بعيداً عن الحقيقة الأولى طباعة

محمود أبو بكر
لا يختلف إثنان في تقدير تجربة سعدي يوسف الشعرية، فهو من شاكلة أولئك الكبار الذين أحدثوا انقلابا في المسار الشعري العربي، فلا يمكن تصوّر الحديث عن تجربة الحداثة الشعرية، دون التعريج على الثلاثي العراقي، (السياب، نازك وسعدي)، سواء على مستوى الشكل أو المضمون الذي حلّق عاليا بعيدا عن كوابح الشكل والتقليد، الأمر الذي جعله لفترة طويلة على مساحة تتقاطع فيها “نيران صديقة” من قبل مختلف رواد المدارس الكلاسيكية المحافظة.

إلا أن تلك “الحملات” لم تكن سوى مبررا كافيا لرواد الحداثة في الشعر العربي، في الإيمان بتجربتهم المتجاوزة للواقع، إلى أن أضحى اليوم أمرا لا يحمل الناس على الاختلاف حول ريادة تلك التجربة المتقدمة، ومن حسن حظ “سعدي” أن امتد به العمر ليشهد المحطات الجديدة في مسيرة هذا النمط الأدبي وهو يشق طريقه نحو العالمية، بعد أن حملته الأجيال الجديدة بتوقها وتطلعها.. فكان أدونيس وكان جيل آخر يشار إليه بالبنان في تجارب الشعر العالمي.
سعدي الذي عاش يصنع الحدث ليس بتجاربه الشعرية والفنية فحسب، بل حتى بآرائه السياسية والفكرية، لا يزال حتى اللحظة يشي بأنه عصي على التطويع، وغريب في عالم يشقه لعوالم متفرقة ومتعددة الأبعاد، دون أن يضع حسابات دقيقة لتداعيات فعله وقوله، فرغم تحفظه البادي على مستوى الإعلام ووسائل الإتصال، فإنه لا يكف عن الادلاء بآرائه وتصوراته الصادمة، القابلة للنقاش والجدل، ولم يكن الحوار النادر الذي أجراه، مؤخرا، في زيارته للجزائر، وخص به الملحق الأدبي لجريدة “الجزائر نيوز”، بعيدا عن هذا المعنى والمضمون.
تحدث عن تجربته الفنية (الشعرية خصوصا) وتوقف مطولا عند محطته الجزائرية التي بدأت في مستهل الستينيات عندما أقام في مدينة سيدي بلعباس، وأصدر ديوانه: “بعيدا عن سمائي الأولى” الذي كتب كاملا في تلك المدينة بالغرب الجزائري.. تحدث أيضا عن منافيه الكثيرة والمتعددة، رافضا أن تسمى فترات إقامته بالدول العربية (الجزائر، لبنان، وتونس) كتجارب منفى، لأنها -كما قال- كانت جزءا من امتدادات فكره الوحدوي، “لم تكن منفى بل كانت تجارب العيش في وطن عربي أؤمن أنه واحد” رغم تعدديته البادية والباذخة بالثراء.
لكنه أيضا تحدث عن قناعاته السياسية في ما يتعلق بماضي وحاضر ومستقبل الأقطار العربية، وعن انضمامه المبكر للحزب الشيوعي العراقي، ورفضه الانضمام لحزب البعث العربي الاشتراكي في موطنه العراق.. وسواء اتفقت معه أو اختلفت في القناعات السياسية عندما يتعلق بماضي أو حاضر الوطن العربي، فلا تملك إلا أن تحافظ على مسافة الاختلاف بمزيد من الاحترام الواجب لشخصه وتجربته الفكرية والسياسية، فضلا عن الفنية (الشعرية والقصصية).
ولا أفشي سرا حين أدعي وأقول إنني أحد الذين اختلفوا معه على مستوى التحليل والحكم فيما يتعلق بـ “ربيع الثورات العربية”، فتحليله في نهاية المطاف ما هو إلا نتاج طبيعي لتجربته وقناعاته السياسية التي ينبغي أن تحترم، مع الحفاظ على مسافات الخلاف، سيما وأنه لم يضق صدرا من إبداء آرائنا حول قناعاته وقواعد تحليله للحراك السياسي القائم في المنطقة العربية، والذي ينطلق فيه من واقع خلافاته العميقة مع التيارات التي قفزت إلى السلطة في دول الربيع العربي، من جهة، ومع القطب الأوحد في العالم من جهة أخرى. والملاحظة التي أثارت حفيظة زملائي الذين شاركوا في ذلك الحوار الذي أراده “سعدي” نقاشا مفتوحا على كل احتمالات الفكرة ونقيضها.. هو قدرته العالية على ضبط انفعالاته رغم كل محاولات الإثارة والاستفزاز التي نثرناها أمامه في حوار بدا أنه كان بين جيلين مختلفين في الرؤى والأفكار.. فخرج الرجل من اللقاء ظافرا بابتسامته، ومنتزعا إعجابنا بانفتاحه على الاختلاف دون أن يؤدي ذلك إلى انتصار فكرة على أخرى.
م

اخر تحديث الثلاثاء, 16 أكتوبر/تشرين أول 2012 15:30