صحافة النجف... والحركة الشيوعية طباعة

خليل علي حيدر
عكست الصحافة النجفية في المرحلة (1939-1958) اهتماماً واسعاً بالحركة الاشتراكية والحزب الشيوعي العراقي القضية الفلسطينية وبتطورات الحرب العالمية الثانية وقضايا استقلال الدول العربية بعد انتهاء تلك الحرب.
وقد بدأ تأثر العراق بالأفكار الاشتراكية والماركسية منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين، "حيث بدأت تصل إليه مجلة الحزب الشيوعي البريطاني وصحيفة اللومانيتيه الفرنسية عن طريق لبنان"، كما يقول قاسم الخطاط في مقال له عن الحركة الشيوعية في العراق. (الأحزاب السياسية في العراق، هادي حسن عليوي، لندن، 2001).

ويضيف "عليوي"، أن أولى المحاولات لتشكيل حزب شيوعي سري في العراق، تمت بتأثير الحزب الشيوعي السوري وسكرتيره خالد بكداش، وظهرت أول حلقة من الماركسيين العراقيين حاولت تأسيس تنظيم شيوعي في العراق، وأصدرت مجلة علنية نصف شهرية، في ديسمبر 1924. لكن هذه المحاولة لم تنجح، فانفرط عقد الجماعة المؤسسة. وعندما جرت المحاولة الثانية الناجحة عام 1934، على يد "يوسف سلمان اليوسف"، الذي اشتهر باسمه الحزبي "فهد"، كان من بين مؤسسيها أحد أبناء النجف هو "مهدي هاشم"، المعلم السابق، ومعاون مدير محطة سكك الحديد، كما تذكر المراجع عضواً مؤسساً آخر هو المحامي النجفي "حسن عباس الكرباس"، خريج كلية الحقوق ببغداد. وقد اختارت المجموعة لنفسها تسمية "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار"، ثم جرى تغيير اسمها إلى "الحزب الشيوعي العراقي" في يوليو 1935، وأصدروا جريدة "كفاح الشعب" ناطقة "بلسان الحزب الوليد". وقد وُجهت أول ضربة للحزب أواخر عام 1935، عندما اكشتفت السلطة تنظيمه واعتقلت أعضاءه وصادرت مطبعته. أيّد الحزب انقلاب "بكر صدقي" عام 1936، لكن "صدقي" انقلب على الحركة الإصلاحية الاجتماعية عامة 

وازداد أمر الحزب الشيوعي سوءاً في عهد حكومة المدفعي، بعد اغتيال "صدقي" عام 1937، حيث أصدرت الحكومة قانوناً يعاقب "كل من جند أو نشر المذاهب الاشتراكية أو البلشفية أو الفوضوية أو الإباحية"، فجرت حملة اعتقالات في صفوف جماعة "الأهالي" والشيوعيين، وإثر ذلك جمّد الحزب الشيوعي نشاطه، ولم يتمكن من الظهور على المسرح السياسي إلا بعد قيام الحرب العالمية الثانية مستفيداً من ظروفها.
عقد الحزب الشيوعي العراقي مؤتمره الأول في فبراير 1944، فأقر نظامه الداخلي، وانتخب لجنة مركزية جديدة، وانتخب "فهد" سكرتيراً عاماً للحزب الذي انهمك في المطالبة "بتحسين أحوال العامل والفلاح العراقي المعيشية والصحية، وإطلاق حرية العمل النقابي، وبناء ريف عصري، وإقامة مشاريع الري"، و"بإصلاح الوضع الاقتصادي وتحسينه، وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية والعمرانية، وبتحرير الثروة النفطية".
امتازت مدينة النجف بمركزها الديني والسياسي في العراق، يقول الدكتور محم النويني، وكان مثار الاستغراب أن يجتمع في المدينة النقيضان، الدين والشيوعية! ويضيف: "لم يقتصر انتشار الأفكار الشيوعية على طبقة بعينها، بل شمل حتى بعض أبناء رجال الدين. ومن أولى الشخصيات التي حملت الفكر الشيوعي إلى مدينة النجف عبدالحسين المحامي صاحب جريدة الاستقلال النجفية عام 1920.
لكن علماء النجف وقفوا ضد الشيوعية، فضلاً عن الأدباء والكتاب، وكذلك الصحافة النجفية، عدا مجلة "المثل العليا" التي صدر عددها الأول في 1941/10/15، وبدأت تتناغم مع الفكر الشيوعي، وكانت تنقل وجهة النظر السوفييتية من الأحداث السياسية والحزبية.
وتناولت الصحف النجفية النظرية الماركسية بالهجوم والنقد. فسلطت "مجلة القادسية" الضوء على انتشار خطر الشيوعية في العراق، وبيّنت في مقال بعنوان "الشيوعية في الإسلام"، الأغراض التي تسعى إليها الشيوعية من طرحها الشعارات الوهمية الداعية إلى "إسعاد الفقراء وإزالة الرأسمالية والمساواة وتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين وتشكيل الأحزاب والجمعيات المهنية". وطالب المقالُ الشباب النجفي ألا ينجرفوا وراء هذا التيار الذي "ولّد تفريق الكلمة وتشتيت الشمل وبؤس الحياة". وفي مقال آخر أكدت المجلة أن أهم أهداف الشيوعية محاربة الدين و"مقاومة النصوص الشرعية"، وتفكيك الروابط العائلية والأسرية.
أما مجلة "الشعاع" فأوردت في مقال بعنوان "الشيوعية اليهودية"، مايو 1948، أن الشيوعية واليهودية والصهيونية شيء واحد لا تمايز بينه إلا في اللفظ! وعدّت هذا المفهوم بمثابة "استعمار للعقل". وأشارت إلى أن الشيوعية آزرت اليهود وحمت مصالحهم.
وكان الحزب الشيوعي العراقي يثقف عناصره ضد الوطن القومي لليهود. ولما صدر القرار الأممي بتقسيم فلسطين عام 1947، واعترفت به القيادة السوفييتية، أدى ذلك إلى انقسام في صفوف الشيوعيين، حيث اتهم بعضهم موسكو بالتخلي عن مبادئ الماركسية.
وطالبت الصحافة النجفية رجال الدين بالتدخل لمكافحة داء الشيوعية. وأكدت مجلة "القادسية" أن "الواجب على رجال الدين اليوم أصعب وأعسر لأنهم مُلزمون أن يهدموا بنياناً رصيناً من الفكر". وأكد حجة الإسلام جعفر بحر العلوم من خلال فتوى أصدرها ضد الشيوعية، ونشرتها مجلة "العدل الإسلامي" في 14 نوفمبر 1947، أن هذا الفكر "يتعارض مع تعاليم الأديان كلها"، ولهذا فـ"على كافة المسلمين في سائر الأقطار والأمصار أن يكافحوا هذا المذهب الهدّام جهد طاقتهم". أما فتوى "الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء"، فكانت أشد قسوة بحق الشيوعية، إذ اعتبرتها مبدءاً هدّاماً لكل المقدسات والقوانين، وأن التهاون معها "من أعظم المحرمات وأكبر الكبائر".
وفي 6 أكتوبر 1953، قام السفير البريطاني "جون تروبتيك"، بزيارة كاشف الغطاء في مدرسته بالنجف، وناقش معه مسألة "العدو المشترك الذي انتشرت دعايته السوداء على نطاق واسع إلى درجة أن خلايا عديدة تضم شباباً مندفعين ومتحمسين تنمو اليوم في هذه المدينة -أي النجف- التي هي من مراكز الإسلام والقدسية".
ويذكر "بطاطو" أن الشيوعيين بدورهم لم يكونوا غافلين عن محاولات تعبئة القوى الدينية ضدهم، "ولهذا فقد تجنبوا توجيه أي إساءة إلى معتقدات الناس. والواقع أنه منذ عام 1929، ابتعد الشيوعيون كلياً عن موضوع الدين، وإن دار في سجن بعقوبة الذي كان يضم حتى عام 1954 قسماً كبيراً من النواة الصلبة لكادر الحزب، جدلٌ حول الاستفادة من تجمع الجماهير في الأربعينيات الحسينية". وتساءل الشيوعيون العراقيون في السجن: "إذا كان يستحيل اجتثاث المسيرات الحسينية، فهل نستطيع تحويلها إلى شيء مفيد؟ وهل من مصلحتنا حالياً إضعاف مسيرات كربلاء والنجف؟". فكان قرارهم الأخير"تحويل المسيرات إلى سلاح للحركة دون تجاهل محاربة الممارسات والتقاليد الأكثر رجعية المترافقة معها". ومما أضافه محررو مجلة "كفاح السجين الثوري"، عدد 1954/5/30، "أن بعض الرفاق يضعوننا أمام خيارين: إما أن نعارض المعتقدات الدينية أو نؤيدها، وإما أن نستفيد منها أو نسعى لإبادتها. إننا نتساءل ما إذا كان هذا تفسيراً واقعياً ومبدئياً لموقفنا المعروف تجاه معتقدات الناس؟". وحسب "بطاطو"، فقد كان المحررون يقصدون بعبارة "موقفنا المعروف تجاه معتقدات الناس"، السياسةَ الطويلة الأمد للشيوعيين العراقيين، والقاضية بتجنب الإساءة إلى الدين أو القوى الدينية و"الامتناع عن الحديث عن هذا الموضوع في العلن مهما كان الثمن".