منفى سعدي يوسف طباعة

غيلان

Image

عرفت سعدي يوسف وأنا على مقاعد الدراسة وعرفته عن قرب على امتداد خارطة التشرد والمنافي التي امتدت من بيروت إلى استراليا. في بيروت التي سرح فيها كل شيء، وفي أواخر السبعينات حل سعدي مقيماً هذه المرة يحيطه رفاقه كما يحيط الفلاحون سيد "سريوط "في ريفنا الجنوبي. واختلفت مع وجهه الأيدلوجي الصارم وحماسته وانحيازه إلى حزبه في مختلف التفاصيل. وزاد في هذا الخلاف تأسيسهم لرابطة الكتاب العراقيين واصدارنا لمجلة الرصيف. ولم يغيب هذا الخلاف احترامي لصورة سعدي ذلك الأخضر شاعر

الفسائل المثمرة والمناخ الرطب واللغة الحميمة والسمو المتواضع. سعدي عاقد القران الصعب بين غيوم الشعر ورياح التغيير، فأن اربكت واحدة من كتاباته او تصريحاته او مواقفه فاختلفنا معه نتدرع بلغته لطرد هذا الجديد المربك من مساحة الصورة. وهكذا على صغر تفاصيل الخلاف أو كبرها في الساحة الثقافية لم اسمع من أحد او أعرف من أحد إن كان سعدي سنياً أم شيعياً! وكيف لي ان اتخيل الابتذال في خارطة الجمال الذي تبثه اشتغالات الثقافة العراقية على السؤال الانساني في الحرية والوجود. تلك الاشتغالات التي ندخل بها مختبرات الفكر الحر ونقيس صعوبة الراهن ونرفض السقوف الواطئة ونطرد غبار العامية.
وفي عدن الثمانينات، تلك النائمة على البحر وبساحلها الذهبي وغربانها التي تزيد على المليون، وذلك المناخ الذي يجعل جلدك يتبرأ منك، كنت قد اتخذت من سطح واحد من جوامعها مناماً لي. وكنت ُوالمآذن نقاسم الديكة في إعلان الفجر: هي في دعوتها إلى الصلاة والديك وأنا في بدء يوم تشرد جديد.
في عدن تلك تعرفت على سعدي ثانية. كان مستشاراً للرئيس اليمني على ما أعتقد وكنت متشرداً. وكنا نحيي بعضنا من بعيد. ورغم وضوح وبساطة حياة متشرد مثلي وفي عدن الفقيرة، إلا ان رفاق سعدي امطروا اليمنيين بوابل من التقارير والتي تشكك بطبيعة وجودي في اليمن: غيلان تروتسكي، فوضوي، من تلاميذ النهار البيروتية وهذه مدعومة من المخابرات الأمريكية، وممكن جداً ان يكون مخابرات عراقية.
واجهني اليمنيون بالتهم فكان موقف سعدي الذائع الصيت في ضميري إذ كتب رسالة وهو مستشار الرئيس من شأنها تفنيد كل التهم فأعاد الأمن إلى تشردي.
في عدن تلك عرفت سعدي وبيت سعدي، ذلك البيت المتواضع الذي تُمطرك فيه امومة سيدة البيت (أم حيدر) وتعرفت على حيدر الوديع: كأنه ابن فلاح بوذي. ورغم كل هذا وذاك لم يخطر ببالي إن كان سعدي شيعياً أم سنياً، وكيف يخطر ببالي ذلك وقد كنا نرسم وطناً على جباله ينبت الشعر وعلى سهوله تمطر القصائد وفي مدارسه يجمع الطلاب ندى قصائد آرثر رامبو وغزارة المطر من انشودة السياب وحزن أهل الفرح في ملحمة كلكامش؟
وفي شتاتنا الغريب على القارات، بذل المثقفون جهوداً رائعة فكانت هذه المجلات الثقافية وتلك المسارح وعين الألوان الذي تبث منها الفنون التشكيلية أسئلتها. هذا الجانب المشرق قابلته غزوة المستثقفين الذين غزوا الحركة الثقافية كما يغزو القمل شعر السجين. لقد أمطرت السماء الأمريكية دولاراتها ولم يكن على الممطور عليهم اسقاط النظام بل إسقاط الثقافة. فكان هذا التهميش للثقافة العراقية وكان هذا التوظيف الذي لجأ اليه برامير وغارنر وخليل زاده لاحقاً ولم يكن سعدي يوسف أهم المعترضين عليه بل كل من تنفس هواء هذا العراق وتشبعت روحه بالثقافة العراقية.
يقترب اليوم سعدي يوسف من الثمانين وهناك ما يشبه التواطؤ على استمرار نفيه استناداً على كتاباته السياسية التي أخذ بعضها صفة الشتائم وهو الأمر الذي لا نريده للغة سعدي الشاعر الذي دائماً في الأمام.
سعدي يقترب من الثمانين وفي المنفى فمن يتحمل الهول إذا ما قرر الله وتوقف قلب سعدي عن الخفقان لا سمح الله. فاذا لاحق موت الجواهري النظام المقبور وحثالاته الثقافية فبقاء سعدي وموته في المنفى سيلاحق الجميع من غير استثناء.