رحيل محمود صبري لو لم يكن شيوعيا .. لحاز على جائزة نوبل بكل إستحقاق طباعة

د.هاشم عبود الموسوي
نادرا ما إستطاع عالم أو مكتشف أو أديب أو فنان كبير من التقدميين المعادين للنظام الرأسمالي البغيض، أن يجد له مكانا ضمن تسلسل قائمة الحائزين على الجوائز العالمية التي تمنحها مؤسسات، لها حساباتها ومواقفها الفكرية والعقائدية، مهما قدم من جهد إنساني كبير، وهذا ما ينطبق أيضا على عالم عراقي (عالمي ) ، متميز ، مفكر ، وفنان كبير، زاهد ، ومتأمل وهو محمود صبري ، الذي بزغ نبوغه قبل أكثر من أربعين عاماً، عندما تصدى الى دراسة (جذرية العلاقة بين العلم والفن) ودرس نظرية الكم التي تعتبر من أصعب النظريات فهما، ليستفيد منها في فنه، في الرسم الذي كان يمارسه في أوقات مبكرة من عمره . هذه النظرية عبارة عن مجموعة مبادئ وقوانين فى الفيزياء، تقوم بدراسة جزيئيات الذرة المتناهية فى الصغر, والتى لا ترى بالعين المجردة أو بأحدث التليسكوبات الضوئية. ، ليستفيد منها في وضع نظريته الجديدة التي تم تسجيلها عالميا بإسمه "واقعية الكم في اللون" والذي حاول فيها اعطاء صورة تشكيلية لفهم الانسان المعاصر لعمليات الطبيعة

التقيت الفنان محمود صبري في شقته في براغ بمصادفة مباركة ،منتصف الستينات من القرن الماضي، برفقة لفيف من الأصدقاء، وعرف عني أني أدرس هندسة العمارة في ألمانيا .. ودار الحديث عن أمور متعددة في الثقافة والتاريخ والعمارة ( والتي وجدته قد درس تطورها عبر العصور، وسجل ملاحظات مهمة عنها ) كما تحدثنا عن واقع الفن التشكيلي العراقي واتجاهات الفن المعاصر عموما في العالم . وكم كنت متشوقا للتعرف على إتجاهاته البحثية التي كان بصدد وضعها على شكل نظرية في الفن ، وأحسست في هذا الرجل الموسوعي والممتلئ علما وأدبا .. بتواضعه وهدوئه، وإيمانه بأن عصرا جديدا سيأتي يتزاوج فيه الفن والعلم، كان يبحث عن عالم واقعي وغريب، موجود نحسه لكن لا نراه .. ولا أدري كيف تنبأ بذلك . فنحن اليوم (معشر المعماريين) ، قد تحققت لنا فعلا نبؤات هذا العبقري . نحن نتعامل في وقتنا الراهن مع تقنيات جديدة، لنصور ونتصور عوالم وفراغات إفتراضية تدلنا على إختيار البدائل الأفضل من كل منها، لنختار بيئتنا وفضاءاتنا التي نتحرك بداخلها و نعيش فيها، والتي نأمل منها أنها ستشعرنا بآدميتنا .. وعندما بدأ هذا العبقري، في تلك الجلسة يتحدث لنا بأختصار عن إهتمامه بنظرية الكم، ونحن نصغي اليه بكل إنتباهنا ومشاعرنا ، قائلا:
(لقد أُهملت الكثير من الدراسات والأفكار التي طرحها المفكرون والفلاسقة، الأغريق القدماء ولم يناقشها أحد، حتى مجئ فيزياء الكم في بداية القرن العشرين، ، حين عادت بقوة، بعد ألفي عام، وأصبحت جزءا من أساسيات تساؤلات الأنسان المعاصر.
إن نظرية الكم، مع النظرية النسبية الخاصة والنسبية العامة لآينشتين, تعتبر أساسيات علم الفيزياء اليوم. وتعتمد عليها كل الدراسات الخاصة بالذرة وجزيئياتها الصغيرة منذ بداية القرن العشرين. وقد تطورت على أيدى علماء عظام
ولا بد أن نقول من البداية. فى القرن الخامس قبل الميلاد, كان الفيلسوف الإغريقى القديم ديموقريطس يعتقد بأن كل شئ مكون من ذرات صغيرة جدا لا تنقسم, وتأتى فى أحجام وكتل وألوان مختلفة. كل الأشياء التى نراها أمامنا هى مجرد خليط من هذه الذرات.
لم يتقدم علم الإغريق فى هذا الخصوص أكثر من ذلك. لأنهم كانوا مفكرين وليسوا تجريبيين. بمعنى أنهم يصلون إلى المعرفة عن طريق التفكير والمنطق, وليس عن طريق إجراء التجارب المعملية. كما لم تكن لديهم التكنولوجيا اللازمة لأبحاث الذرة.
لهذا لم تنجح فكرة الذرة عند الإغريق. وجاء أرسطو العظيم معلم البشرية, لكى يبسط هذه الفكرة ويقول بأن كل شئ مكون من عناصر أربعة فقط: الماء والهواء والتراب والنار. فكرة أرسطو أبسط وأسهل فى الفهم, لذلك نجحت. الفكرة الخاطئة نجحت واستمرت آلاف السنين, بينما فكرة ديموقريطس الأقرب للصواب فشلت وطواها النسيان.وهنا يذكر بأن الصحيح والخطأ ليس لهما علاقة بطول مدة الإعتقاد بها. فمثلا معلومة مركزية الأرض وتفلطحها استمرت أيضا آلاف السنين. وكذلك أشياء كثيرة فى حياتنا.
ثم جاء العالم الألماني بلانك ليشعل من جديد فتيل نظرية الكم .. ولكن يجب أن نكتشف أين تكمن نقاط ضعف الفيزياء التقليدية وكيف حلت النظرية الكمية هذه الصعوبات.. وقد استمر يشرح بشكل مفصل عن الإشعاعات المتغيرة:
للأجسام وفق ألوانها المتعددة والطاقة الكلية الصادرة عنها في الثانية الواحدة
هذا ما أتذكره اليوم من حديثه الطويل والمشوق ...
لقد كانت حيرتي كبيرة عندما وجدت هذا الرجل يطرح أفكاره وهي تمضي في مجال آخر غير الفن، او بعبارة أخرى اوسع نطاقا من الفن . فالمسألة لديه ليست مقتصرة على الخطوط والمساحات اللونية التي تجسد فكرة ما في اللوحة، بل على كون الفن يجسد كالعلم حقيقة موضوعية ومعرفية
واليوم أجد نفسي غير خائف من إتهامي بالمبالغة، حين أدعي بأن هذا المفكر والفنان الكبير محمود صبري، يعتبر عصارة كل العصور التي مرت بنا منذ أكد وسومر وآشور وبابل في العراق وعصر الفراعنة في مصر، ودور الفلاسفة اليونانيين من فيثاغورس واقليدس وسقراط وافلاطون وارسطو وافلوطين، وكذلك اصحاب الفكر والعلم العرب من الجاحظ والفارابي وابن رشد الى ابن الهيثم والخوارزمي، في تشكيل هذه الحقيقة الموضوعية.
في يومنا هذا، حيث تسهم التقنية الحديثة لوسائل البحث عن المعلومات وشبكة الأتصالات المعرفية المتطورة في بلورة مفاهيم معاصرة، بات من السهل نسج آواصر علاقات مؤسسة على خلفيات حديثة الأكتشاف، بين مختلف ظواهر النشاط البشري وميادينها المتعددة، كما ونلمس في عصرنا الراهن تعددية مجالات النمط العلمي الواحد وتنوع إرتباطه بالأنشطة الأنسانية المختلفة .. وقد أصبحت تقترب المجالات العلمية التقنية من الفروع الأنسانية , ولكن ما يثير الأنتباه ، هو نبوغ هذا المفكر العبقري بوقت مبكر، قبل أكثر من أربعة عقود ، عندما كانت الهوة عميقة وسحيقة بين مفهومي التقنية و الفن ، وبصورة أدق بين العلم والفن ، وفق مفاهيم سابقة ، لا يمكن المساس بها .. لقد كان محمود صبري رائدا وطليعيا في توجيهه رسالة ثورية من خلال نظريته، تحمل دلالة العصر الذي نعيش تفاصيله المتسارعة في أيامنا هذه.
هذا الرجل ذو الطاقة العجيبة في العمل كما يبدو لي كان مرتبطا بأسلوب حياته المتسم بالانعزال وحياة الزهد والتأمل. ولم يتهافت على الشهرة وكسب المال وحياة البذخ ، قال لي أصدقاؤه الذين عاشوا بالقرب منه في براغ أنه كان يمضي جل وقته في العمل والمطالعة
لقد إنتهت حياة محمود صبري (1927 - 2012)، آخر عمالقة القرن العشرين، وأخذته منا يد المنون، تاركا خلفه مجداً لا بد أن يحظى بالاحترام.