شرفة واطئة لنحاتات البرق طباعة

نصر سامي
إلى سعدي يوسف - ... أدنو من سور منازل سعدي.
- سعدي من؟ سعدي الشّيرازي؟
- لا، بل سعدي الآخر، سعدي يوسف.
أدنو من شرفته تلك،
تلك المغروسة في طين الخلق،
تلك الواطئة المعروقة، تلك.
أدنو منها.

أبدو قلقا، وأنا أتقدّم أسرابَ نجوم
كانت تجلس خلف الكرسيّ المتروك هناك.
أدنو أكثر..
أبدو مفجوءا والعتمة تأكل ظلّ برانيس الأهل.
والنّور يجلّل أثداء نساء اللّيل.
ويفتح نافورات الضّوء،
وأكوان الضّوء.
أدنو من سور منازله.
طلقا كتويجات الزّهر أراه.
ومفتونا بصباحات الموت.
أراه وحيدا.
وفي العتمة ألمح أسراب عصافير
تنهض من بين يديه، وتؤثّث أركان البيت.
أدنو أكثر من شرفته القمريّة في أنصاف اللّيل. كوب الشّاي هناك كعادته، السّيجار القادم من أسواق المغرب، رائحة الأقراط المدعوكة بالعرق الإسبانيّ وطعم المانقا. مذاب الميثولوجيا. وصهيل الأفراس المفجوعة بالتّطواف الأزليّ. بيت يانيس ريتسوس.
أصابع مريم والحنّاء تضيء عوالمها المخفيّة. أحجار البازلت على أعتاب النّهر.
أدنو من سور منازله، من ذاك السّور. ألمح طفلا ينزع أثواب اللّيل، ويخلع أثواب النّور. وأراه وحيدا. لا أوهام تؤالف غيم يديه لأرض الرّاحلة الأولى، تلك الفاتنة، الغائمة الوجه، المنسيّة في أقبيّة الأمس.
ألمحها تنزع حصّارات الصّدر، وتترك نهر الشّهوات يفيض، ويورق في هذا الصّمت المطبق. ألمحها تترك قوقعة الخوف، وتركض كحصان صحراويّ أرعن في أرض الغرفة. ألمحها تتسلّى ببرانيس الأخضر بن يوسف، وبشاي قصائده.. وأراها في الرّكن الأيسر من غرفتها تتسلّى بوعود المهدي بن بركة، وسؤال الوهرانيّات المخبوءات كحبّات الحنطة.
وفي العتمة والأمطار تمدّ أصابعها الطّينيّة نحو مسامّ الأرض لمحت ظلالا تخرج. وسمعت اللّغط الإنسانيّ المخلوط برائحة الجنّات وأنهار المعنى. قدمان كبيران، لمحت وراءهما الأكوان تضاء وكلّ عصافير الكون تطوف وترسل أصوات الضّوء. وأصابع معروقة، تسمع فيها نبض الأرض. ووجه يشبه أوراق البردي تلمح فيه المطلق، وخيول الآباد، ونحاتات البرق، وأطيان البدء.
تأمّلته.
كان النّهار يطلّ من الشّرفة الواطئة.
وكانت طيور الزّغاريد تهمي.
وكانت نساء الأساطير تسكنّ رفّ الكتب.
تأمّلته.
كان جزءا بسيطا من الشّرفة الواطئة.
وجزءا من الطّير.
وجزءا من النّور يطلع من بين رفّ الكتب.
'غريبا عن كلّ مقاهي الحيّ الغارق في المطر الشّتويّ. وغريبا عن خطوات النّاس وعن رغبتهم'. حدّثني. وأضاف: 'وأشعر أنّي في داخلهم أنمو كحبوب الحنطة. لكنّي، والغربة تمتصّ عروق الرّوح، أحاول كسر الظّلمات لأبصر ضوء الأهل هناك، ونبض الأرض هناك، ولأكبر أكثر في أعينهم، وأنام'.
أعطيته راحتي والقصيدة. فحدّثني عن وهران، وعن موسكو، وعن باعة أرصفة القيروان. قاطعته قائلا: 'أيّها تشتهي يا صديقي؟'. فقال: 'كلّ تلك المدن، كلّ تلك المباني، تعلّمت فيها كتابة هذي الأغاني'.

شاعر من تونس