رسالة تنهيدة سعدي طباعة

(مصر)
أيها الشاعر سعدي، لا أحب أن أكتب الكلمات الاحتفالية البشوش المختصرة المتعالية. سوف أكتب إليك دون ترتيب، دون نظام، دون ضوابط، كأنني مجذوب، كأنني أعمى، وآمل ألا تأخذك مني سنة من النوم، آمل أن تراقبني، ترى أطرافي وهي تتحسس قلوب أبطالك وحيواناتك ونباتاتك وجمادك سوف أستهل وأهمس في أذنيك وأقول:
الكتابة عما لا نحبه سهلة، ليس عسيرا أن ندس أصابعنا في ثقوب الآخرين، خاصة معاصرينا ومجايلينا، أن ندس عيوننا

 في عيوبهم، أستفهم دائما لماذا لا نجرب الكتابة عمن نحب، صحيح أن ميكروبات الفساد تميل الى الارتياب فينا إذا أعلنا محبتنا وجاهرنا بها، ميكروبات الفساد تظن أننا طلاب حاجات، طلاب مصالح، طلاب رجاوات، لابد أن نقنعها أننا محبون فقط، أعترف أنني عانيت كثيرا من جراء تلك الشهوة، شهوة التصريح، عانيت بسبب أسماء قد لا تمل وتتململ من حرصي على طولها فيروز ونضال الأشقر وأدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقه وعصام محفوظ ورينه حبشي وسعيد عقل وميشال طراد ومارون عبود وسعيد تقي الدين وفؤاد سليمان وفؤاد كنعان وحنان الشيخ وهدي ونجوى بركات ورشيد الضعيف وسليم بركات وحسن داوود وسنية صالح وليلي بعلبكي وغادة السمان وخالدة.. الخ الخ، عانيت أخيرا بسبب يوم الدين ورشا الأمير، الأسماء كثيرة لأنني أحب الاحتفال بالأسماء، ولأنك الشاعر الذي يمتلئ شعره بها، سواء النكرات والإعلام، أقول عانيت من أجل بيروت ودمشق، وها أنذا ألبس قميصي وجوربي وحذائي وانتقل الى مكان تعرفه الجرافات وتدهس أرضه فيما يبحث البخار والأنفاس والطيور عن سمائه، انتقل الى البصرة، وأبحث عن منزلك الذي سكنه الأشرار فيما بعد، كأنني أبحث عن منزل أليف، كأنني أبحث عن كلمة غالية ضاعت مني، هل تعرف العلة التي تجعل الكلمة أشبه بخليط ظلام ونور يمكن أن يتغلغل فينا، كلمة مستهلكة ومباشرة، ولكنها إذا ظهرت لم تستطع أن تمنع ظهور حكاية أو قصيدة أو شخص ما في إثرها، كلمة كانت مبتذلة الى أن صاغها أحدهم فأصبحت كلمة ذات عشيرة ذات ذرية، إذا اعترضنني على سبيل المثال كلمة الكلينكس مهما كان موقعها، رأيت زهرة بطلة رواية حنان الشيخ تستخدمه بعد مضاجعة القناص لها، هل ترغب أن أحكي لك حكاية كان صديقي الشاعر محمد سليمان الذي ولد في بلدة مليج من أعمال محافظة المنوفية، يرويها لي، يقول أن بلدته سبق وأخرجت شاعرا، أذكر أن لهذا الشاعر بيتين قالهما متوجها بالحديث فيهما الى صديقه الشاعر محمود الخفيف، وكان قد دعاه مع آخرين على عشاء في بيته:
إيه يا محمود جعنا
واسقنا شايا ثقيلا
هات لحما ورغيفا
لعن الله الخفيفا
كان شاعرا تقليديا جهير الصوت عاليه، وكان أيضا صاحب نوادر وطرائف، وله كما يروي سليمان أخ أكبر يدعي الشيخ محمد، كان الشيخ يختار الليالي السوداء بلا قمر، ويلبس جلبابه هكذا علn اللحم دون ملابس داخلية، ولما سئل: لماذا يا شيخ، قال: لأصبح عاريا في أسرع وقت، ثم أضاف: ولكي لا يتمكن أحد من الإمساك بي إذا ضبطني وجرى خلفي، في آخر الليل ينزل الشيخ الى الحقول، عله يصادف امرأة تأخر رجوعها فينقض عليها آملا أن تلين أو تخجل من الصراخ، ذات ليلة فعلها، وفي الصباح فاجأه الرجال المرحون وقالوا له: هل تعرف مع من يا شيخ فعلتها بالأمس؟ لم يستح وقال: من، قالوا: أختك، أجابهم: فليكن، ومنذها تغير اسمه ليصبح الشيخ محمد فليكن، أعترف لك أنني وقعت في أسر الحكاية كما وقعت في أسر كلينكس زهرة، كانت إذا ظهرت كلمة فليكن برزت عمامة الشيخ محمد وجلبابه على اللحم، حتى أن الكلمة صارت تطاردني كمزحة، عندما قرأت قصيدتك الوطن الصغير في مجموعة (51 قصيدة) والتي ترتفع هكذا: وليكن، إن أغانيها عنيفة، كلها تسعي وراء الجوع سوداء مخيفة، يا محمد، إنها الأرض التي نحيا عليها، ونموت، أذكر أنني وصديقي الشاعر الوحشي المظلوم محمد عيد ابراهيم كنا نردد هذا المطلع، منذ ذلك الوقت أصبحت كلمة فليكن كلمة جديدة، لقد ضمرت حكاية الشيخ محمد، وبرزت حكاية الوطن الصغير، وبعد أن كانت الكلمة فليكن تطاردني كمزحة تعقبها قهقهة عالية أصبحت تظللني كصوت تعقبه سحابة عالية أيضا، أيها الشاعر سعدي، صمتك أطمعني فيك، وغرامي بالحكايات أطمعني في الحكايات، وجذوة محمد سليمان في قلبي مازالت مشتعلة، يحكي سليمان وحكايته هذه المرة قد تكون خشنة بعض الشيء، جارحة بعض الشيء، يحكي أن واحدا من أصدقائنا الشعراء زاره في بيته أوائل السبعينات، واستعار منه أحد دواوينك، الشاعر الزائر كان قد بدأ النشر في الستينيات بقصائد لافتة تتميز بنفس صوفي أقرب الى التصوف الشعبي، هو شيخ طريقة ورثها عن أبيه، ويميل الى استلهام التراث ومحاكاته وإلى اللعب الساذج باللغة كصوت، ويجيد إلقاء شعره في لهجة مؤثرة، المهم أنه استعاد ديوانك، بعد أن قرأه، أو قرأ بعضه، أعاده الى سليمان وقال له: هذه الشاعرة سعدي بضم السين وفتح الدال شاعرة جميلة، وانصرف، انتهت الحكاية، وللحكاية قفص تأويلات ودلائل، الأول أن الشعر المصري والشعراء المصريين المحافظين آنذاك كانوا مكتفين بمعارفهم عما يحدث في مصر، وعلى غير علم بما يحدث خارجها، كانوا يشبهون بشر الأقفاص، ولذلك كثر بينهم من يأتم بصلاح عبدالصبور ويقلده، مما دعم الاتجاه الشعري الذي يمثله صلاح، ومما دعم فكرة أن أغلبهم ينتسبون الى جيل مدشوت حسب عبارة لويس عوض، قليلون منهم ارتضوا إمامة أحمد حجازي وتابعوه وتبعوه، الثاني أنه على الرغم من صوفية الشاعر الزائر إلا أن صوفيته الشعبية التقليدية الساذجة لم تسمح له حتي أن يتذكر اسم سعدي شيرازي ومالت ذاكرته فورا الى نساء الخليل بن أحمد المرحات، معشوقات الشعراء العرب القدامى هند وعفراء وورد وفوز وليلي ولبني وعزة وبثينة وعبلة وسعدي، الثالث أن الشعر في هذه الفترة كان بطوليا جهوريا مناضلا، حنجرته بحجم مائة مليون حنجرة، حتى إذا عشق وأحب، حتى إذا يئس، كان شعرا عاما بحق، وكان الشعر الخاص ينبت في أماكن نادرة متناثرة، ويبحث عن حناجر، كل حنجرة بحجم حنجرة واحدة فقط، ويمثل استثناءات قليلة، حتى الشعر المهموس كان يمثل استثناءات قليلة، والنفوذ الكبير لصلاح عبدالصبور لم يؤد الى سريان نبرته الخافتة في الشعر المصري، لأن أتباعه أهملوا بعض خواصه وخصائصه، أهملوا أهمية الثقافة العالية، وأهملوا أهمية نبرته الخافتة، ثم أخذوا عنه العناصر التي تلائمهم وأفقروها، لذلك فإن همسك اصطدم بالطابع البطولي الجهوري المناضل لدي الشاعر الزائر مرتاد حلقات الذكر، اصطدم بالطابع الذي لقساوته وغلظته يكاد عنده وعند غيره أن يكون طابعا ذكوريا، مما جعله يتبلبل، ويظن أنه هكذا، أنه قرأ شعرا جميلا للسيدة سعدي، هذه البلبلة أعتقد الآن أنها كانت الشاهد الأول لشعرك عندي، الشاهد الذي دلني فيما بعد على سعيك حثيثا في دروب الشعر الخاص، ودلني فيما قبل على أنني سوف أتمادى في النأي عن أغلب الشعر الستيني، وفي النأي عن بعض البارزين فيه، الآن أعرف بوضوح أنك أحد الشعراء الذين يمكن لقصائدهم أن تخدع قراءها، أن تخدع بعض السياسيين فيظنون أنها لهم، وبعض الشعراء الشباب الذين يظنون أن أقاليم الليل والنهار قد غسلت أرضها وسماءها من الايدولوجيا وأن قصائدك ضدهم، إن هواء السياسة ونقرة السمان والجواهري والبياتي وشوقي بغدادي وخان أيوب وفائق حسن والثورة الفلسطينيية ويوميات بيروت وذكريات الحصار، هذه العلاقات وغيرها كان لابد أن تظهر معها قصائدك وكأنها قصائد شاعر عام، الغريب أن قصائدك تنجح فيما فشل فيه أغلب معاصريك، بين هلالين أعترف أن أحمد حجازي نجح الى حد كبير في أن يغمس فرشاته ويبللها بماء الكلاسيكية الجديدة من أجل أن يقلل من الشعور الفادح بحضور الشاعر العام، وأن عبدالوهاب البياتي حاول ونال أجرا واحدا، وأن محمود درويش استطاع أن يقلل من ذلك الشعور الفادح بفضل غنائيته الفريدة والقادرة، وكلاهما الكلاسيكية والغنائية في مجملهما لا تتعارضان مع الشعر العام، قد تتآزران معه، بين هلالين آخرين أعترف أن آخرين كثيرين مشهورين لم يستطيعوا إلا أن يكونوا شعراء عامين بفجاجة، ويكاد يكون تاريخ الشعر العربي في الغالب منه تاريخ شعر عام.

****
أيها الشاعر سعدي، الإطلالة الأولى على شعرك تكشف عن هموم مشتركة ومتداخلة مع هموم الجماعة، الذين اكتفوا بهذا المستوى من الرؤية وقنعوا به أيديولوجيون عازمون على تربية الشعر في حظائر بملايين الجدران، عند المستوى الثاني سنكتشف أن الموضوع مهما كان جلاله مجرد ذريعة لكتابة الشعر، ذريعة لن تختلف سواء كان الموضوع السياسة أو ذات الشاعر أو الحب أو الايروتيكا، إنه مجرد ذريعة تكفل الاقتراب من الشعر لأن الشعر يحتاج الى ذرائع، عند المستوي الثالث سنكتشف أن قصائدك الفائقة نجحت في ضبط المسافة بينك وبين موضوعك، فلا هو قريب القرب الذي يجعله غالبا، ولا هو بعيد البعد الذي يجعله غائبا، انه في المكان الذي لا يسمح بأن يكون أكثر من ذريعة، مكان الضرورة، في هذا المكان يتحول الموضوع الى مادة خام يشتغل عليها الشعر والشاعر دون اعتبار كبير لنوع هذه المادة، عند المستوي الرابع يغتسل الشعر تماما ونهائيا من طابعه الميداني، ليصبح الشأن العام أحد الشئون الحميمة، ليصبح شأنا خاصا، ويصبح شاعر هذا الحقل من الشعر شاعرا مقتدرا من شعراء الحجرة، يتغني بأمور يظن البعض أنها لا تصلح إلا لشاعر ميداني، عند المستوى الخامس يتحرر شكل القصيدة ولا يخضع لإرادة الشاعر، يتحرر ويتبع إرادة القصيدة ذاتها وتكون القصيدة حداثية لا لرغبة الشاعر في أن يكون حداثيا بل لرغبة القصيدة، ومن يشاء له حظه وذوقه وثقافته أن يحب قصيدة كهذه، سيحبها لأنها ترده الى ذاته، تجعله يحتفل بما هو شخصي، صحيح أننا كجماعة أصبحنا لا نعرف الأشياء، يستحيل علينا معرفة الأشياء مادمنا لا نقدر على إنتاجها، إننا نعيش منذ انحطاطنا في كهف أصغر من كهف أفلاطون، ونرى صور الأشياء وظلالها ونتعامل مع الصور والظلال على أنها الأشياء ذاتها، واللغة كشيء مادي ملموس لها ظلال بينها ظل رئيس هو المعنى، يعادله ظل رئيس آخر هو الصوت وكثير من الشعراء يتعامل مع المعني وكأنه اللغة، كذلك كثير من النقاد، أكاد أجزم أنهم الشعراء والنقاد هؤلاء لا يعرفون قراءة القصيدة قراءة تتعامل مع اللغة كأصل، كشيء، ومعي المعنى كظل، كصورة، أنهم يكتفون بالتعرف على المعاني والأفكار، أنٌِبه خشية سوء الظن الى أنني لا أعني نفي المعني وإلغاءه والاستعلاء عليه، ولكنني أعني مراعاة موقعه كظل، قليلون هم الشعراء الذين يتعاملون مع الصوت وكأنه اللغة، كذلك يفعل قليل من النقاد، لأن هندسة الصوت أعطى من هندسة المعنى، ولأن المعنى أكثر قدرة على إثارة السجال حوله، ولأن الظل المعنى لا يحتاج الى الدربة التي يحتاجها الظل الصوت، عند المستوي السادس تتضافر العوامل جميعا، اللغة كأصل، وخفوت الصوت، والشعر الخاص، لتدخل بنا منطقة جديدة يشيع فيها السحر وتتوالى طبقاته.

****
أيها الشاعر سعدي التقيت بشعرك في طبقات سحره، وفطنت الى أنه يختلف عن أغلب الشعر الستيني، وضد بعض البارزين فيه، هل يمكن أن تتذكرهم، الأصح هل يجب أن تنساهم، الطبيعي ألا تتذكر أحدا منهم، وألا تتذكر أول مرة التقينا، الطبيعي أن أتذكرها أنا، كنا في أمستردام، هولندا، أوائل التسعينيات، بدعوة من مكتبة الهجرة، لفتني انك تخشي الصور الفوتوغرافية آنذاك، قلت لنفسي: إنه الشاعر المنفي المطارد المرصود من سلطة تبطش بخصومها، لابد أن يخشى التصوير لفتني أنك سألتني عن سيد البحراوي وإبراهيم داوود، لفتني أنك صاحب صوت خفيض، تميل الى الصمت، انك على مائدة الخطابات الثقافية لا تأكل كثيرا، لقيمات فقط، وأنك رقيق، تجامل، وبعدها تستغفر وتتوب عن مجاملتك رأيتك في أكثر من موقف تقول لأحدهم: قصيدتك جميلة، ثم بعد أن ينصرف تتساءل في هدوء وحميمية كأنك تفشي سرا: والله يا أخي لا أعرف ما علاقة فلان بالشعر، أحسست في كل مرة رأيتك فيها، أن النفاذ الى داخلك صعب، أن ضفدع الجواهري مبتل ومختل، وأن سلحفاتك ذات صدفة صلبة، كدت أقول قنفذك لكنني تراجعت، تصورت أن طائرا حساسا يختبئ خلف تلك الصدفة، وأنني أعرف شعرك أكثر مما أعرفك، هل أعترف أكثر، هل تسمح لي أن أقول أنني أحببت شعرك أكثر مما أحببتك، هل تعتقد أن السبب يرجع الى أنه لم تنشأ بيننا علاقة حميمة تتيح ما لم يتح، هل يا ترى لاسمك الثاني علاقة بالأمر، في حياتي كلها لا أعرف لماذا لم يكن لذلك الاسم يوسف حضور وألفة، بداية كنت لا أحب النبي يوسف، ذلك الجميل الذي يتسبب في أن تجرح النساء راحاتهن دون أن يشعرن، كنت أحس بالغثيان والقرف، لم تستطع قصته مع زليخة والفرعون أن تفتنني، كرهت الحجاج بن يوسف، ويوسف بن تاشفين، والقاضي أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة وعامل أبي جعفر المنصور على القضاء، وصلاح الدين يوسف صاحب السمعة التي تفوق حقيقته والذي اعتذر العقاد عن إدخاله في سلسلة عبقرياته، وحرص أنور السادات علي إظهاره كقرين له، شعرت أنني وقعت لزمن طويل في خدعة يوسف شاهين، وها أنذا أندم علي هذا الوقت الضائع لم أحب يوسف جوهر ويوسف وهبي ويوسف السباعي وإبراهيم يوسف وبحر يوسف والشيخ علي يوسف، ولم أحب يوسف النجار، وجوزيف ستالين هناك يواسف منذ البداية لم أعرهم انتباها لأنهم الأدنى، لولا يوسف إدريس ويوسف الشاروني ويوسف الخال وقرصان طفولتي يوسف كامل شرارة والجميلة ليليان جوزيف، واليوسفندي (أعني اليوسفي) وسعدي يوسف، لاعتقدت أن هذا الاسم أحد خصومي، وسوف أظل أحب الأخضر بن يوسف ومشاغله، وكيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الأخيرة، إنه على أي حال شخص غير متزن، وإن بدا شديد الهدوء، ولأنه غير متزن ولأنه مشتت الذهن ولأنه لم ينم منذ ستة أيام لم يستطع أن يكتب قصيدة، في أواخر الثمانينيات دعي كل الشعراء و الكتاب، وكل سنة الى العراق لحضور مهرجان المربد الشعري ولقد ذهب الجميع، حتى أصبح من المضحك أن تعتذر وترفض، ومع ذلك فقد قبلنا أن نصبح مضحكين محمد سليمان وأحمد طه وأنا لمدة سنتين متتاليتين، في السنة الثالثة انفرد طه بالموافقة على الذهاب، يريد أن يزور العتبات المقدسة ومقابر الطالبين وكربلاء والنجف، وسوف يقرأ قصيدة يهديها إليك، كان يعلم عمق معاداة النظام لك، ولكنه على منصة المربد أعلن رغبته، الى سعدي يوسف، ستظل لأحمد طه مكانته الانسانية الخاصة في داخلي، صحيح أنه يحشوها طوال الوقت بالالتباسات، وسوف أظل على حبه بغض النظر عن تقلباته وأقواله وأحواله ومواقفه وشئونه الصغيرة وكائناته غير المرغوب فيها، وأحمد طه يا سيدي سعدي شاعر وابن مدينة ومثقف مصري بمعنى ناجز، لذلك ولغيره أظن أنه قد خانك الإنصاف أو غلبك ما يغلب الكتاب والشعراء العرب عندما يكتبون عن مصر، ذلك عندما كتبت تقول: إن شريحة سائدة من المثقفين المصريين في الوقت الحاضر قد اتخذت الفهلوة الثقافية صنعة وحرفة، أن المشهد الشعري المصري ليس بالفتنة المرجوة، انتهت عبارتك التي يمكن تعديلها آلاف المرات ووضع السوريين أو اللبنانيين أو المغاربة أو الصقالية أو المماليك أو العراقيين بدلا من المصريين، ولكن العبارة بشكلها جعلت من المثقفين المصريين حالة سيئة خاصة، عموما لم يحدث أن اهتممت بنثرك كثيرا، إلا بدواعي الفضول، وليس بدواعي المتعة، أراك دائما الشاعر الذي يعتني كثيرا بكونه شاعرا، والذي يتعامل مع النثر كما يتعامل الحوذي مع حماره، إنه فقط أداة للتوصيل، أداة للسجال، إنه فقط أداة، وهكذا يفقد نثرك الميزات والمبررات الجمالية، ويصبح نثرا قابلا للزوال، قابلا للاستعمال ثم الزوال، وهذه الحالة هي الحالة الغالبة علي نثر الشعراء المصريين من الأجيال المختلفة، وأظنك ستوافقني أنها الحالة الغالبة علي نثر الشعراء العراقيين، أيضا من الأجيال المختلفة، الاستثناء يأتي من الشام الكبير، نثر لبنان، ونثر محمود درويش، ونثر سوريا، هذا الاستثناء غالبا ما يستند الى مفهوم الشاعر عن الشعر وعن نفسه، يستند الى مفهوم الشاعر عن النثر وعن نفسه، الى مفهومه عن تراتبية موروثة تضع الشعر تاجا فوق الرأس المرفوع، وفوق الرأس المقطوع، أو عن انعدام أية تراتبية بحيث يصبح الشعر والنثر شقيقين أحدهما لا يفوق الآخر ولا يتقدمه، عند البعض يضح النثر متمما للشعر ومكافئا ومضيئا له، وعند البعض الآخر يصبح متمما للكائن السياسي أو الكائن اليومي ومكافئا لأيهما، و هكذا يكون موكبك وطوافك السري، أنت الشيوعي في عربتك الملكية، تقودها وإلى جوارك على المقعد الذهبي قصائدك ومسوداتك الشعرية، وعلى ظهر العربة يتعلق النثر في وضعية الموشك دائما على السقوط، أحيانا توقف العربة وتزيحه، وأحيانا يتعلق مشرذما على هيئة مقالات وقصص وروايات ورايات ومعه تتعلق ترجماتك، فأنت تمارس الترجمة بالطريقة ذاتها، ليس باعتبارها متممة للشاعر مكافئة له، بل كنشاط واسع مفتوح على كل الاتجاهات نشاط تقني يقوم به أحد التكنوقراطيين النشطين، لا يسعي الشاعر من ورائه الى تزويد شعره بقوي إنتاج متميزة، أول تعارفي علي شعر كفافي كان سنة 1979 في وداعا للإسكندرية التي تفقدها، مائة وعشرون قصيدة، ومقدمة لرجل لا أعرف اسمه ريكس وارنر، وأصبحت إيثاكا بفضل ترجمتك مدينة بعيدة لا أصل إليها أبدا، وأنت تزمع الرحيل الى إيثاكا فلتصلٌِ من أجل أن يكون الدرب طويلا، مليئا بالمغامرات والتجاريب، بعد كفافي كان أونجاريتي في سماء صافية، وبريفير في كلمات، وفلاديمير مولان في قصائد مختارة، وفاسكوبويا في شجرة ليمون في القلب، ولوركا في الأغاني وما بعدها، وغونار أكلف في ديوان الأمير وحكاية فاطمة،و سارة ماجواير في حليب مراقد، ويانيس ريتسوس في إيماءات . بعض الشعراء الشباب يرون أن ريتسوس بين الآخرين هو الأقرب إليك وروايات افريقية من الصومال وكينيا، وروايتان لم أحبهما لديفيد معلوف الاسترالي من أصول عربية، حرصت أن أعرض عناوين ترجماتك المتاحة أمامي لأتعرف علي اتجاه ما للبوصلة لكن التنوع وغياب المشروع جعل البوصلة تهتز وتجري في أكثر من اتجاه، أوشكت أن أقول لنفسي! إنها ترجمة محترفين، إنها عمل يقوم به صاحبه في أوقات الفراغ بين قصيدة وقصيدة، هذا الرجل أقصدك لا يحب أن ينتسب الى شيء غير شعره، ولا يحب أن ينتسب إليه شيء غير شعره، سنتبين طوال الوقت أن الترجمة كانت متممة للكائن اليومي غالبا، كانت تعمل بدأب علي بعض ما يقابله مصادفة ويعجب به، كانت مهنة أحيانا، ونادرا كما في حال ريتسوس وهنري ميلر ما تكون متممة للشاعر ومكافئة له، النثر والترجمة عندك هما ركعتان بلا قلب، بلا إيمان، تقوم بأدائهما خارج محرابك ومسجدك، ربما علي قارعة الطريق، ربما في البيت، ربما في المقهى، ومعهما تظل القارعة والبيت والمقهى على حالها كقارعة وبيت ومقهى، أما الشعر الذي يحدث في بعض هذه الأماكن إنه يحول أيا منها الى محراب أو متاهة، شعرك أيها الشاعر سعدي هو نباتك الطبيعي الذي تحتوي عليه وترويه يوميا وتحميه من الغوائل، نثرك وترجماتك هما نباتاتك البلاستيكية التي ينتجها مصنعك، غزارة شعرك لا تمنع عنه أن يكون طبيعيا، قد تتسبب في كثرة الحشائش والأعشاب، أشهد أن الحشائش والأعشاب هذه تفوق كثيرا من حيث العدد، تفوق الأشجار الجميلة، غزارة شعرك قد تتسبب في أن تكون المسافة شاسعة بين جيده ورديئة، وهذه آية من آيات الشعراء الكبار، آية من آيات أبي تمام مثلا، تذكر أبا تمام، لو جئت عالمنا لكنت معي سجينا، هذه الآية لا يستطيع البحتري أن يبلغها، هناك آية ثانية هي عدم قابلية هذا الشعر للصف والتصنيف داخل اتجاه، عدم الاطمئنان الى التصنيف إذا جربنا وفعلنا، عبودية الشاعر وخضوعه لاتجاه قد تعني أنه محض معبد طريق، محض جندي، محض مؤمن بعقيدة، وأنه قد وضع العقيدة فوق الشعر، وأنه أكثر إخلاصا لها، انفلات الشاعر من حدود كل اتجاه تعني اقترافه للخيانة الجميلة، الخيانة الضرورية، خيانة العقيدة، الشعراء مثلك خونة بامتياز، خونة العادة والتقليد والاتجاه والدعوة والاستمرار على الوتيرة ذاتها، ما آلمني حقا، وأرجو أن تسامحني، هو ارتدادك الى ديوان الموضوع، ديوان المعاني، تجميع القصائد التي تقع تحت عنوان واحد، تجميعها ونزعها من دواوينها الأولى المتفرقة، ليكون هناك كتاب الموضوع، كتاب كل حانات العالم من جلجامش الى مراكش، كتاب الايروتيكا، كتاب المدن، ما آلمني في هذا التقليد، أنه من زاوية خفية يعيد الاعتبار الى شعر المعنى، ويجعله وكأنه امتداد لشعر الأغراض، إن هذا التجميع ينطوي على الجزء التالف من التقليدية والذي شاء أن ينشع على جلد شعرية حديثة، هذا النشع يؤيده مسرب آخر هو شعور الشاعر شعورك أنه الشاعر الضخم الوحيد والنبي والذي لا يقرأ أحدا ويختفي خلف قناع سميك من التواضع، نبي يقاسمني شقتي، هذا الشعور ينطوي على الجزء التالف أيضا من التقليدية ويشترك فيه كل الشعراء العاميين بنسب متفاوتة تضيق مثلا عند صلاح عبدالصبور الأجمل بينهم وتنفرط الى حد إثارة الشفقة عن أحمد حجازي وتلبس قناع التواضع عند بعض المهرة الآخرين، ما آلمني حقا، وسوف تسامحني، أنني عندما دخلت ساحتي ديوانيك حياة صريحة وقصائد العاصمة القديمة، وجدت أتربة كثيرة تملأ المكانين، وشممت رائحة عطنة بعض الشيء أجبرتني على العودة الى ساحات الأخضر وفائق حسن والشمال الإفريقي والليالي كلها، ومع ذلك ستظل تدهشني تلك الحماقات التي نمارسها جميعا تلك المحبات والكراهات غير المفهومة، سأقرأ كثيرا قصيدتك الأشرار وأتخيل أبطالها وفرسانها يتحركون في شوارع القاهرة بعد أن نزحوا من بغداد، أتخيلهم وعلى كتفي كل منهم أعباء نظافته وطهره الظاهرين وأعباء اتساخه وعهره الباطنين، سأقرأ مرثيتك النثرية عن عبدالوهاب البياتي بعد أن أقرأ قصيدتك المهداة إليه سنة 1955، كنت أيامها في العشرين، ربما كنت مبهورا بعد، أترى ستومض في ندى عينيك بصرتنا القديمة، وهجا وأغنية عظيمة، وسأرى ذلك الموت الغادر، الموت النقاد، موت عبدالوهاب، كيف استطاع أن يغسل الغبار ويزيله عن عينيك فترى عبدالوهاب هكذا زائفا قليل الشاعرية والشعرية، سأقرأ مختاراتك من شعر الجواهري بعد أن أقرأ قصيدتك المهداة إليه، وسوف تزلق سبابتي وابهامي فوق جلد ضفدع الجواهري المبتل والمختل، وسوف أتبين أن الموت الغادر، الموت النقٌاد موت أبي فرات استطاع أن يصالحك مع قيمته الكبرى، عندئذ سوف أنظر الى الموت الذي أخشاه جدا، سوف أناديه وأقول له وأداهنه، أيها الموت، أيها الموت، الى أي حد أنت ساحر، وسوف أسمع سعدي يتنهد. أيها الشاعر سعدي، هل يمكن أن تقوم لنا علاقة حميمة تسمح أن أراك في أبعد نقاط داخلك، وأن تراني في الأبعد، أن نمشي متلاصقين يدا بيد، نبحث عن إيثاكا، عن خان أيوب، عن البصرة، عن ليليان جوزيف، وعن أبي تمام وعن المنفيين، المنفيون يحبون ملابسهم ونباتات الزينة والقطط، المنفيون يحبون اللغة الأخرى ومواعيد قطارات الليل،المنفيون يحبون حسابات ما كانوا ليحبوها، وروايات رايات ما كانوا ل.... المنفيون، سوف يفيقون صباحا ما، ليروا انهمو منفيون، حتي عن معني المنفي.

****