الشيوعي التائه طباعة

د. علي الصكر

ضع ـ يا سعدي قرطا أو قرطين أو ضع ما شئت من الأقراط لا فرق لن تصبح أبدا من الولدان المخلدين فلم تعد ولدا بعد ولست ـ بأي حال - من أهل الجنة.
لست سوى شاعر غاو يقرأه الغاوون.
( في رثائه للسياب يقول محمد الماغوط: قبرك الكسيح لن يبلغ الجنة فالجنة للعدائين وراكبي الدراجات.)
***
لا تحزن ولا تبتئس فلست وحدك من أضاعه قومه ونال الجحود والنكران في العراق الجديد. ألم تعلم بأن تمثال مصطفى جواد قد أزيل من مكانه، وأن تمثال عبد اللطيف السعدون قد سرق وبيع بالكيلو في سوق النحاس وبقي مكانه

خاليا قبل أن يحل محله تمثال جبسي قميء لا يمت للأول بصلة قرابة أو شبه، وأن رأس أبي جعفر المنصور قد تكسر كسرا صغيرة وأن أنفس آثار بابل وسومر وأكد بيعت على الأرصفة بالعدد أو الوزن كما يباع البطيخ ؟
لم ينسك قومك لكنه زمن خؤون اختلط فيه الحابل بالنابل، وإنها لسوق (هرج) التي يباع فيها كل شيء بسعر زهيد، فقد كنت - فيما مضى - عند الشيوعيين العراقيين الشباب مثل بابلو نيرودا عند الشيوعيين التشيليين ومثل ناظم حكمت عند الشيوعيين الأتراك، يتزاحمون للجلوس أو التقاط صورة تذكارية معك وحسبك جيل ـ بل أجيال ـ من الشعراء كنت تنقح وتعدل كتاباتهم قبل أن تظهر في الصفحة الثقافية من (طريق الشعب) خرجوا من معطفك كما خرج الروائيون الروس من معطف غوغول.
لكنه زمن جهول
ولعلك تدري أن صحيفتك 'طريق الشعب' كانت أول صحيفة تصدر في بغداد بعد الاحتلال بسويعات، ولما يزل دخان الحرائق يتصاعد من الأبنية ولما تزل المدينة نهبا للصوص وقطاع الطرق وهي تحمل الشعار العتيد: وطن حر شعب سعيد على اليمين و(يا عمال العالم اتحدوا) على اليسار.
قال بعض الظرفاء فيما بعد بسخرية مريرة لاذعة يجيدها العراقيون - أن الشعار قد جرى تحويره ليصبح (وطن حر وشعب في السويد) حيث نجح العراقيون في تسجيل الأرقام القياسية لأعداد اللاجئين ليس في السويد فحسب بل وفي هولندا وبلجيكا والدنمرك وألمانيا واستراليا، فالوطن حر والشعب سعيد والليلة عيد في عراق جديد إلى آخر ما تجود به القافية. (ألم تسمع بأن أول طلب لجوءا إنسانيا إلى دولة جنوب السودان تقدم به عراقي بعد أيام فقط من إعلان قيامها؟) أما الشعار ألأممي الشهير (يا عمال العالم اتحدوا) فقد أصبح هو الآخر شعارا طريفا عند العراقيين يعبر عن التصاهر الجديد بين الديالكتيك الماركسي الطليعي والفكر الديني الطائفي المتطرف لكني سأحجم عن ذكره هنا احتشاما.
(يا شجر الطفولة.. أيها الأمل الخرافة) سنردد معك سعدي،إن بستانا فتنا به طويلا كان يغمس ورده بالملح الأجاج.
لقد أضعنا سنوات الشباب الغض نترقب (الانهيار الحتمي للرأسمالية) بين عشية وضحاها كما يرقب الصائم ظهور هلال شهر رمضان بين لحظة وأخرى، فإذا بـ(الأصدقاء والحلفاء) هم الذين ينهارون الواحد تلو الآخر مثلما تهاوت الأطباق ـ ومعها الأحلام - من فوق رأس بائعة اللبن في الحكاية القديمة وإذا بالرأسمالية تزداد ثراء بدل الكساد المزعوم وتنفرد بزعامة العالم، تنزل منه حيث تشاء، وإذا بـ(الامبريالية) التي هي (أعلى مراحل الرأسمالية) تغزونا في عقر دارنا. وهل أتاك حديث الجنود الذين وضعوا أطواق الكلاب في أعناقنا ثم وضعونا الواحد فوق الآخر عراة في كومة آدمية والتقطوا لنا صورا تذكارية في أبي غريب شاهدها العالم أجمع (هنا أيضا نكتة عراقية طريفة جدا سأحجم عن ذكرها حياء). فإذا بالرفاق يتبعون الغزاة كما تتبع القطا ماكينة الحصاد مقتفين آثار الدبابات الأمريكية وكلما (تحررت) محافظة عراقية على أيدي (الامبريالية) ارتفعت فيها يافطة الحزب الشيوعي العراقي التي تحمل الشعار المدوي المنغم (وطن حر وشعب سعيد).
وإذا بالرفيق المناضل سكرتير عام الحزب يجلس في حضن الحاكم بول بريمر، وإذا بالرفاق المناضلين يهرعون ليصرفوا فاتورة نضالهم وتشردهم في الملاهي (عفوا المنافي) الأوروبية عينا ونقدا، فتهدلت كروشهم وانتفخت جيوبهم بما فازوا به في سباق الغنائم والمحاصصة.
حسبك انك لم تشترك في ذلك السباق المريع الذي اسقط أقنعة اللاهثين،
لا تحزن إذن إن تجاهلتك صحف يحررها الجهلة
سمعتك مرة تقول: تموت الشيوعية لكن الشيوعي لا يموت!
لست مدفعا اثريا قديما اذن بل انك الشيوعي التائه الذي سيمضي قي التيه طويلا.
***
ضع قرطا.. ضع عقدا
أو حتى إسورة
وتحل بما شئت فلست المنسي
بل غيرك من يطويه النسيان.

عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته

اخر تحديث السبت, 15 أكتوبر/تشرين أول 2011 11:50