بلا رتوش ..الكبير الذي أغبطه طباعة

فيصل حوراني
الأربعاء 21/3/2012
سعدي يوسف واحد من أهم شعراء العربية المعاصرين، مثلما أنه واحد من أكثرهم انسجامًا مع نفسه، بل لعله هو الأكثر في هذا المجال بالذات. أمضى سعدي عمره المديد منتميًا إلى الشيوعية، متعفِّفًا عن التطلع إلى أي منفعة شخصية قد يُوهن التطلع إليها هذا الانتماء. وفي الصف الشيوعي، حافظ سعدي بثبات مدهش على استقلالية صوته الإبداعي، وتكبد الأعباء التي يوجبها الحفاظ على هذا الصوت، تكبدها، في ما أعلم علم اليقين، دون تذمر ودون مباهاة. ولم يُبدّل سعدي انتماءه حتى بعد أن ارتد شيوعيون كثيرون. وإزاء النكسة التي تعرض لها المسار الشيوعي، سلك الماركسي اللينيني سلوك شيوعيّ صحيح النسب؛ فظل ما كانه من قبل: المكافح المثابر ضد الظلم والظالمين، ضد التضليل والمضللين؛ ظل على الموقف الذي يتفق مع قناعته.

نستعيد هذه الحقائق عن واحد من شاغلي قمة الإبداع في دنيا العرب، بمناسبة تميز سعدي بصرامة موقفه إزاء المسائل المتصلة بما سماه الإعلام الربيع العربي. وحين يشار إلى موقف متميز لهذا المبحر أبدًا في لجّ المحظورات، من المهم التأكيد أن الحديث لا يدور على موقف متفرد. فموقف سعدي من هذه المسائل اتخذه كثيرون، شيوعيون وغير شيوعيين؛ كل ما في الأمر أن الشاعر المتميز بدا أجهرهم صوتًا في التعبير عن الموقف وأفصحهم تعبيرًا وأكثرهم بغضًا لتوخِّي الظفر بالشعبية عبر مجاراة السائد أو عبر الامتناع عن الجهر بكلمة الحق. سيقول قائل الذين تجبههم صراحة سعدي إن صاحب هذا الموقف ينتمي إلى أقلية وإن هذه الأقلية مهزومة. وسيقول قائل هؤلاء أشياء أخرى للتهوين من موقف الشاعر الكبير ودلالاته. غير أن هذا القول، حتى لو صحّ، وهو بالمناسبة غير صحيح، لا يبدّل جوهر الأمر ولا يُنقص أهميته. وجوهر الأمر هو ما جهر سعدي به: إدراج كل معارضة لكل نظام حكم في سياق ما يدل عليه وصف الربيع العربي فيه من التعسف ما يفوق تعسف الذين يوالون كل نظام. الربيع العربي تسمية تنطبق على حراك المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية وتليق به، لكنها لا تنطبق بأي حال من الأحوال على الحراك الذي يُنظّمه ويموّله أعتى أعداء الحرية والديمقراطية، يستوي أن يكون هؤلاء الأعداء من الامبرياليين أو من أتباعهم في دنيا العرب أو من المفتونين بمزاعمهم. سعدي يوسف له، إذًا، ميزة الجهر بما يراه الشيوعيون ويراه النزهاء الذين لا تفتنهم الأضاليل. وهو في موقفه هذا يصدر عن مصدرين كل منهما بالغ الأهمية: رؤية شاملة وعميقة لجوهر الصراع في هذه المرحلة، بما هو صراع بين الامبريالية المعولمة وبين ضحاياها، وإيمان متين بالحرية والديمقراطية. يقينًا أن من حق أيّ مختلف مع سعدي يوسف وأمثاله أن ينتقده وينتقدهم. لكنّ للنقد الذي يُعتدّ به أصولا ينحطّ كثيرًا من يهملها. وأول هذه الأصول، حين يتعلق الأمر بانتقاد سعدي، هو أن ينصبّ النقد على ما قاله أو فعله حقًا، وليس على التأويل المغرض للقول أو الفعل. وآخر هذه الأصول، ولعله أهمها، هو أن يمارس النقدَ من هم مؤهلون لممارسته. فأبو رغال ليس مؤهلا لأن ينتقد الذين أدانوا الغزو الحبشي، حتى لو ادّعى أنه قاد الغزاة إلى مكّة لأن تجار المدينة ظلموا أهلها. وفي ما قاله المعتز بانتمائه للفضاء الشيوعي، في زمن الدعوة إلى التخلي عن أي انتماء عقيدي، لم يوجد ما يجيز لأحدٍ أن يتهم صاحب القول بأنه متهاون في مواجهة الظُلّام. سعدي يُحذّر من الافتتان بالحكام الرجعيين حين يزعمون أنهم مع التطور الديمقراطي. وسعدي يكشف انحطاط الذين حرّكهم مالُ هؤلاء الحكام فألحقهم بركب المكافحين من أجل الحرية والديمقراطية، لا لشيء إلا ليمكّنوا أعداءهما من توجيه التحرك نحو تدمير بلدان العرب واحدًا بعد الآخر. وبالتحذير من الرجعيين، كما بالتحذير من صنائعهم المأجورين، يكشف سعدي

زيف كلّ أبي رغال جديد يندب نفسه ليصير دليلا للغزاة. وبهذا وذاك، يُعلي المبدع الكبير شأن المكافحين حقًا من أجل الحرية والديمقراطية ويضع قضية الديمقراطية في المنزلة الرفيعة التي تستحقها. إني أغبطه، هذا الذي بلغ الثمانين وما زال فتيًّا قادرًا على الانهماك بحميّة الفتى في كل معترك.