الأخضـر بن يوسـف: هـذا العـراق ليـس لـك، أُشتـم بنفـس مطمئنـة طباعة

Image *علي السراي
هذا رسمٌ منحازٌ للأخضر، الشيوعي الأخير، المستقيل إلا من عراقٍ نخسره. هذا رسم للمغامر «غير المقامر»، الواقف هناك يجلدنا، يكرهنا لخيانة نخيل «أبي الخصيب»، وفقدان ذاكرة «نقرة السلمان».
لكلِّ شتيمةٍ من سعدي يوسف – هكذا يسموّن ألمَهُ الخائف على الحلم – يُصعَق المرء، وينبري لردّه :

»أتُحاكِمُنا من بيتِكَ في هَـيْـرْفِـيلْــد؟». وهو الذي يتربص، اليوم، بكل الذين حكموا بالعهر والفساد، ويخز ذاكرة أولئك الذين «يقامرون» بورق لعبٍ فاسد: الحكم يبرر «العراق الملهى الليلي الرخيص».

حتى يسار السياسة، صار مثل «وسَطِها»، يهزُّ من دون نغم، أو على أي نغم. واليسار هذا وضعه سعدي، قٍرطاً في أُذنه اليسار.
الأخضر بن يوسف : أنت لست لهذا العراق، اشتمه ما شئت.
 
ساحة التحرير

أتذكر أنّي خرجت أتظاهر (أكاد انفجر، الآن، من الضحك على تظاهري). كنت قبلاً متضارب العقل والقلب: أيُّ معارضةٍ تلك التي أنشط فيها؟ أي ساحةٍ فتحها الجميع لفيلم «بورنو» رخيص؟ كنا نُصدِقُ القول : «لا .. لـ ..»، حقاً كنا نعارض. ولم نك نعرف أن سماسرة آخرين، يقفون هناك، ليس هذا وحده من نافذة المطعم التركي. آه لو إننا عارضنا كل هذا العراق. (أكاد أقطع إصبعي من الندم).
وأعجب، الآن، من يختلف مع الأخضر : «تجمُّعات ساحة التحرير كانت امتداداً لشارع المتنبي وشعاراته المضحكة، وكنتُ أعني أن شعارات ساحة التحرير كانت سطحية، غير راديكاليّة، غير معنيّة بتحرير البلد والخلاصِ  من حكم العملاء وتحكُّمهم ... حتى كأن التجمُّعَ لِذاته. المقصود من التجمُّعِ كان القول بأنّ هناك تجمُّعاً، وأنّ أناساً معيّنين هم قادرون على « تدبير» تجمُّع.
مراكزُ « قوى « رديئة، مؤيدة للاحتلال، كانت تتخاصمُ لاقتسام المنافع والمناصب والنهب. أمّا الساحة المتاحة (وهي بالمجّان) فلتكُنْ ساحة التحرير».
الحديث عن التظاهر، كان أولى به أن يكون احتجاجاً على هذا العراق. وأعجب لنفسي حين كنت أفكر بلغة يوسف حين يحتج، لِمَ اختلفنا معه حين شتم الأمريكان، والعراقيين الأمريكان؟ ولِمَّ تضايقنا من سّبّهِ المحاصصة الطائفية؟ ولِمَّ أزعجنا فضحه لكل أولئك الذين لبسوا وشاح النضال، وفي جيبهم جوال بأرقام المنطقة الخضراء. لم نك نحمي التاريخ. هو «التاريخ يتصل» وسعدي يحميه:  « أنت تبلغُ بادية السماوة، حيث قُتِل المتنبي. تبدو الباديةُ، حمادةً، قاسيةً، لا معالمَ فيها . لا نبتٌ ولا شجرُ».
كتبت مرةً مؤاخذاً على سعدي شيوعيته الأخيرة، وطلاقه منا، إنه يخاطبنا من بعيد. اليوم لا أجد وطناً يستحق أن أتربص لفوقية سعدي من أجله.

«لو أنه يكتب الشعر فقط»!

بعض الشيوعيين كانوا يتحدثون عن خلاف هادي العلوي معهم، ويقترحون حلّاً سحرياً لوقفه بأن يكتفي ببحثه في التراث والأديان، ويترك السياسية «التي لا يفقه فيها شيئاً» لأصحاب الشأن، وكانوا يقصدون الحزب. أين حلَّ هادي العلوي الآن. وأين صارت السياسة برغم وجود الحزب فيها؟.
كان هذا الرأي مبذولاً، أيضاً، كلما كتب سعدي شيئاً عن الحزب. وثمة من يقول عنه «إنَّك تقسو على الحزب (...) لو أنك تكتب الشعر، وحسب». يقولون هذا ولا يكتبون إليه، يقولون سينفتح بابٌ لن يغلق.
أعرف لاحقاً، أنَّ الساكنين بالقلق، المحتدمين، بحرارة اللغة وتهكمها، مع هاجس اليوتوبيا، وصانعي الأسئلة الحقيقية عن الحياة، الثائرين على المتصالحين مع الواقع، هم الحزب الذي لا يسعه صالون، ومنبر مؤتمر صحافي، وبيان عام. أريد، الآن، بياناً حزبياً ليس فيه لغة عامة. نفقد الخصوصية يا سعدي.
أعرف، أيضاً، أن الشيوعيين لا يحبون من يقسو عليهم. لديهم وجهة نظر :»العملية السياسية معقدة، معقدة كثيراً، وتركها لقوى رجعية، بلباس ديني طائفي، في مسرح يلعب فيه الأجانب، سيذهب بالعراق إلى أسفل السافلين. الإصلاح من داخل العملية السياسية أجدى من التفرج عليها من الخارج».
منطقي هذا القول .. صحيح؟ لكن أين هي العملية السياسية الآن. أظنّها عملية سطو.  وها نحن نلوم سعدي : «قال الشيوعيُّ الأخيرُ : سأستقيلُ اليومَ، لا حزبٌ شــيوعيٌّ، ولا هُم يحزَنون! أنا ابنُ أرصفةٍ وأتربةٍ، ومدرستي الشوارعُ والهتافُ، ولَـسْــعةُ البارودِ إذ يغدو شــميما... لم أعُدْ أرضى المبيتَ بمنزلِ الأشباحِ، حيثُ ســتائرُ الكتّانِ مُـسْــدَلةٌ، وحيثُ الماءُ يَـأْسَــنُ في الجِرارِ، وتفقدُ الصوَرُ المؤطَّرةُ، الملامحَ».
سعدي يقسو على العراق. تعالوا نجرد العراق. ولو أن سعدي فيه، لكان مات، لكان الأخضر تيبس. كتب محمد علي فرحات في «الحياة» اللندنية إن سعدي نجا من العراق :
«لم يكن سعدي يوسف جالساً في نادي اتحاد الأدباء حين هجم جنود عراقيون بأمر من قيادتهم ليحطموا النادي ويضربوا رواده بالهراوات وأعقاب البنادق. ولم يكتف الجنود باتحاد الأدباء إنما هاجموا بالطريقة نفسها نادي السينمائيين ونادي الصيادلة، وأكملوا مهمتهم بتحطيم سائر النوادي في وسط بغداد.
توقع سعدي يوسف هذا السلوك وغيره من حكام العراق بعد الاحتلال، هو الذي كان يعارض استبداد صدام حسين. وعبّر عن يأسه مبكراً من هؤلاء الغارقين في المال العام يمارسون سياسات بدائية وصراعات صغيرة على المصالح».
هكذا يستوطن سعدي المنفى، إذ نُفيَّ العراق إلى جيب متعدد الجنسيات. إذ «مضى صيف القرنفل.. واستقرت عميقاً وردة الزرنيخ أبعدْ، ولا تأتِ».

مطمئناً في المنفى

تحضرني، أيضاً، اللغة السياسية الجديدة: «لن نقوم بعملية سياسية بالطريقة التي يفكر فيها سعدي. هو يقاوم الاحتلال، كان عليه أن يأتي ليقاوم معنا، ليتعايش مع أجواء المقاومة. هو يدافع عن العروبة .. ما هذه السيرة العفنة، أيّ عروبة، وأي عرب؟ هو يفضح المقامرين والفاسدين والمناضلين، أنصاف النضال، لم يختبر ما يتوجب العمل في السياسة، عليك أن تصافح، وتحاور، وتوقع، وتتحالف، وتبيع وتشتري، وتذبح وتنحر، وتلطم، وتقطع بغداد أوصالاً خراسانية برسم التصنيف النظيف من الهويات المختلطة». هم اختبروا، وأجادوا.
هكذا يغفو يوسف مطمئناً، أمام نافذة الكترونية، وقنينة نبيذ : « كان الشيوعيّ الأخيرُ مكوَّماً فوقَ الأريكةِ، هادئَ الأنفاسِ، مبتسماً. كأنّ روائحَ الفردوسِ تُفْـعِـمُ قصرَهُ الليليَّ حقّاً».
في الأقل الأخضر مطمئن، ليس عليه أن يختبر. تكفيه ذمّةٌ بريئة.
بطاقة شخصية

ولد في العام 1934، في أبي الخصيب، بالبصرة (العراق)
أكمل دراسته الثانوية في البصرة.
ليسانس شرف في آداب العربية.
عمل في التدريس والصحافة الثقافيـة.
تنقّــل بيــن بلــدان شتّــى، عربيــة وغربيـة.
شهد حروباً، وحروباً أهلية، وعرف واقع الخطر، والسجن، والمنفى.
نال جوائز في الشعر: جائزة سلطان العويس، والجائزة الايطالية العالمية، وجائزة (كافافي) من الجمعية الهلّينية.
وفي العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ .
مقيم حاليا في المملكة المتحدة منذ 1999..

2013-01-09 الصباح الجديد

اخر تحديث السبت, 12 يناير/كانون ثان 2013 13:02