المثقفون والسلطة واختلال المعادلة طباعة

 هاشم عبود الموسوي
 لقد تشكلت في العقود الأربعة الأخيرة من تاريخ العراق, ثقافة حديثة, وهي في مواجهة مستمرة بين العقل النقدي, والعقل الأمتثالي. وهذا الفرق بلور معنى لكلمتي (الهامش) و (المركز). وصار الهامش لايكترث بالشُهرة والخفوت والنجومية والنسيان. بل أصبحَ بموقفٍ فكري نقدي يقترح بديلاً اجتماعياً وسياسياً جديداً. الأمر الذي أدى بهِ إلى تقييم ثقافة الإنفتاح في مساحة الهامش...

تاركاً المركز الثقافي لسلطة تصنع ثقافتها بالتلقين والردع، وتخريب العقول، وإذا كانت هذه السلطات قد عاشت في رحاب الشعرالتقليدي، وعلوم النحو والصرف، وفتاوى الشيوخ ورؤساء العشائر، فإنها استطاعت في تجددها (المُفتعَلْ)، أن تُجدد مُثقفها التقليدي، فيبدو حديثاً، ويتمثل التجديد في المُثقف التقني الذي يُلبي حاجة ايديولوجية قديمة في لغة تقنية حديثة. حيث المثقف يتعامل مع النص المُستقل، طارداً ومتناسياً المجتمع والتاريخ خارجاً، ومكتفياً بتعابير ترضي الشيطان والرحمن معاً.
وبذلك عاش المثقف النقدي هذهِ العلاقة الصعبة.. يُهمّش إذا ما قارب السلطة بأدوات النقد.ويَتَسيد إذا مارس الإمتثال.
لاشك أن الإنتاج الثقافي، كما المعرفي، بشكلٍ عام يحتاجُ إلى جُملة شروط اجتماعية،لاتستطيع السلطة التابعة للثقافة والمتجاهلة لها، تأسيسها.. ويحتاج الإنتاج الثقافي، كما تدل الوقائع التاريخية إلى دولة مُجتمعيه تنتج المعرفة، وفقاً لسياسةعلمية، تربط بين الاكتشاف العلمي، وحاجات الحياة اليومية.
فالمعرفة لاوجود لها إلّا في وظيفة اجتماعية مَرجعها سياسة علمية، تُوائم فيها الدولة بين نهوض العلم والمعرفة والحاجات الاجتماعية المختلفة .
ويمكن لموضوعة الثقافة والدولة أن تحيلنا إلى دراسة الدولة البرجوازية الاوربية، حيث كانت واستمرت الطبقات الحاكمة، تؤكد كونيتها في نشر طبقية لها شكل كوني، ثقافةبرجوازية، يتم استقبالها شعبياً، كما لو كانت ثقافة للمجتمع ككل.. ثقافة تفيض عن حدودها الطبقية، وتتسرب إلى مجموع الطبقات الاجتماعية .
إن سيطرة المعايير الثقافية للطبقة البرجوازية في تلك المجتمعات كانت تتم بمقولات التضليل وبفاعلية أجهزة الدولة الايديولوجية التي تعيد علاقات الإنتاج، في إعادة إنتاجها للايديولوجية المُسيطرة . غير أن هذا التضليل المتكئ على قواعد ديمقراطية شكلية،كان يعتمد أولاً على برجوازية مارست تأريخياً دور القيادة والهيمنة، ومارست الهيمنة لأنها كانت طبقة قائدة تأريخياً، وقد أنجزت في تحقيق مصالحها الذاتية،مصالح اجتماعية تتجاوز المعايير الطبقية .
وإذا ما عدنا إلى وضعنا الراهن في العراق، فأن النخب السياسية التي تُمسك بالسلطة منذ عشر سنوات، لم تستطع أن تحقق مصالحً اجتماعية ملموسة، تؤهلها لأن تقترح سياسة ثقافيةيتخذها المجتمع، ويقتنع بها.
وهنا يجب أن نوضح أن ربط الثقافة بتوجهات السلطة، يستلزم تحديد الشكل التاريخي للسلطة،لأن السلطة بشكلٍ عام لاوجود لها، فوجود السلطة يساوي الشكل التأريخي لوجودها.والسلطة الحالية لدينا لا تشذ عن هذه القاعدة، فهي سلطة لها تأريخ وأنتجها تأريخ .وفرض عليها صفة محددة، بعد اجهاض متواتر لمحاولات التخلص من حكم ديكتاتوري إنفرادي دام لأكثر من ثلاثة عقود، وحتى جاءت طريقة التخلص منه على أيدي إحتلال بغيض في عام2003 م.
العلاقةالمعقدة بين السلطة الجديدة بعد التغيير والدولة المحتلة، أدت إلى تحول الانفتاح الديمقراطي إلى تبعية من نوع جديد، يمكن وَصْفَها بأنها غياب للسلطة السياسيةكمرآةٍ لإرادة شعبية كُلية، وقد سَعت كَثيرٌ من النخبِ السياسيةِ بهذا المخاض إلى تأمين مصالحها وأعني بذلك : (تأمين مصالح النخبة الحاكمة على حساب المصلحةالشعبية).. وبذلك فأن للسطة إنتماءً مزدوجاً غير متكافئ.. فهي تنتمي إلى الخارج في ممارساتها لإرضاء القوى الخارجية التي تكبل حركتها، وتنتمي إلى الداخل في اللغةوالأصول والخطاب الإستهلاكي.. وينعكس الأنتماء المزدوج في تلفيقية ثقافية هاربة من التاريخ. تتجلى في ثنائياتٍ متعددة، العلم والإيمان، الأصالة والمعاصرة، الموروث والعالمية. وحيث يضاف زمن البُدعة الاقتصادية المُتبرقعة باقتصاد (السوق) والسلطةالكونية المتحكمة فيها. إلى زمن عراقي قديم ومختلق. في حين يظل الحاضر الفعلي، لحظةمُغفلة أو حيزاً من الزمن لا تأريخ له . وهذا الهروب الوهمي هو الذي قد يدفع النخب الحاكمة في شكلها المسيطر إلى ارجاع التأريخ إلى زمن تلك السلطات الحاكمة. لابمعنى التأريخ الذي أنتجها، بل بمعنى التأريخ الذي زورته.
ويفضي زمن السلطة المختزل إلى نتائج تمس المعرفة والسياسة والثقافة في آنٍ . إن إرجاع التأريخ الحديث إلى زمن سلطوي ضيق يُلغي إمكانية تفهم هموم الثقافة والمثقفين،والكتابة الموضوعية للتأريخ، بقدر ما يُلغي إمكانية الإقتراب من
علم صحيح للسياسة(*) .
أي أن إنتاج التضليل عنصر داخلي في ثقافة دولة لا تأبه للثقافة ولا تعطيها وزناً.ومثل ما يقود زمننا السلطوي إلى إقصاء الثقافة الموضوعية، فإن إعادة الزمن السلطوي ستكون حتماً في إعادة إنتاج علاقات التبعية وقد تضطر السلطة أولاً إلى إلغاءالتأريخ، وتنتهي بإلغاء الفعل السياسي محولةً القمع إلى منهج منسق يصوغ على صورتها التأريخ والثقافة والحياة الاجتماعية .. وهذا ما لاتُحمد عُقباه، وما يخشاهُ المثقفون العراقيون في يومنا هذا.
 
(*)في هذا الصدد هناك مصطلح يجب علينا توضيح مقصدنا منه، ألا وهو "الثقافةالسياسية"، والتي يقصد بها، مجموعة القيم والأفكار والمعتقدات السياسية التي تدخل في تركيبة مجتمع ما، وتميزه عن غيره من المجتمعات، كما يقصد بها كذلك مدى تأثر الفرد أو المواطن بهذه القيم في شكل سلوك سياسي من جانب المواطنين تجاه السلطة السياسية، أو من جانب أعضاء السلطة السياسية تجاه المجتمع ككل، وترتبط الثقافة السياسية بعملية أوسع نطاقاً يُطلق عليها التنشئة السياسية، التي يُقصدبها إكتساب المواطن للاتجاهات والقيم السياسية التي يحملها معه حينما يُجند في مختلف الأدوار الاجتماعية، وهكذا تعتبر الثقافة السياسية عماد الثقافة والسلوك السياسي للمواطن.