قصيدة سعدي يوسف " إصغاء الأصم " طباعة

د. ضياء خضير

"شجرٌ

لست أعرفُ ماذا أُسميه

يطرق ما تجمع ُ النافذة

من فضاء ...

كأن الغصون التي عريت صارت المعدنَ المستحيل

الأصابعَ في مرسم لصديقي الذي جُن

..……….

............

............

كان الضباب يشفّ

قليلاً

قليلاً

عن النبتة – النقش في ما يُقال الستائر؛

أُصغي إلى نفسي في البيانو المعطّل

هل آن أن أرتدي ما يقيني

وأخرج؟

( إني أُحس صلاصل في الصُدغ)

لكنما الغابة الآن تدخل منأى الضباب...

إذاً ، لن أغادر زاويتي ؛

سوف أتبعُ ( أسمعُ؟) ما يصنع الكون

ما تفعل النغمات الخفيّة بي ...

سوف أُغمض خطوي

وأُرهف همساً  تلاشى

لأمضي إلى ما يريد الضباب". .

تمثل قصيدة سعدي يوسف ( إصغاء الأصم ) أهمية خاصة ، بحيث يمكن أن تكون أنموذجا نتبيّن من خلاله جانبا من صعوبات اللغة الشعرية الحديثة  ، المرتبطة برؤيا وبموقف من الوجود ، وكذلك اهتمامات الشاعر وانشغالاته الشعرية الأكثر تخفيّا وعمقا في هذه المرحلة الأخيرة من حياته  الحافلة بالمنافي والتحولات والتطلعات نحو تعبير أكثر تجذّرا  وارتباطا بكينونة  الشاعر والوجود المضطرب من حوله .

ثمّة شعور أساسي يخامر الشاعر الأصم في هذه القصيدة ، هو فقدان الشعور بالمشاركة في حياة الآخرين ، فقدان الإحساس بالتواصل مع الواقع الحي وصخبه ، انغلاق الأفق أمامه ، وتضاؤل مصادر الإبداع التي تحّركه . شعور بالعزلة  يطوقه ، عزلة تجَمد الآفاق من حوله وتغلقُها دافعةً ذات الشاعر نحو الاحساس بمزيد من الوحشة ، خصوصاً إذا جاء هذا الشعور بالصمم متأخراً بعد حياة طويلة متدفقة ما كان صاحبها يطمح بأقل من الرغبة في الإحاطة بالعالم ، تطويقه والإمساك بنبضه وإيقاعه العميق ..

إن القصيدة في مجملها نوع من التعبير عن  الفراغ الأنطولوجي الذي يُدركُ بوصفه نقصا في اللغة وتلكؤاً في اللسان . الصمم يولّد الحبسة ، ويُورث فقدان الكلام ، أو تلجلج اللسان، وعدم قدرة المرء على دعوة الأشياء بأسمائها . فهذه الأشياء مرتبطة بالفكر واللغة والصوت ، وهو ظاهرة اجتماعية وطبيعية ، وليس مجرد قدرة فرديّة .الأصم من الناس يُضطر إلى إجراء مناقلة حاسمة تتغير معها الأولويات عنده ؛يستبدل البصر بالسمع مع تأكيده المبالغ فيه على عنصر الإصغاء المرتبط بالسمع أكثر من ارتباطه بالبصر .ومصدر المفارقة في هذا الوضع البشري الغريب هو أن الأصم  يـُصغي مع أنه لا يسمع ، أو هو يسمع أصواتاً أخرى ، وبطريقة أخرى مختلفة .

وهي ، في الحق ، مهمة الشاعر الأساسية في هذا العصر وكل عصر . . أن لا يسمع أو لا يريد أن يسمع ، ولايرى أو لا يريد أن يرى ، ما يسمعه ويراه الآخرون.

إنه يريد أن يُصغي فقط بطريقته الخاصة ليسمع أصواتاً غير مسموعة ويرى أشياء غير مرئية . . أن يُبقي على وحشة الوجود أو دهشته منه ، ويتخلّص من الكلمات الميتة والأسماء المستهلكة .

وهكذا ، فالأصم لا يسمع الأصوات ، ولا يستطيع أن يسمي الأشياء ،ولا يسمّي (الشجر) في مطلع القصيدة . هل يحدث ذلك لأن هذا الشجر غريب حقا لا يعرف الشاعر الغريب  ،هو الآخر، شبيها له في أرضه وسمائه الأولى ؟  ذلك ممكن . ولكن هناك ، كما ذكرنا ، سببا أعمق لهذا الجهل بالأسماء الذي سيتكرر في القصيدة بأشكال مختلفة ، كما سنرى . وقد ذكرنا أن الأشياء التي لا صوت ولا إيقاع واضحا لها تفتقد الأسماء ، والكيان المحدد في وعي الأصم وذاكرته .

وحين علّم الله آدم الأسماء كلها أطلعه على حقائقها وماهياتها ، وليس فقط على الرموز والمدلولات التي تشير إليها . أي أن الدال يقود المدلول ويرتبط  به ارتباطا وجوديا لا شك فيه ولا برء منه . وسنرى أن عدم معرفة الأصم في القصيدة باسم الشجر يقود إلى مجموعة من الإشكالات المتصلة بطبيعة الوظيفة التي يؤديها الاسم . وهو ما يدفع إلى المجاز والتلميح وأشكال التعبير الأخرى غير المباشرة . إذ إن الانزياح عن معرفة الاسم يؤدي إلى انزياح مقابل في معرفة مسماه ووظيفته التقليدية المتمثّلة في الربط بين  الكلمات والأشياء .   ولذلك لا يصبح غريبا أن أغصان هذا الشجر تتحول إلى ( معدن) يطرق على ما (تجمع) النافذة من فضاء ، أو هي تستحيل ( أصابع) في مرسم صديق يعرفه ذلك الأصم المصغي . أي أن ذلك الفضاء الذي تجمعه النافذة في إطارها يتحول إلى لوحة ترسم عليها أصابع الغصون ألوانها  الضبابية .

ونحن نقول ذلك على الرغم من أن القصيدة لم تقله مباشرة ، ربما بسبب انشغال راويها الأصم بشيء عارض هو (جنون) صديقه الرسام .

وهو جنون له ، فيما يبدو ، حكاية أخرى لا موضع لها هنا ؛ويمكن أن يكتفى بالإشارة إليها بهذه النقاط ( . . . ) التي تتبع الفعل الماضي (جُن ّ) والأسطر الثلاثة الفارغة التي تليها ، والتي يمكن أن تفتح في ذهن القارئ فجوة مناسبة للتأويل الحرّ ، حتى إذا كان لها حكاية محدّدة عند الشاعر . ( وإن كان من الممكن القول إن جنون الرسام يبقى أمرا افتراضيا ما دام الذي يروي ذلك رجلا أصم يستخدم بصره دون بصيرته  في معرفة اللوحة ، أو أنه لا يستخدمهما بانسجام كاف) .

وفي الأحوال كلّها ، لا بد من تجاوز ذلك أو نسيانه من أجل معاودة الاتصال بالمجرى الرئيسي للقصيدة . وهو المجرى الذي يحاول وعي الأصم ، وهو يصغي إلى إيقاع الكون من حوله ، أن يشقّه بما يتوافر لديه من أدوات وأجهزة غير معطّلة في رأسه .

* * *

"كان الضباب يشفّ

قليلاً

قليلا

عن النبتة – النقش في ما يُقال الستائر؛

أُصغي إلى نفَسي في البيانو المعطّل".

وواضح من هذا المقطع أن البنية الزمنية في القصيدة بنية بصرية تتعرف العين فيها على مرور الزمن من خلال هذا الضباب الذي يشف قليلاً  قليلاً  عن النبتة – النقش المرسوم أو المرسومة على الستائر، أو " ما يقال الستائر " . فالشاعر الأصم لا يعرف بنفسه هذا الاسم ، وإنما هو ينقله عن قول الآخرين بعد أن حدّد بنفسه مسماه ، وفقا لوعيه وتجربته الخاصة ذات العلاقة بصممه .

أما (البيانو) المذكور هنا باسمه الصريح ، فهو ( معطّل) فقد وظيفته(البيانية) ولم يعد قادرا على أن يٌسمع الشاعر المصغي غير نفَسه . أي أن الاسم يذكر هنا بعد أن يُفرغ من معناه ودلالته ليدخل مسماه في تطابق هوية مع الشاعر الأصم ، الذي فقد الصوت وظيفته المعروفة في داخله هو الآخر ،  تماما كالبيانو المعطّل .

* * *

"هل آن أن أرتدي ما يقيني

وأخرج؟

( إني أُحس صلاصل في الصُدغ)

لكنما الغابة الآن تدخل منأى الضباب...

إذاً ، لن أغادر زاويتي ؛

سوف أتبعُ ( أسمعُ؟) ما يصنع الكون

ما تفعل النغمات الخفيّة بي ...

سوف أُغمض خطوي

وأرهف همساً  تلاشى

". لأمضي إلى ما يريد الضباب

وهذا الانكشاف المتدرج للضباب الموحي بصعود الزمن وتقدم الوقت من شأنه أن يقنع الشاعر المقرور، مثل طائر، أن يغادر عشّه ويخرج بعد أن يرتدي ما يقيه ( من البرد ومن أشياء أخرى!) . وإن كان الضباب في الخارج ما يزال موجودا، وقادرا على أن يبعد الغابة ، ويجعلها تختفي من حيّز الفضاء الذي تجمعه النافذة و" تدخل منأى الضباب " . وهو ضباب يزداد كثافة حينما يترافق مع ضباب الوعي في رأس الأصم المصغي ؛الأمر الذي توحي به هذه (الصلاصل في الصدغ). وهي صلاصل يسمعها الأصم رغم صممه ، مثلما اعتاد أن يسمع ما يصنع الكون ، وما تفعل النغمات الخفية في معتزله ، وزاويته التي لا يستطيع مغادرتها . وإذ ذاك لا يكون غريبا أن يغمض الشاعر ( خطوه)  ما دام هذا الضباب المحيط بنافذته وروحه المشرئبة لا يتيح لبصره أن يرى الأشياء من حوله كما يجب ، وإن كان يتيح لبصيرته أن تسمع ، بطريقة ما ، الهجس المتلاشي للكون ، وسط سطوة ذلك الضباب الذي يبقى سيّد الموقف ، يقود خطى الشاعر المغمضة حيث يريد .

وهكذا يبدو هذا الضباب الموجود خارج غرفة الشاعر كحقيقة ( خارجية ) قابلا للتعبير عن أبعاد رمزية غائرة تمثل حقيقة (داخلية ) من حقائق الوجود بوصفه انكشافا واحتجابا دائمين أمام بصر الشاعر وبصيرته . وهو أمر له علاقة بما سبق ذكره من كلام وصوت يحاول الشاعر المصغي أن يتبين حقيقتهما المحتجبة وركزهما  الخفي . ولعل ما يقوله ( هيدغر) وهو يتحدث عن "الحقيقة بين المفكر والشاعر" ، أن يعبّر عن هذا الوضع الذي وجد الشاعر نفسه فيه داخل هذه القصيدة مصغيا أصم ، ورائيا غير قادر على الرؤية ، وباحثا عن كلام غير موجود .

" إن المفكر المتمثل بإصغائه لصوت الوجود يبحث لهذا الأخير عن الكلام الذي انطلاقا منه تأتي الحقيقة إلى اللغة . من هنا سرّ اهتمامه وانشغاله بحسن استعمال الكلام . وفي ذلك تكمن يقظته وهمّه ، من الصمت المطبق منذ زمن طويل، ومن الإيضاح الصبور للمجال المضاء فيه يأتي قول المفكر . ومن نفس الأصل والمنبع يقوم الشاعر بالتسمية  ".

الشاعر يقوم بالتسمية ، وهي مهمّته الأساسية ، حين تصدأ الكلمات ، وتبلى المعاني ، وتفتقد الجدة في كل شي . ولكنه لا يجد الوسيلة المناسبة دائما للقيام بعمل جوهري من هذا النوع ، خصوصا إذا كان غير قادر على سماع الكلمات الخرساء والمعاني البعيدة في هذا ( الصمت المطبق ) .

إنه يبحث عن ارتباط ممكن بين الكلمة والشيء داخل شبكته اللغوية التي أُعطبت وتفكّكت بعض عراها؛ وهو ما يجعل هذا الاختلاط  ، وتبادل الدلالة ممكنا ليس فقط بين ( الصوت ) و( الصورة ) ، وإنما أيضا بين ( الصورة ) و (الحركة) أو بين البصر واللغة .

والرؤية ، كما نعرف ، مرتبطة بالكلام أو هو مرتبط بها ، وليس بالسمع فحسب. وآرسطو يقول إن الحيوان لا يرى لأنه لا يتكلّم .

وحركة الخطو في القصيدة ( تغمض ) بدلا من أن تتوقف ، والفعل ( أتبع ) يمكن استبداله بالفعل ( أسمع ) الموضوع بين قوسين . إذ أن المسافة بين دلالتيهما يمكن أن تقصّر أو تلغى في عرف الأصم المصغي . فهو لا يتحرك  ما لم  يسمع  ، ولا يسمع ما لم ير. وما يريد أن يسمعه  ويراه ، لا يُسمع ، ولا يُرى ، لأنه صورة الوجود ، وصوته المنساب بخفاء ، مثل لص ، داخل الشاعر ومن حوله.