر إبراهيم ناجي، فهؤلاء كتبوا القصيدة بقوافٍ متنوعة أو متوالية في محاولات أقرب للرباعيات والسونيتات. وهكذا يحاول سعدي في (ديوان السونيت) تجديد السؤال حول (حلقة مفقودة) في تطور القصيدة العربية وتحولها من الشعر العمودي بقوافيه الموحَّدة، إلى قصيدة التفعيلة، هل هي في الموشح الأندلسي؟ أم في شعر البَنْد العراقي؟ وهو سؤال لا يزال بحاجة إلى دراسات مُتعمِّقة للبحث عن المرجع الخفيِّ لقصيدة التفعيلة في الشعر العربي، ذلك أنَّ فرضيَّة التأثر الأوربي أشبعت بحثاً حتى أنهكت نتائجها.

اخر تحديث الأحد, 15 شتنبر/أيلول 2019 07:48