باريس ربيع 2012 طباعة

منصف الوهايبي

2012-04-11
(إلى الشاعر التونسي عمّار منصور.

.ليس هذا رثاء) نحن في تونسَ الآنَ نخرجُ من قفصٍ كان فينا(تُرى نحن نخرجُ منهُ؟)
إلى قفصٍ نحن نُحشر فيه.
سأغلق بابي عليّ.. أنا الآن عينان شاخصتان إلى الأفْق..لوْ..
كنتُ صوّبتُ نحو السماء حجارةَ مقلاعيَ الطفلِ..
كنتُ رميتك أنت به..
أبدا لن أصيبك.. أعرف أنّك لست هناك
وأنّك لم تكُ قطّ فتسمعَني
***

ذكرياتي الأخيرة شيء من الرمل والتمر..
بعض دم يتيبّسُ في السجن..
أذكرهم واحدا واحدا:محمد بن جنات..أحمد بن عثمان..نورالدين بن خذر...
حلمنا كان يا صاحبي
أن نرى زرقة لا سماءْ
(لا أحبّ السماء التي ليس تصغي لغير الغيوم)
طيورا وقد نزعت ريشها وهي تنزو وتتبع أقوسها في الهواءْ
غابةً تتعايش أشجارها..
ربّما تتصايح في صمتها
والصدى ضوء هذا النهارْ
***
ليس هذا وقوفا على طللٍ..
أنا أعرف من زمن أنّ ثمّة ضحكةَ سيّدة في
'قفا نبك'..ضحكة 'أمّ الحويرث'.. يسمعها العاشقونْ
ضحكةً كشميم العرارْ
***
ربّما هم يعودون ليلا إلى البيتِ
لا أحدٌ يفتح الباب للميّتينْ
نحن نسمع أنفاسهم إذ يطوفون حتى الهزيع الأخير من الليلِ
ثمّ ينامون مثل الأجنّة في نومنا
أتُرى نحن نحلمُ في حلمهمْ
أم همُ الحالمونْ؟
***
الأساطير موجودة أبدا..
وسُدًى أنت تبحث عنها..سُدًى
تعرفُ الكلماتُ التي نحن نكتبُ،عنّا الذي ليس نعرفه
نحن كتّابَها الذاهِلِينْ
***
أصدقاءٌ كثيرون لي..
لست أعرفهم
حصانُ أبي الطيب المتنبّي يطوّح في شِعب بوّانَ.. أو
هو يجتسُّ عبر الثلوج التي لبستْ ذات فجر عليه مسالك لبنانَ..
تلك الثلوج التي وهي تبيضّ..تسودُّ
ذئب الحطيئة يعوي على حجر
ويمدّ لسانا من النار لي
حيّة الشنفرى
أصدقاءٌ كثيرون..لي
همْ معي.. وأنا كنت أبحث عنهم سُدًى.. كلّ هذي السنينْ
***
حجرٌ باردٌ
ثمّ قطّ صغير بعمر الحليب..نظيف ككلّ القططْ
أتى يتعثّرُ حذوي..هنا في حديقة بيتي
أتى ليموت
ربّما ليشهّد كالمسلمين ..فقطْ
***
قلتَ:كن يقظا..قد يجيئون..سوف أنامْ
قليلا..ولا تنس أن تشعل الضوء لحظة يأخذني النومُ..
لكنّني نمتُ
لم أدرِ كيف.. ولم أشعل الضوءَ..قلتُ لعلّك لمّا تزل يقظا
ربّما أنت تستيقظ الآن..تسأل عنّي.. وتسأل أين أنا؟
ولماذا إذنْ كلّ هذا الظلام؟
***
وأنا سأقول لماذا إذنْ كلّ هذا الشجنْ؟
ألأنّي التقيتُ بأكثرَ من 'منصفٍ' فيّ هذا المساءْ؟
ليكن
سأسمّي إذن موتنا زمنا في الزمنْ
***
كنتَ أوّل من يفتح الباب للأصدقاء
كنت آخر من يغلق البابَ..تذكرُ؟
أغلقته مرّة.. ثملا.. ونسيناك خارجه..
وحين أفقنا افتقدناك..
كنت تنامُ على العتبهْ
***
كان حلمك أبيض..أسود..مثلي.. ولا شيءَ..
أسمع صوت الرفاق البعيدين:
سوف نحلّ مشاكلهم كلّها
غير أنّ الفراغ الذي سنعانيه بعد العملْ
مشكل الكادحين الذي لا يُحلْ..
ليكن
سنعلّمهم متعة الرسم والعزف والصيد..بل
سنلقّنهم حقّهم في الكسلْ
***
يخرج التونسيّون والتونسيّات منّا صباحَ مساء
طوابير عند مخابز مغلقة مثل أقفاصهم..يقفونْ
***
هذه الأرض وهي تدور بنا وبهمْ
كيف لم يتفطّن إلى كرويّتها المسلمونْ
كلّ رأس هنا كرةٌ تتقاذفها منذ موت النبيّ الأساطيرُ والكلمات
***
نحن نطرق أبواب أقفاصهم منذ وقت بعيد..
ولم يفتحوا
كان لابدّ أن يفتحوا
هي تُفتح من داخلٍ.. مثل كلّ السجونْ
***

أتذكّرُ بارا قديما أواخر 69 يفضي بنا سلّم حجريّ إليه.. أتذكُرُهُ؟
عند قارعة المتوسّط.. إذ كانت المنحةُ الجامعيّة تكفي أواخر كلّ ثلاثيّة..لنؤمّ الضواحي.. أتَذكُرُهُ؟ معتم أبدا
غير مائدة بانتظارك..حيث الظلال معتّقة كالنبيذ.. به..هي نفس الظلال.. ومن كوّة.. أتذكّرُ.. في سقفه الخشبيّ المشقّق..تدخل شمس.. وتشعل ظلا هنا أو هنالك....وهي تضيء أصابعنا..والنبيذ الذي كان يحمضُّ..يخضرّ أحمرهُ..ويطيبُ لنا..ثمّ تسحب ظلا وتمضي.. كذا مهنة الشمس منذ الأبدْ..
وفي الليل حيث يشفّ الهواء ويخضرُّ..
أخضر كان الهواءْ
يحمل الماءُ رائحة العشب والملح..يحمل رائحة من بنفسج عطر الإيود لنا
نتنفّس بحرا بأكمله..
ثمّ تأتي الزهورُ تضيء لنا عتْمة المائدهْ
***
لأقلْ لون ما حولنا لم يزل
مثل هذي الجرار التي دون لون.. أتذكرها
وهي تجلس هانئة في رذاذ المطر؟ْ
***
جسد كان يسبقني..جسدي
وأنا'أمُّ'هذا الجسدْ
كنت أحنو عليه كما الأمّ تحنو
ولم أكُ أدركهُ
وهو لا يتلفت نحوي ولا للوراء
***
لا تفكّر إذن في الشتاء
ثمّ برد قديم..صدًى من صدًى يتردّد فينا وينغل في العظم منّا..
وقد يتسرّب في برد هذي القصيدهْ
إذن سمّه برد روحك إن شئت.. أو سمّه ما تشاء
وأنت تقفّي.. إذن سمّه البرحاءْ
***
لنلذْ دونما ندم بخسارتنا
ولتكن ضحكات الصبيّ الذي يتكلّم فينا إذن
ملح أدمعنا
***
الغصون التي قطعوها عظام الشجر
***
نحن نكبر وسْط النباتات
أجسادنا مثلها ..غير أنّ النباتْ
لا يبوح بأسراره أبدا..
لا يعلّمنا كيف نخضرّ عبر الفصول
وكيف يكون لنا جلده
***
لأقلْ مثلما قلت لي مرّة :ليس ثمّة عمْر طويل
ليس ثمّة عمر قصير
كثيرون عاشوا طويلا ولكنّهم لم يعيشوا
كثيرون عاشوا قليلا
وكالريح يستوطنون الأبدْ
***
كلّ ما يفعل الموت:يفصلنا عن ظلال لنا
ولا شيء غير رفيف الغياب
***
يتنابحُ كلبان أبعد.. من بيت صاحبنا 'برونو دوساي' هنا في
19eme Arrondiement
في شارع كريماي حيث أسهر وجها لوجه..
وأبعدَ في الطين والرمل تخفق ريح..أطلّ على الليل من غرفتي
وكأنّي أرى نجمة تتهيّأ للانصراف..
أنا الآن في البيت وحديَ
إذن ما الذي أنت تنتظر الآن؟ مني أنا؟
نجمة من نجوم ثواقب تسقط في برد عشب الحديقهْ؟
***
لكأنّ الفراش النهاريّ يأتي بألوانه القزحيّةِ.. نتبعه.. هو ذا النهر.. يمضي به'السين'..
أشعر أنّي أجنّح.. هل صار لي بعض ريش وبعض شراع؟
***
نحن نأتي بلا كلمات ونمضي بلا كلمات
ولا أحدٌ سوف يأتي ليقتادنا نحو باب الخروج
وقد وهن العظم واشتعل الرأس أبيض.. لكنّ تونس خضراء هذا الربيع