أحمد حمدي : سعدي جاء إلى الجزائر حاملاً ثورة الشِعر طباعة

حاورته: زهور شنوف
في هذا الحوار يقف الشاعر والروائي، أحمد حمدي، عند محطات من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يروي فيها تفاصيل حول إقامة الشاعر العراقي سعدي يوسف بالجزائر، ويمنح “الأثر” إضاءات من الذاكرة عن طريق مواقف وأحداث تقاسمها مع الرجل..
جمعتكم بالشاعر العراقي سعدي يوسف العديد من المحطات، كيف تعارفتما في البداية؟
الشاعر سعدي يوسف جاء إلى الجزائر سنة 1964، في اطار البعثة التعليمية العراقية بالجزائر، وتم توجيهه إلى مدينة سيدي بلعباس، وهناك عاش فترة طويلة حتى بداية السبعينيات. في هذه المرحلة تعرفت عليه بشكل شخصي، رغم أن معرفتي به كانت من قبل من خلال اطلاعي على أعماله التي كانت تنشر في مجلة الآداب البيروتية، وكثير من الجرائد والمجلات العربية التي كانت تنشر أعماله.
لكن بشكل شخصي، كيف التقيته؟

الشعر العراقي كان هو الشعر العربي الرائد بالنسبة للتجديد، وذلك من خلال أسماء كثيرة مثل بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، البياتي... والكثير من الأسماء الشعرية التي برزت منذ بداية الأربعينيات ممن أتوا بشعر التفعيلة أو الشعر الحر، وكان من ضمنهم الشاعر سعدي يوسف، لذلك عندما تعرف بقدوم رجل من هذا الجيل وهذه الكوكبة إلى الجزائر فلابد من السعي وراء التعرّف إليه، وهذا ما جعلني أبحث عنه، وهكذا تعارفنا.
هل كان الجو الشعري الحديث الذي أشرتم إليه موجودا في الجزائر في تلك الفترة؟
في هذه الفترة لم يكن الشعر الجزائري الحديث موجودا، في الستينيات أقصد، لأن هذا النوع من الشعر الذي يتلمس الحداثة لم يظهر في الجزائر إلى غاية السبعينيات، حتى وإن وجدت تجارب عند أبو القاسم سعد الله ومحمد الصالح باوية والسائحي وبلقاسم خمار.. لكنها تبقى دائما كلاسيكية رغم التجديد في العروض والموسيقى.. لكنها من ناحية الإبداع والصورة الشعرية كانت بعيدة نوعا ما.
إذن، كان قدوم سعدي فرصة للجيل الجديد للاحتكاك بهذا النوع الشعري والاستفادة من أحد أقطابه؟
لا، لم يتعرّف عليه ربما غير المتحدث في ذلك الوقت، من الغرائب أنه ذات مرة في الستينيات أرسل قصيدة إلى جريدة الشعب، درسوها في القسم الثقافي وأرجعوا له بإضافة ملاحظة “غير صالحة للنشر”.
هل تعتقد أن انتقال سعدي إلى الجزائر أضفى شيئا على أعماله؟
بالطبع، انتقاله من بغداد أو المشرق بشكل عام، إلى الجزائر أضاف إلى أعماله جوا خاصا، ففي بغداد كان الأكثر شهرة السياب، نازك الملائكة والبياتي، بينما سعدي يوسف يأتي في المقام الثاني بالنسبة إلى هذه المجموعة التي كانت مصنفة - من حيث الشهرة - الأولى، لكن عندما قدم إلى الجزائر وأخذ العديد من المعطيات الجديدة منها البيئية مثلا، جدد أكثر في هذا المجال، إلى جانب أنه جاء حاملا ثورة الشعر معه، هذا ما جعله يشكل مدرسة جديدة تقريبا.
يعني أن هذه المدرسة تمزج بين المغرب والمشرق؟
أهم دواوين سعدي يوسف كان “لخضر بن يوسف ومشاغله”، ونلاحظ هنا الاسم “لخضر” الذي يعود إلى منطقة المغرب العربي، وأعتقد أن هذا الديوان هو أهم ديوان في الشعر العربي الحديث، وكله تقريبا مكتوب عن بلعباس، حيث يصطاد فيه اللحظات النادرة، ويحول اليوميات البسيطة إلى أعمال شعرية مميزة، كأن يحوّل لحظة نزول المطر، وشخص يضع على رأسه جريدة تغطيه من رذاذ ذلك المطر إلى مشهد شعري مميز.. قوة أعمال سعدي يوسف تكمن في التعامل مع اللحظات اليومية البسيطة وتحويلها إلى روائع شعرية.. وهذا يظهر في كل أعماله تقريبا “بعيدا عن السماء الأولى” ديوان مهم جدا، “شرفة على البيت الأندلسي” وهي مجموعة قصصية... وغيرها.
بعد رحيل سعدي يوسف من الجزائر، هل ظل بينكما اتصال؟
الاتصالات في الماضي لم تكن كما هي اليوم، كثيفة وسهلة، أتذكر أن سعدي غادر الجزائر في بداية السبعينيات، في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي العراقي يحاول استقطاب المثقفين العراقيين، خاصة الشيوعيين منهم، وكان من بين العائدين إلى أرض الوطن سعدي يوسف الذي أصبح مدير مجلة التراث، وفي تلك الفترة كنت أنا صحفيا في القسم الثقافي لجريدة المجاهد وذهبت إلى بغداد لتغطية احتفالات بمناسبة إحياء الذكرى الألفية للفرابي، وعشية وصولي سألت عن الشاعر سعدي يوسف، لكن في ذلك الزمن لم يكن أمر يسعد، خاصة الرسميين، عندما تسأل عن مثقف شيوعي في مناسبات كهذه، لكنني ظللت أبحث عن الرجل حتى وجدت من يوصلني إليه، وسر كثيرا بتلك الزيارة.
عندما التقيته في تلك الفترة، هل بدا لك أن سعدي كان مسكونا بهواجس سياسية؟
سعدي رجل كتوم وقليل التصريح، هذه إحدى ميزاته، لكن ما أستطيع قوله عن تلك الزيارة، أنني لم أشعر أنه كان مرتاحا أو سعيدا بإقامته في العراق.
كان هذا آخر لقاء جمعكما في السبعينيات؟
لا، في ذلك الزمن كان قد تشكل جيل جديد في المشهد الثقافي الجزائري كعبد العالي رزاقي وحرز الله محمد الصالح وأحلام مستغانمي وعمر أزراج.. وكان الفنان المسرحي العظيم مصطفى كاتب، يشغل آنذاك مدير النشاطات الثقافية بوزارة التعليم العالي وكنت رفقة رزاقي وحرز الله مستشاريه، وفي العام 1977 اقترحنا اسم سعدي يوسف من ضمن الأسماء التي تدعى لتنشيط الحياة الثقافية، وبالفعل عاد سعدي إلى الجزائر في إطار أمسية شعرية كانت ناجحة جدا، ووجد تغييرا كبيرا قد حدث في الجو الثقافي، حيث تعرّف على أدباء وشعراء من الجيل الجديد، والتقى بالمرحوم عبد الحميد مهري الذي كانت تربطه به علاقة جيدة، وقد تدخل ليسهل عودة سعدي للإقامة بالجزائر بعد أن أعرب سعدي عن ذلك، وبالفعل توفرت كل الشروط الضرورية لذلك، وعاد ليدرس بجامعة باتنة لمدة سنة، لكن يبدو أنه لم يكن مرتاحا في ذلك الجو فقرر المغادرة.
ربما نبتعد قليلا عن الذاكرة ونتحدث عن الأعمال الأدبية لسعدي، خاصة في الترجمة، دائما نركز على أعماله الشعرية أو القصصية، فيما تظلم جهوده الرائعة في الترجمة، إلى أي مدى ترون تأثير جهد المترجم يطغى على الشاعر في أعمال سعدي؟
لابد أن نعترف أن كل عمل يؤثر على الآخر خاصة في مجال الأدب، لأن كتابة النص الأدبي تجعل الكاتب يعيش في هوس، في حالة غير طبيعية، يجب أن يكرّس كل جهده لها، والارتكاز الكبير على العاطفة والخيال.. فيما تحتاج أعمال أخرى إلى أدوات علمية ومنطق، لكن هذا لا ينفي أن ترجمات سعدي كانت رائعة خاصة وايت مان “أوراق العشق” كأنها نص جديد، وترجمته لمذكرات ميلر، رباعيات الاسكندرية للشاعر اليوناني كفافي... وغيرها من المساهمات التي تعد أساسية وقيمة في إثراء المكتبة العربية بالأعمال العالمية.
على مستوى المواقف السياسية، كيف تجد سعدي؟
يظهر لي أن سعدي التزم ذات وقت مع الحزب الشيوعي وبقي هذا الأمر مرتبطا باسمه دائما... بينما أعتقد أنه كرّس وقته الحقيقي للإبداع أكثر من السياسة، ولو كان العكس لكان الرجل قد انتهى، ولأن التزامه بالإبداع كان أقوى من التزامه بالسياسة، ولو كان أعطى للأخيرة أكثر من حقها لكان سعدي، اليوم، إما وزيرا في الحكومة العراقية أو أنه قتل.. ولا أظن أن هذا المصير الأنسب لرجل من طينة سعدي.

اخر تحديث الثلاثاء, 16 أكتوبر/تشرين أول 2012 15:26