سعدي يوسف المتجدد طباعة

أحمد السلامي
   
يتجول سعدي يوسف مع الشعر في عواصم أوروبا، متخففاً بشكل مدهش من عوارض المنفى والشيخوخة، محولاً ما يغري سواه بالشكوى والأنين إلى قصائد تحتفل باللحظات والأماكن.
إنتاجه غزير، وتكاد غزارته أن تخرج غمز الحاسدين إلى العلن. وما دام يجيد تأثيث المنافي بوهج الكلمات، ليس عليه أن يلتزم السقف الذي وضعه الآخرون لعلاقتهم مع الشعر والكتابة.
له حتى الآن (44) إصداراً شعرياً، أحدثها دواوينه الثلاثة التي صدرت هذا العام "الديوان الإيطالي"، "في البراري حيث البرق"، "أنا برليني".

وكيف لنا أن ننسى ترجماته وإيماءاته المبكرة إلى الأسماء المحورية في الشعر العالمي، من والت ويتمان إلى اونغاريتي وكافافي وريستوس ولوركا وغيرهم.
ها هو يطل من على مشارف الثمانين بمرح عبر الـ "فيس بوك" يتواصل مع مريديه وأصدقائه، ولا ينسى إضافة أعماله الجديدة إلى موقعه الشخصي على الانترنت. النافذة التي أذابت المسافة بين المنفى الاختياري لقصيدته والجمهور.
أضع "سعدي يوسف المتجدد" عنواناً أحسبه يتجاوز شكلانية العنونة ويأتي ملائماً لتوصيف تجربة آخر الشعراء العرب الكبار، وأقربهم إلى استحقاق انتباه الذائقة لمنجز شعري يتراكم بدأب واحتراف استثنائي.
لكن ليس الدأب وحده ما يجعل صاحب "قصائد أقل صمتاً" دائم الحضور، ولعله كذلك لا يراهن على ريادة محققة بالفعل، ويبدو العنوان الأبرز لهذه التجربة بصيغة كلية هو: الارتقاء بالكتابة الشعرية من لحظات الانفعال واستجداء الهواجس إلى أفق الاحتراف المؤسس على منظور جمالي مبكر لماهية الشعر.
والمنظور الجمالي عند سعدي يوسف يتجاوز اقتراحات "الأنا" إلى الإحاطة بجوهر الشعر من داخل عوالمه. لذلك تحتفظ تجربته بمدى يقبل التماسك الذي لا يحد من التنوع والتجريب وتوطين الأماكن واللحظات – على اختلافها – في نص يثق بدربة الشاعر ومقدرته على تمويه الموضوع شعرياً.
كأن يحضر التاريخ مع طوبوغرافيا المكان في "الديوان الايطالي"، لكنه حضور شفيف لا يثقل كاهل القصيدة ولا يثنيها عن التوظيف الشعري للمرئي وما تستعيده الذاكرة في موازاة لحظة تمتاز بالتفكير بصوت عالٍ:
"أٌبصِــرُ ، أحياناً ، ما لا تبصرهُ القطّةُ.
هل أنّ محطَّة فورْتَـيسّا كانت آخرَ ما أبصرَهُ موسوليني الهاربُ؟
هل أن محطةَ فورتَـيسّا آخـرُ هذا الكونِ...
لتأتي بملائكةٍ ومجانينَ
وتُلقي من عرباتِ السفرِ الضيّقةِ القرنَ الحادي والعشرين؟".
يموه أيضاً إيقاع التفعيلة، وله في تمويه الإيقاع وجعل الشكل حليفاً لقصيدته باع، أيقظ منذ السبعينات انتباه شعراء ذلك الجيل، وبعضهم كانوا يعتقدون أن ديوان "الأخضر بن يوسف ومشاغله" يندرج ضمن قصيدة نثر.
أتذكر في هذا السياق شغف صديقنا الراحل محمد حسين هيثم بأعمال سعدي، ومعلوم أن إقامة سعدي في عدن أوائل الثمانينات أفادت عدداً من الشعراء الذين انحازوا للقصيدة الجديدة. أعني قصيدة النثر وقصيدة الوزن التي تخففت من صخب الإيقاع.
أحمد السلامي