قصيدة حكومية طباعة

عبدالكريم يحيى الزيباري

المَهمَّة أُنْجِزَتْ، لقد حققنا أهدافنا بعد طول معاناة!!
لكن لا زال في العراق جوع، وخبَّاطة سمنت مسلَّح عملاقة، تقطعُ الأرزاق، وشوارعنا المغلقة بالكونكريت، الملوثَّة بالدماء، غَرَقَتْ بطوابير طويلة أمام نقاط التفتيش المتكاثرة بالانشطار الذاتي، وأمام كلِّ نقطة لافتة إعلانية (أُفتُتِحَتْ النقطة السابعة بعد المائتين والألف بأمر مباشر من القائد العام للقوات المسلحة)لا أدري كيف نسوا أنَّ خوفهم من كتابة (حفظه الله ورعاه)، لا يغني عن تشبيههم ببعث النار، وبقربها إعلانٌ آخر، في لوحة ضوئية كبيرة (ارفع رأسك أنت

عراقي) قرأت ذات جريدة أنَّ هذه الإعلانات تُكلِّف الميزانية ملياري دولار سنويا، وربما أكثر، قلت لنفسي: من ريعها تفتح القنوات الفضائية نوافذ الحسناوات الرشيقات، بعمائم ألوان الطيف الشمسي: لترشَّ السموم والغبار والدخان، صبح مساء، فوق سمائنا التي ما عاد أحدٌ يتذكر لونها الحقيقي.
وبين كلِّ الشوارع المُقْفِرة قبل غروب الشمس، أحزنني شارع المتنبي، أراقبُ الباعة يغلقون أبوابهم، يسرعون، حتى ظننت أنا الذي يسمونني " محافظات" أنَّ زلزالاً قد وقع، سألتُ ماذا حدث؟ ماذا هناك؟ أحدهم نظرَ إليَّ بتعجب ومضى في طريقه، أحدهم قال لي: إنَّها الساعة الرابعة. قلتُ لنفسي بالتأكيد إنَّها الساعة الرابعة عصراً، والحمد لله ليست الساعة الخامسة والعشرين، ولكن ماذا تعني الساعة الرابعة في شارع المتنبي؟ ساعة العصف والجنون، لشارع النساخين، والكتب والقرطاسية والمكتبات.
يا إلهي أينَ أنا؟
أنا في شارع المتنبي، في الساعة الرابعة، منتصف شهر تشرين الأول من العام 2011، اختفت الظلال، الكتب القديمة المفروشة على الأرض، بائع وحيد، يفترشُ كتباً كثيرة على الأرض، يبدو غير مبالٍ بالناس المسرعين من حوله يحملون رغيف الخبز إلى أبنائهم، يجرُّ في ذهنه عذابات السنين، وحروب كثيرة، وحصار، وفقر وجوع، يحاول أنْ يتماشى مع العراق الجديد، لا شيءَ آخر ينقصنا غير النسيان، شريتُ منه ديوان " أوراق العشب "
طبعة وزارة الإعلام العراقية 1976، ترجمة سعدي يوسف، بألف دينار فقط، سعر كل كتابٍ على الأرض، نصف دولار تقريباً، على بعض الكتب، في الزاوية العليا النهائية من الصفحة الأولى، ربما تجد عبارة(من كتب فلان الفلاني)وتحتها تاريخٌ وتوقيع، بمقدوري الاستغناء عن مكالمة هاتفية خمس دقائق، هذا سعر الكتاب في عصر طوفان قيء السكارى، والمجد العاهر، لولا قلقي من كيفية حملها والطريق طويل، وزاد المسافر قوت، لشريتُ كلَّ الكتب، رغمَ أنَّ أكثرها في الاقتصاد والسياسة، وأنا لا أحبُّ السياسة.
نحنُ أبناء المحافظات، نقاومُ بصبر، وفقرنا أكبر، ولهذا نتمرد دوماً، ولا نطيعُ الأوامر كلها، نحن الأطراف نتعذَّبُ كثيراً، قبل أنْ نصِلَ العاصمة، بين الموصل وبغداد، أكثر من مئة نقطة تفتيش، وأرتال أمريكية، وحوادث الطريق لا تنتهي، وحكايات، نحن الأطراف نعلم أولادنا كل يوم:
إذا استعبدتم مرة، فلن تستعيدوا الحرية، كما حدث ذاتَ تموز طاغيةٍ ومساء.
كتب الفيلسوف الفرنسي جابرييل مارسيل في مقدمة رواية " الساعة الخامسة والعشرون" على أنغام نيتشه: يتفلسفُ بالمطرقة(لم تعُدْ الأرضُ ملكاً لبني الإنسان، والأصح أنَّ بني الإنسان نسوا أنْ يتصرفوا تصرف البشر، إنَّ الأمر لا يرتكز على النسيان والتنكر لِشِرْعَة، بقدر ما يرتكزُ على إعداد منكر، كان ذلك النسيان نتيجة حتمية له. مأساة الإنسان متشابهة في كلِّ مكان).
 
طوق النجاة قريب، أسمع صوت هادي المهدي يهتف في ساحة التحرير، والناسَ يهتفون، لفلسفة الكوانتم: والدَّمُ الذي يخسره العراق للانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى، وعيون الكواتم تراقب أيَّ حركة، لكن العراق يقيءُ دماً قانياً للريح، عبوساً جريئاً ثائراً كما كان، ساقطاً بارداً ميتاً كما الآن.