سعدي يوسف شاعرالحكمة والحرية طباعة

     في البدء اتقدم بالتهاني القلبية الى الشاعر الكبير ، بمناسبة بلوغه السبعين ، متمنيا ً له العمر المديد ومن الابداع المزيد ، في رفد شجرة الثقافة العراقية بعصارة جهده وخميرة فكره .
     اتذكر لقائي الاول به في اكتوبر 1983، في احتفالات الذكرى العشرين للثورة اليمنية بمحافظة ( أبيَن ) ، وقبل ذلك كنت أتابع ما ينشر له من االقصائد في صحافة السبعينات، ولا زال مقطع في ديوانه ( تحت جدارية فائق حسن ) يرن في اذني والذي اسجله من الذاكرة : " يقول المقاول جئنا لنبقى ، تقول الحمامة : هل ما قال حقا ً ؟ يقول النقابي : السواعد أبقى " . اتذكر ايضا اني قرات له تعليقا في احياء الذكرى الثلاثين لرحيل السياب ( باريس 1995 ) وفيه سلط الضوء على جزء

 من قصيدة ( شناشيل لبنة الجلبي ) والقائل " وآسية ُ الجميلة كحـّل الاحداقَ منها الوجد والسّهـَرُ " ،  مما اشعرني بمتعة ادبية اكبر  وانا اقرأ من جديد للشاعر الفقيد بدر شاكر السياب .
         طالعت ما قاله في حفل تكريم الشاعر مظفرالنواب عام 1999 ، والذي اقتطع منه ما يلي  :  " في هذا المساء  .... ان تخبو الاضواء في الضواحي والغرفات ، ويستكن المرء الى وسادته ، مرهفا ً السمع ، سوف يهجس من اللامكان ، ومن كل مكان . ذلك النبض العجيب ، لقطار بطيء ٍ بطيء ٍ بطيء ٍ ، قطار هز كوننا باكمله ، ووهبه عمقا ً ومعنى . مرينة بيكم حمد ، واحنه بقطار الليل ، واسمعنا دكَ كَهوة ، وشمينة ريحة هيل " . يا للبعد الاعمق والذوق الارفع الذي منحه شاعرنا سعدي لزميله مظفر في رائعته الخالدة " للريل وحمد " .
      كلما تمعنت اكثر في " قلعة اسمها محمد مهدي الجواهري " كلما ازددت اعجابا بالشاعر المترنم :
      " من مشافي الشام الى النجمة ، ومن النجمة حتى بغداد ، دربك مكتنز بالاوراد ، وقميصك هذا القطن ، سترفعه حتى دجلة ، كوكبة الاحفاد " .
     عشية وغداة سقوط النظام الدكتاتوري في العام الماضي شهدت مواقع الانترنيت وغيرها كتابات ابتغت النيل من شخصه وربما في بعضها استهدف الشِعر بشكل عام ، ذلك الحقل البديع الذي يلمس مياسم ازهاره ، فتية من العراق على مر الازمنة فيفوح عطره وشذاه لينتشر في الافاق ، فتصدى لهم ، واضعا امامه صورة لا تفارق عينيه ، بان المعدن الرخيص يخفت لمعانه تحت اشعة الشمس والمعدن الثمين يزداد بريقا وسطوعا ، وهو اعرف ان المادة تفسد الابداع ، وان كان له اقل اهتمام بمتاع هذه البسيطة الفاني لكان غير ما هو عليه اللآن .
      سمعت كثيرا ً عنه في اليمن وفيه من الحب والمودة ما يفيض من اهلها الطيبين ، وحدثوني عن جولاته في اقفارها النائية ، في ( لودر ومودية ) ، ( يافع والضالع ) وقرية (القارَة ) البيضاء الجميلة ، ( تريم وشبام ) ، وربما جزر ( سوقطرة و كوريا موريا ) ، ليغذي ملكة الشعر ذلك الساكن فيه مذ خلق في البصرة الحبيبة ليمزج المشاعر بما يراه امامه من طبيعة جميلة وانسان فوقها يكدح مهللا ً للحياة ، فلم تكن ابدا صورة العراق المعذب تفارق مخيلته فمزج عاطفته المتأججة مع عطائه وابداعه في اي ارض اقام فوقها ، بين المقاومين في بيروت وفي تونس الخضراء وجزائر بوحيرد وعلى ضفاف بردى والمنافي البعيدة مثل باريس ولندن ، ظل إلهام الشعر فيه يحمل جسده وهو ينوء تحت ثقل هموم وطنه ، وظل ايضا ً يحمل معاناته وآلامه حتى غابات الفلبين ! .
     لي محاولات بسيطة في كتابة الشعر بلغتي السريانية القديمة والمنبثقة من   الارامية لسان حضارة بين النهرين العريقة ، ونظرا ً لعمقها وثرائها فقد غدت لغة الكتابة في المنطقة الممتدة من عيلام حتى البحر المتوسط ، ومن بلاد اللبان ( حضرموت ) وحتى ارمينيا  ، وعندما حكمت الامراطورية الفارسية  بلادنا بعد زوال ممالكها القديمة  في نينوى وبابل ، إتخذت من لغة مستعبـَديها لغة للكتابة والتعلم والدواوين . اناشد الشاعر وهو القائل في احدى افتتاحيات ( المدى ) : " اللغات تتشبث بها الشعوب ، حتى ان لغات ٍ كانت تبدو منسية ، غدت في فجاءة ٍ عجيبة ، راية ثورة " ،  ان يشمل لغتنا وقومنا سكنة وادينا الاصليين ببعض شعره ليشير الى اهمية الغور في تلك اللغة التي تكلم بها المسيح له كل المجد قبل اكثر من الفين سنة ، حتى لا تضمحل وتزول بعد ما لحق بها  من النسيان والاهمال ولعشرات القرون ، و هو أجدر من غيره  في نفض التراب عنها وإذكاء النار في جمراتها من جديد وقبل ان يزول آخر ذخر للعراق وحضارته التي نفخر ونباهى بها الامم .
      جاء في مرثيته الرائعة للشاعر الفلسطيني معين بسيسو عام 1984 ما يلي :    " بيننا يا معين ُ الفراتْ ، قل له يتمهل ْ قليلا ً ، قل له ان يرد السلام ، قل له إن ريش الحمام ْ ، صار سجادة للإمام المسلح ِ ، او خوذة ً للظلام ْ ". انظر ايها القارئ العزيز بمنظار اليوم ، حيث فكرة العولمة تشق لاهثة طريقها على بساط الالفية الثالثة بعد الميلاد ، الى ناصية الحكمة التي يمتلكها شاعرنا القدير، الا تتفق معي ان نتضرع اليه وهو في هيبة شيخوخته ان ينهل لنا المزيد من بحر الحكم ومن " ملكوت الفن "  ليتخذ العـِبَر منها كل جيل تفرزه دورة الافلاك .
      قادمٌ اليوم الذي يصل فيه الشاعر الى ضفاف النهرين دجلة والفرات ، ليغسل وجهه المتعب من طول الترحال في مياههما ويرتوي ، وليحط عصاه في ثغر العراق الباسم !  حيث مثوى السياب والبريكان . وقبل ذلك تكون قصائده التي كتبها في المنافي ، قد وصلت ليس فقط الى رفوف المكتبات ، بل الى قلوب الناس ، عشاق شعره ومقتفي أثره ، " ولنترك الاشياء تتفاعل في كيمياء الشعر " ! .
     يبقى سادن مملكة الشعر بيننا شامخا ً، والمتربع على ذلك العرش الفني والابداعي ، وهو الوريث لكل اسلافه الشعراء من امرئ القيس فالمتنبي والجواهري ومعه تسير اليوم كواكب الشعر ، لا زال وميضها يشع في داخل الوطن وخارجه .
        يتطلع الجميع الى الزمن الذى يحتفى فيه بالشعر المحفز للانتاج والابداع في كل ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وبالشعراء الذين تجود قرائحهم بكل ما يتغنى بالحب والحرية والسلام .
     اميركا في ايار 2004
 
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته