ثلاثُ محاولاتٍ لعلاقة طباعة
عوّاد ناصر
العنوان هو عنوان قصيدة لسعدي يوسف كتبها قبل تسع سنوات تقريباً.
هذه القصيدة تتوضح فيها التركيبة الكيماوية في شعر الشاعر.
لماذا هذه القصيدة؟
لا أدري. التقطتها مصادفة من ديوانه (ديوان الخطوة الخامسة) فوجدت فيها سعدي الذي أبحث عنه، فأجده حيناً ولا أجده أحياناً.
الشاعر، غالباً، يتخفّى كي نجده (حسب ريتسوس).
"أنا أقدرُ أن أفتحَ جَـفنَيَّ دقائقَ
لكني لا أقدرُ أن افتحَ عينيّ… مســاءَ البارحــةِ التفّـتْ كلُّ وشــائعِ أيامي
حولَ عروقي. ظلّـتْ تلتـفّ وتضغطُ، تلتــفُّ وتضغطُ، حــتى سالتْ شمسٌ
بين يدَيَّ  . على أُصُصِ الأزهارِ بدا الطُّـحْـلُبُ أخــضرَ في لونٍ مائيٍّ. مــاذا
سـيُـغَـنِّـي صُــعلوكُ الحَـيّ؟ ستــندفعُ الزيناتُ مُـفـرقِـعةً من جهـةِ
الغــربِ . الشّــمسُ تســيلُ . وآخِـرُ قنّـينةِ خمـرٍ شِـيلِـيٍّ رحَــلتْ".
في القصيدة تدبير أحوال الكائن الشعري شعرياً. الملمح الكابوسي والحيرة الممضة أزاء سؤال: "ماذا سيغني صعلوك الحيّ؟".
غير أن الانتقالات، انتقالات الشاعر وقصيدته، تصعد من مكابدة شخصية، اليوم، إلى مشهد ليس بالشخصي، الأمس.
هي قصيدة حواس أكثر من خمس، والمقطع الأخير يحيل الحاسة الشعرية إلى فعل ميكانيكي: "لكني لا أقدر أن أستاف...". بعد ان ابتدأ الشاعر في محا ولة "أن أفتح عيني" ثم "أفتح سمعي". الشاعر يريد أن يرى ويسمع، فلا يستطيع، إلا عندما يعود إلى بستان البيت:
"أنـا أقدرُ أن أفتحَ جَفنَـيَّ دقائقَ
لكني لا أقدرُ أن أســتافَ …و في بستانِ البيتِ، قديماً وبعيداً، في البصـــرةِ،
كانت أزهارُ الخشخاشِ . وعندَ مُـسَـنّـاةِ الماءِ تفوحُ روائحُ من سَـمكٍ وطحالبَ.
كنا أحياناً ننهلُ من ماءِ الطَّـلْـعِ .أتعرفُ كيف تكونُ القيلولةُ تحتَ غصونِ التينِ؟
وكيف تكونُ بَــواري الـمَـدْبسـةِ ؟ الليلُ سيهبطُ مثلَ ضبابٍ أزرقَ في "حمدانَ".
سـيمتـدُّ اللبلابُ الـمُـزْهِــرُ في الدمِ … سـوف يكونُ شــــميمـاً" .
 أعرف أنني بهذا التقطيع والاجتزاء أجني على القصيدة والشاعر، لكن حسبي أن أورد ما يعين على متابعة المسعى الشعري فيها، وهو مسعى حياة، بعد تلك الكمائن والأفخاخ الشعرية التي تستدرجنا إلى تلك الهاوية الممعنة في البعد التي هربنا منها لأننا أردناها "بستان البيت" لا هاوية، وأردناها "القيلولة تحت غصون التين" لا الغزل الريفي بالرافدين الموشكين على الجفاف ولا الوطن – الجنة.
الشعراء كثيراً ما يعودون إلى أوهامهم التي هي أكثر حقيقية من الحقيقة.. وهي اللقطة الوثائقية القابلة للتحول الشعري بالعودة إلى "حمدان" و "بواري المدبسة".. "عند مسناة الماء تفوح روائح من سمك وطحالب...".
قصيدة سعدي لا تشبه إلا قصيدة سعدي، عندما تكتب عيناه ما تراه عيناه وما تلمسه أصابعه وما يشمه عندما "سيمتد اللبلاب المزهر في الدم... سوف يكون شميماً".. نقلة دراماتيكية من الخاص إلى العام.
شعرنا العربي، اليوم، في أغلب ما موجود، شعر حنين عادي ومديح لغوي للتاريخ (ازدراء الذاكرة الشخصية) وتنويع على شعر سابق، مهم وغير مهم، حتى صارت قصيدتنا العربية استجابة عجولة لرماد الأمكنة وما نتوهم من الأزمنة.
القصيدة لا تترسم خطى ولا "تعكس الواقع" ولا تتغنى بالوطن.. القصيدة تترسم خطاها وتعكس "واقعها" وتتغنى "بوطنها" الخاص والشخصي. 
الوطن في القصيدة هو قرية اسمها "حمدان"، من مظان الشاعر الأولى، لا يجدها أحد على الخريطة، لكنها صارت عاصمة شعرية. يعرضها الشاعر أمام الناس ويكشف فيها ومنها، مكونات قصيدة بصناعة محلية، شديدة المحلية، وهي تركض بنشاط ساحر نحو العالم.
تعيد لنا القصيدة "ملموسية" القصيدة، سواء اشتط بها الحلم أو استعادت مشهداً غابراً، قماشتها ذاكرة شعرية تنتقي الجوهري وتحيله أمثولة، على أنها، في جميع الأحوال، قصيدة تتحرك في أفق ما نحو أفق ما.. أفقنا.