عن "طائفية" سعدي يوسف! طباعة

Image


محمد مظلوم
هذه الصورة استعيدها الآن، عند منتصف النهار في مقبرة الغرباء في السيدة زينب/ قبل بضع ساعات من تلقي سعدي نبا وفاة ابنه حيدر، وبعد لحظات من مواراة الجواهري الثرى، وخلفنا يظهر جدار لضريح مصطفى جمال الدين الذي لم يكن مكتملاً وقتها.
في السابع والعشرين من تموز 1997، رحل الجواهري.

في اليوم التالي كنَّا في تشييعه حيث دفن في مقبرة الغرباء بالسيدة زينب في الضواحي الجنوبية لدمشق.
انتهى التشييع الحافل بعد منتصف النهار بقليل.
عدنا أنا وسعدي يوسف وحميد العقابي إلى قلب دمشق، حيث سيقام مجلس العزاء عصراً في المركز الثقافي العربي بالمزَّة في الطرف الآخر من الشام.
كان علينا قضاء بقية النهار وسط المدينة قبل الذهاب إلى التأبين، جلسنا في مقهى «السودانيين» عند جسر فكتوريا، وهو مقهى صغير ببضع طاولات لا يصلح لجلسات طويلة! لكن خلال الوقت الذي أمضيناه فيه، ونحن نسترجع الموت العراقي في المنفى تحت تأثير تشييع الجواهري، سألني سعدي عن إمكانية أن تكون له دار صغيرة في «صحنايا» حيث أسكن، لتتحوَّلَ لاحقاً إلى ضريح له! وبينما كنت أمازحه بأن عُمره «عمر تفگة» وبأنه من شعراء السجستاني «المعمِّرين» كان العقابي يعلق بطريقة غريبة، أن والدته كانت اشترت قبراً لها لتدفن فيه! لكنها دفنت ابنها فيه.
ذهبنا للتأبين مبكرين! ولما وصلنا اكتشفنا أنه سيتأخر ولا يزال هناك الكثير من الوقت، دعانا سعدي لشرب «الهينگن» من أحد الأكشاك القريبة لتخفيف حر تموز في الجوف! ثم اقترح أن نمضي بقية الوقت في مكتب مجلة «المدى» في منطقة ركن الدين، فالمكتب مكيَّف، والوقت لا يزال مبكراً لبدء التأبين. لم نؤيد الفكرة في البداية لكنَّ إلحاحاً غريباً من جانبه جعلنا نستجيب. ما أن وصلنا مكتب المدى حتى طالعنا شاكر الأنباري الذي كان يعمل محرراً في المجلة وقتذاك بوجه متجهِّم، وسرعان أومأ إلي أن ننفرد في غرفة جانبية، قال لي: لقد تلقيت اتصالاً قبل قليل بأن «حيدر» ابن سعدي قد توفى في الفلبين! وطلب مني أن أجد طريقة مناسبة لإخبار سعدي بالخبر المفجع!
بينما كنت أمهَّد الجو للخبر المفجع والصعب، ناب عني رنين الهاتف الذي سارع سعدي للرد عليه وكأنه استشعر الفاجعة بغريزة الأب، وحدس الشاعر!
تركنا الأب المفجوع لصمته، فبوحه لبعض الوقت، كانت أول عبارة يرددها بعد استيعاب الصدمة: أريد استعادة حيدر، حيدر الذي كنت أحمله صغيراً، أريد أن أستعيده لأدفنه هنا في الشام!
بعد قليل وفي مجلس عزاء الجواهري. وقف سعدي يتلقى التعزية برحيل الجواهري. ولم يكن الكثير من المعزين يعرف بأن الأشيب المجلل بالسواد تلقى خبر رحيل ولده قبل قليل.
في اليوم التالي كان في عمان، ومنها للفلبين لاستعادة حيدر.
بعد أيامٍ كنا في المطار لاستقبال الجثمان، بينما كان سعدي في طريق آخر من عمان إلى دمشق!
في السيدة زينب طيفَ بجنازة حيدر بالحضرة ثمّ وضع للصلاة في صحن المقام، وصلى عليه رجل دين بعمامة سوداء! ولم تشترك الأحزاب الإسلامية في المعارضة العراقية في التشييع! لأنَّ الجَنَازة تخصُّ ابنَ الشيوعي!
في المقبرة، كان رجل الدين يلقِّن حيدر، كما لقَّنَ الجواهري من قبله بأيام!
بعد دفن ولده، كتب سعدي يوسف افتتاحية مجلة المدى، بعنوان: عودة الابن غير الضال! يصف فيه ظروف رحلته إلى الفلبين، لاستعادة «جثمان» ولده، كانت تلك الاستعادة تنطوي على رمزية كبيرة، شبهتها مرة باستعادة جسد هكتور، من قبل أبيه بريام في إلياذة هوميروس:
«سآخذك إلى دمشق
ستجاور طهر العرب: السيدة زينب
وستأتي أمك من شمال العالم!
***
جئت أستردَّك وها أنا أفعل.
***
الرحلة لم تنته يا حيدر
أنت الآن تجاور طهر العرب: السيدة زينب، الحوراء زينب.
قالت زوجتك وأنا أكابد في مانيلا تعقيدات استردادك:
قد لا يريد حيدر أن يفارق المكان!
ربما رأتْ هي ذلك
لكني يا ولدي جئت استردّك.
فاغفر لي أن جعلت مقامك ومقامي في يوم لا ريب فيه قرب الجواهري!
أغفر لي لكن كان عليَّ أن أجعل مكانك قرب البيت»
الأجل هذه الكلمات كتب طائفة من عراقيي «فقهاء المارينز» في وقت مبكر أن سعدي طائفي؟ ألأجل هذه الكلمات كتب بعض عشاق الربيع الدَّامي من السوريين محتجِّين على موقف سعدي يوسف من الربيع المزعوم بأنه: صفوي ومجوسي! أم احتجاجا على توظيفه الأغنية الفولكلورية العراقية عن «عيشة بنت الباشا» التي تلعب بالخرخاشة؟ ومقاربتها مع عائشة الحميراء؟
مرة كتب لي أحدهم يقول: كيف لا ترى البعد الطائفي في كتابات سعدي، وهو يركز على زعماء الشيعة.. ولم يكتب ضد أية شخصية سنية! (كذا) قلت له: وماذا بشأن ما كتبه عن الطالباني والباججي والياور، وأيهم السامرائي...الخ.. فأجابني هل كتب حقاً؟ كأنني أكشف له حقيقة غائبة، بينما مقالات سعدي تلك راجت رواجاً كبيراً! لكنها ربما تنفع لتصنيف من نوع آخر!
اللافت أن غالبية من يهرفون بطائفية سعدي، يعيشون تحت ظلال أسوأ نموذج ممكن للدولة الطائفية، وهم ينعمون بتمجيد رموزها.
من يتحدثون عن طائفية صاحب «صلاة الوثني» كمن يتحدث عن «شيعية» امرئ القيس، و«سنيَّة» طرفة أو «كاثوليكية» هوميروس، ويهودية أوفيد! ومن يدري؟ فلعلَّ هذا ليس حديث خرافة! في زمن الثقافة/ الخرافة.