سعدي يوسف عيشة بنت الباشا :ملصقةٌ شهويّةٌ استدراكيّة طباعة

سلام عبّود

يندر أن يذهب الشاعر سعدي يوسف الى عملية التقطيع واللصق الشعري. قصيدة سعدي، القصيرة خصوصاً، تميل في الأعم الى المشهدية الحكائية، والى الحوارات المضمرة والهامسة، والى المراقبة الوصفية الجامعة للأمرين. وقد تجنح الى رسائل المخاطبة والتوصيف الغنائي وتعدد الأداء الصوتي حينما تميل الى الطول. من دون شك، يظهر اللصق والقص لديه في غير قصيدة، ولكن في هيئة تضمين لشعارات وهتافات، أو في صورة منتقيات بصرية تعضّد بناء طبقة تعبيرية إضافية داعمة. الاستشهادات، والنقولات التراثية والشعبية والمرجعية، والأسماء والأماكن، كثيرة جداً أيضاً في نصه. لكن ذلك كله لا يصنع لوحة شعرية قوامها القص واللصق، بل يمدنا ببعض الإسناد الفني، يقوّي من أثر النص، بما لا يخرجه من حدود وظيفته التكميلية.

أهم قسمات قصيدة سعدي الفريدة تكمن في مقدار أصالة خصوصيتها- هذا لا يعني أنها تخلو على نحو مطلق من أي مؤثر، ولو في هيئة أصداء خافتة، قادمة من أزمان بعيدة. غير "بلوى" شعرية يمكن تحسسها: سودرغران شيوعية، وديلان توماس بدلالات أكثر كثافة وأقل رمزية، ونثريّة إليوتيّة بليونة شعريّة - عنايتها بنفسها، ووضوح نياتها، وسهولة اختراقها وجدان متلقيها، وإمتلائها المُشبِع، وجرأتها الاستفزازية المتجددة تعبيراً وفكراً ومزاجاً. لكنها هامسة حتى وهي في أوج انفعالها وصراخها. بعكس قصيدة محمود درويش تماما، التي تصرخ وتنادي على المارة في الطرق حتى وهي تهمس أو تحلم بالفراشات أثناء نومها. ربما لذلك اعتاد السامع العربي أن يفتح أذنيه حينما تصله ذبذبات "صوت" قصيدة محمود درويش المؤنـِّبة. ولكن، من المستحيل، أن لا يفتح القارئ المعتكف أبواب روحه، حينما يرى قصيدة سعدي العذراء تمر حافية، بثوبها الشفيف، قرب خلوته المنعزلة، المزروعة في أقصى دروب الغابة.

في نص "عيشة بنت الباشا" يضعنا سعدي يوسف أمام لوحة متكاملة من القص واللصق. ربما لذلك تمكنت هذه الملصّقـة الشعرية القصيرة بيسر من اجتذاب أنصار وأعداء متحمسين، تجمعوا حول ما حواه النص من اجتراء صريح، الى حد البوح المهلك.

عيشة وحدة ابتكارية تتركبّ من مجموعة من الطبقات البنائيّة البسيطة، غير القابلة للتآلف والتجانس شعوريا وزمانيا ومكانيا وعضويا (تركيب جسم المواد الداخلة في البناء)، لكنها تلتئم في وحدة تشريحية متداخلة ومتفاعلة، مع الاحتفاظ بانفصال القطع ظاهريا. من هنا نبعت خصوصية نص عيشة الجاذبة: التنافر المنسجم. وعلى الرغم من أن كثيرين تناولوا القصيدة مدحا أو قدحا بحماسة ملحوظة، إلا أنّ دوافع ظهور النص الخاصة، عدا استجارة عائشة بالشاعر وشعورها بالخذلان، لم يحفل بها أحد كثيرا.

مواد البناء المستخدمة في لوحة عيشة كثيرة، أبرزها خمس: المادة التاريخية، المتعلقة بالسيدة عائشة، زوج الرسول محمد، والاستطراد المتعلق بعذوبة الجنس وحلاوته التي لا تقاوم، كما وردت على لسان أعلى المراجع الإسلامية الموثوق بها. والمادة الشعبية المتعلقة بعائشة العراقية، "عيشة بنت الباشا"، والمادة المعاصرة والمقارنة، المتعلقة بالمشهد الإيرلندي، وأخيرا المادة التوليفية الآنية- حضور الذات في سياق السرد الحكائي- التي تؤاخي بين طبقات البناء. المادة هنا لا تعني الملاط الفني الجامع بين سافيّ القصاصات، المستخدم في لزقها بعضها ببعض. لأن لوحة عيشة أبعد من أن تكون مُلصَّقة شيئيّة، وإنما هي جملة من الائتلافات اللغويّة والرمزيّة والصور المؤوّلة، قوامها عملية الخلق التي تتحكم في هندسة صناعة الوحدة، ومنظور هذه الوحدة، بمساقطها وزواياها ومنحنياتها وتداخل وظائفها البصرية والشعورية الداخلية والخارجية. في المحتوى الحكائي والتبريري نجد عائشة تستجير بسعدي. تطلب منه أن يضع لها مكانة في منزله الشعري والعاطفي. هكذا يقول النص. لكن واقع الحال يقول عكس ذلك تماما. كان نص سعدي يستدرك ما فاته، مستجيرا بعيشة، وبقوة حضورها التاريخي، في لحظة هلاك التاريخ القومي عاطفيا وسياسيا وحضاريا. إنها ابنة شرعية للحظة هلاك وصايا الأنبياء وصولات الفحول وشرعية مبدأ اللذة الحلال، ولحظة نهوض عصر الاستباحات البشعة، متسيدا قمة الوجود المسترخص.

النص قصير. وهذا يعني أن سعدي لا يريد أن يصنع ملحمة، بل يريد أن تحقق فرشاته ومقصه ضربات وتقطيعات موجزة حادة. وهذا أهم ما في فن القص واللصق. المهمة إذاً، الاكتفاء الذاتي من طريق عدم الانجرار الى خديعة الاسم والتاريخ وإغواء التداعي اللفظي، والتركيز على طاقة البناء التجميعي المركـّز وايحاءاته. نص عيشة لم يكن جدارية، بل هو لوحة بمقاسات صغيرة جداً. للعمر، أو حركة الواقع السريعة، أحكامها! نحن أمام مشهد جنسي خالص. الجنس فيه جماعي، تمارس فيه التواريخ والأزمنة أفعالها العاطفية متحدة، ولكن في شخص محدد. وهذا أجمل تمظهرات النص: صدقه ووقاحة تأويلاته وسوء مرجعياته. لذلك بدا المشهد تكوينا ملموما بعدسة مصغرة، تجبر العين على الاقتراب من نسيج اللوحة الى الحد الأقصى. المشهد يحوي تلصصا على التفاصيل، لا تليق به سوى القراءة المقرّبة، لكي يستطيع القارئ أن " يرى ما بين ساقَيها" بوضوح كاف. العدسة المصغرة تضع العين أمام مساحة ضيقة لصيقة، بعكس الجدارية التي تحتاج الى فضاء للعرض ومسافة للنظر. القراءة المقرّبة تغلغل البصر في مسامات الشيء، بينما الجدارية تخرج الشيء الى الفضاء الأوسع، وتخرج العين من محجرها. ولما كان النص لوحة، فهو لوحة ملوّنة بلون خادع، ظاهره أحمر وباطنه أبيض، وتأويله أصفر عسلي.

خداع اللون هنا عنصر رئيس في سيرة عائشة، التي وصفت بالحميراء، تأكيدا لبياضها. قيل: فيها شقرة. لقد آثر سعدي أن يقوم بتغيير مجرى الأنشودة الشعبية العراقية "عيشة بنت الباشا"، وأن يصحـّف معها شكل الرواية التاريخية، لكي يجعلهما قريبين من المشهد الإيرلندي، وربما الأسكتلندي أيضا. لذلك جعل الشمس تسكب شعاعها على "شعر" عيشة بدلا من قبرها، كما هو منصوص عليه في النص الشعبي التراثي العراقي. وجعل لون بشرة عائشة أحمر، بدلا من أبيض، كما نصت المرويات التاريخية. ثم نقل تركيز اللون من البشرة الى الشعر المستعار. والأبيض في البشرة لون قد يتضمن بعض الحمرة، كما يقول المنطق. لكن البياض في بشرة السيدة عائشة موثق بعيون أقرب رجلين اليها: الرسول محمد وابن عمه وخصمها الافتراضي اللدود الإمام علي بن أبي طالب. طغيان الأحمر صورة معاصرة، هي أقرب الى خيال بيوت اللذة الأوروبية، منها الى خيال التاريخ العربي. اصطباغ مادة التلوين القاعدية في أساس اللوحة بالأحمر ربما هو استدراك الشيخوخة على استجارة عائشة المتأخرة جدا. هكذا أحسب. وهو حسبان لا أهمية له معرفيا وفنيا هنا، بسبب أن وظيفة القص واللصق، امتصت وحوّلـت خامة الطبقة القاعدية الحمراء عنصرا ضمن مجموع متحد، وجعلت من الأحمر الناري، الفاجر رمزا، وسيلة لتذوق العسل الحلال، مسكوبا في فم أعلى المرجعيات التشريعية في التاريخ الإسلامي.

وعائشة عند سعدي هنا هي غير تلك التي وجدناها لدى الشاعر عبد الوهاب البياتي، بحضورها الشعري الشامل وانسيابها الرمزي السلس، ولكن بمدلول تجريدي، وتهويمات لفظية وايقاعية، ونبرة مهادنة تتماهى مضمونا، وليس لفظا، مع الموت والهرب من الحياة، وقد تصل الى حد الذوبان في العتمة الروحية السائدة في واقع ظالم. عائشات البياتي رمز تعميمي يختلط بكل شيء: المرأة، الأرض، الوطن، ولا يترك أثرا حسيا عميقا، إلا بحدود ضئيلة. أما عائشة سعدي فتتجه وجهة مغايرة. يمضي بها سعدي الى بقاع أكثر حسيّة وشخصيّة وصداميّة، حتى تلامس من عائشة الحقيقية أبعادا وأوجها ودلالات متنوعة، صانعة عائشة تجميعية، يختلط في ملامحها ما لا يجوز خلطه حسيّا وعقليّا، ودينيّا أيضا. تبدأ اللوحة من طعم العسل، الذي يربط النكاح بحدود الإباحة الجنسية ومساحة التحريم الجسدي، بكل ما يحمله من لذة الباه والخلق والشهوة، ثم تصب في خزين الذاكرة الشعبية العراقية: "عيشة بنت الباشا"، التي تستوطن طفولة العراقيين. بيد أن عيشة العراقية في الانشودة الشعبية تنهض من قبرها على ضوء الشمس وصياح الديك، لاعبة بخرخاشتها، مؤذنة بانبلاج فجر جديد، يتغنى بنعم السلطان. والقبر هنا، ليس مشهدا للحزن، بل هو موقع للتخليد والتمجيد، آثر سعدي أن يلغي وجوده ويقوم بتعديل المشهد الشعبي، وتحويله من نداء عاطفي على قبر، الى نداء شعري يتغنى بلون الشَّـعر. في النصوص كلها، الشعبية والتاريخية، يوجد استمتاع مشترك، سواء من طريق تذوق غير بريء لعسل الجسد، ممزوجا باشتعال الجسد الايرلندي، أو من طريق اللعب البريء بالبنات (الدمى) واللعب الطفولي بـ"الخرخاشة". لأن عيشة هي نفسها، كانت ولم تزل وستظل، ابنة الباشا الديني التاريخي، وابنة الباشا الشعبي التراثي، أي ابنة الباشا الشعوري الأبدي، القابع في أعماق وجداننا. أمام باشوية عيشة لسنا جميعا، منشدين ومتلقين، سوى حشريين نتأمل طفولتها ولهوها المتعالي البريء وغير البريء، لهو بنت التاريخ الروحي، بكل ما يتضمنه من لذة وغنائية وطفلية وحلاوة وتعال اجتماعي، وهو يتـّحد رمزيا بحاضر فقير الروح، عظيم البشاعة والفردية والتنافر.

عائشة ايرلندية أيضا. ليس لأنها "حميراء" فحسب. ما كان لها أن تكون ايرلندية قط، لو أنها لبثت في بطون الكتب وفي بطون الأنشودة الشعبية. بيضاء كانت. عائشة حاضر أيضا. إنها إيرلندية بحكم تداخل الزمان والمكان والخصوصيات التاريخية، وبسبب تداخل رموز الحضارات الجنسية وألوانها، وبسبب تداخل أحاسيس المتلقين ورغباتهم وأزمانهم الشخصية وأعمارهم وأقدارهم. نحن من رآها في وجوه الإيرلنديات، ونحن من منحها لونهم. لم نرها بسبب تطابق الألوان، بل بسبب تطابق الشهوات والإرادات، وبسبب ما حفرته هي من أثر تجاوز حدود التاريخ، وجعل بعض أدباء هولندا على سبيل المثل "يتأملون" حضور السيدة عائشة في الوعي الراهن ويدرسونها باعتبارها "جريمة" تاريخية، تتطلب تدمير حاضرنا القومي كله وأخيلته المقدسة والمحرمة، لصالح التمتع بشهوة معتـّقة مستجلبة من دنان الماضي. الفحش المقدس جذب كثيرين من الأوروبيين وصار عنوانا لروايات وبحوث وألاعيب فنية اهتبالية. فقد استغرق كثيرون، ممن يوصفون بالمدافعين عن الحرية التاريخية، التي خنقها الإسلام كما يرون، في معضلات دونيّة صغيرة جدا تخص السيدة عائشة شخصيا، منها زواجها وحيضها، كما لو أنها معضلة العصر والزمان! هؤلاء صيادو فرائس وفطائس جنسية مثيرة، وأصحاب ترف وجودي باذخ وصغير. لكن سعدي، المتلبس بعائشة القديمة والجديدة، هو صياد ماهر أيضا، أراد أن يمسك شرارة الامتداد التاريخي المختزنة في سطوة سيرة عائشة، غاوية ومغوية، مستجيرة ومتمردة الى حد العصيان، وأن يفكك فيها طبقات النار واللون والضوء، واللهو والمتعة، والجبروت والخيبة، والحلال والحرام، مضيفا اليها، من عنده، ألوان الإثارة الجنسية الأوروبية وتداعياتها الإباحية. مناخ اللعب بالشهوة الاسلامية، التي يتلذذ بها الأوروبي عادة، حقيقة لا يمكن لأحد تجاهل تأثيرها المباشر وغير المباشر في وعينا، وفي حركة مشاعرنا ورغباتنا الفردية. الأوروبي فنان محترف في مجال استحصال وسرقة أنواع اللذة غير الممكنة، المضاعفة. ومن اللازم هنا أن نشير الى أن تذوق جنسنا المقدس من قبل الأوروبيين لا يتوقف عند التلذذ به كمادة لاستحصال اللذة حسب، بل بسبب كونه أيضا مادة لاستحصال لذة الألم، وإن كان ألما محوّلا. فهو ألم الآخرين، ألم المتطرفين في الغيرة الى حد التكفير، ممن يفزعهم ويشقيهم ويغضبهم تلذذ الغرباء بمفاتننا، وتلصصهم على شرف تاريخنا وقدسية عفته الجسدية، وحصانة جوارحه.

يتساءل البعض: عائشة الآن؟ في هذا الظرف المصيري القاتل؟ أمر يثير الفزع. الصراع السني - الشيعي في أوجه. القتال في سوريا والعراق والبحرين واليمن ولبنان يرفع رايات طائفية، تكفيرية، لأنه تمرد على احتكار الطائفية التاريخي.

سعدي متهم، سواء نطق أم صمت.

عائشة الآن؟ الأمر يشبه الى حد كبير امتشاق سيف شعري والذهاب الى البصرة، الى معركة الجمل.

لكن سيف سعدي الشعري يلتمع منفردا دائما، خاصا، حتى وهو محاط بغبار معركة الطوائف.

ماذا لو كانت عائشة مقاتلة في صف الإمام علي، لا في صف الخارجين عليه؟

الى أية جبهة حرب طائفية سيُنسب سيفه الشعري؟

عيشة بنت الباشا، الطفلة العراقية التي لعبت بالخرشاشة، لم تكن سنية ولم تكن شيعية. كانت طقسا جماعيّا يتردد عذبا عند قبر (ذكرى روحية، ومزار تاريخي)، تطلع عليه الشميّسة (شُميس الشتاء الخفيفة، المحببة) فجرا، عند صياح الديكة. عيشة العراقية وحدة تاريخية نظيفة، كشعاع شمس على قبر، تأبى الاختباء في خندق طائفي مظلم. تلك هي عيشة، التي استدعاها سعدي، عيشة التي تتوحد بفاطمة ابنة النبي، وهي تنزل - من أين تنزل! - حاملة كتابها، لكي تنال بركات محمد وعلي. هكذا يقول النص الشعبي العراقي: محمد وعلي، من دون ألقاب، بكل ما يحمله تجرد الأسماء من حنو وقرب ودفء.

سعدي ينظم عقد التاريخ الطفولي، تاريخ البراءة المغدورة، وتاريخ اللذة الحلال في أعلى صورها، تاريخنا نحن المجردين قسرا من براءتنا الشهوية والنقدية والفطرية.

عيشة سعدي لوحة تقطيع ولصق شعرية، قصيرة، لكنها محملة قصاصات شعبية وتاريخية وشعورية وعاطفية، وتحريفات مقصودة، وبذاءات تقديسية، تختزل الانسجام المتناقض، والبهاء العراقي المغموس بالقسوة، وتختزل التحدي التاريخي العربي، والمروق الإنساني المثير، الذي يستفزّ جور الزمان والمكان والطوائف والألوان. لم يكن سعدي بريئا. كان يشاكس شعريا وحياتيا براءة التاريخ والمقدس واللامباح، والأهم أنه أراد أن يشاكس ذاته، من طريق استفزاز جبننا في علاقتنا ببراءتنا السياسية والأخلاقية والجنسية والدينية.

عيشة بنت الباشا مُلصَّقة استدراكيّة هجومية، مفخخة بوقاحة الاجتراء الى حد قاتل، ولذيذة كالعسل الحلال والحرام، لا ننصح أحدا بتقليدها أو تخيّلها البتة.