أنا برليني لسعدي يوسف.. بانوراما للمدن البعيدة طباعة

باسمة كيلو

في فترة وجيزة امتدت بين حزيران وأيلول 2010  في مدينة برلين كان سعدي يوسف يمارس،كعادته، تدوين الحياة في صباحات المدن التي يحط رحاله فيها...
فجاء كتاب « أنا برليني ؟» الصادر عن دار التكوين- دمشق 2010, الذي لم يعنون بوصفه كتاباً شعرياً, إنما كان هناك التفاف ذكي على المسمى الشعري تمثلت بلاحقة «بانوراما» التي أطلقت الكتاب في مناخات كتابية أخرى، وليضيف هو في تقديمه للكتاب:
"عليّ أن أستقبلَ .أن أُرهِفَ حواسّي .أن أحِبًّ العالَمَ .
أليس هذا كافياً؟
ما الشِعرُ إذاً؟

سيكون هذا الكتاب إذاً كتاباً شعرياً هارباً من التنميط, يتضمن قصائد موزونة وأخرى غير موزونة, قصائد مترجمة ونصوصاً مسرحية وأخرى نثرية تقترب من شكل المقالة.
في بادئ الأمر تستوقف القارئ إشارة الاستفهام, فهل تصريحه أنا برليني يعني بأن الشاعر المتجول بين المدن أصبح برلينياً؟ أم أن الأمكنة تجعل عناوينه ملتصقة بها؟
فما يكون الفرق بين دواوينه « قصائد نيويورك » «الديوان الإيطالي» , «قصائد باريس» « نهايات الشمال الأفريقي» وكتاب «أنا برليني» الذي استبدل فيه المفردة الأولى فقط : قصائد/دواوين/أنا... وتلك العلامة الاستفهامية التي تتضمن بشكل ما نوع من النفي الدلالي المتأخر للكلمة!
يستعرض سعدي يوسف من خلال نصوصه حكايات متقاطعة فيما بينها بتساؤلات شخص واحد...
ففي النص الأول المسمى « حكايات البحارة الغرباء» كتب بانوراما الرحيل ..
 شبه نفسه والأصدقاء الذين غادروا بالبحارة الذين لم يعد لديهم ذاكرة كي يحددوا الزمن الذي ابتعدت فيه سفنهم ورست في مرافئ الآخرين بالرغم من أن خروجهم الأول جميعاً لم يكن بحرياً و لا هم بحارة...
لكننا نعرف إن البصرة حيث ولد الشاعر هي ميناء العراق الوحيد، وكان خروجه الأول من بيروت بحراً بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982.
فإذا حاولنا قراءة ما بين السطور سنجده يحاول من خلال العبارات التالية بان السفر قد كتب في صفحاتهم الأولى:
«ربما كان النزول
الفجر...
والتأريخ؟
قبل كتابة التاريخ؟
قبل الكهف , والحيوان مرسوماً؟
أنحن خرافة ٌ, أم أننا فعلاً, أناس مثل كل الناس؟
نعرف أننا , فعلاً هنا
بحارة ٌ غرباءُ؟»
ويكمل من خلال هذا النص حكاية من هجّروا لتصبح الحانات أماكن سلواهم...
في برلين محطته هذه التي وقف فيها ليدون الأحداث التي صادفها خلال سنوات حياته وهذه المحطات ليست إلا المدن التي مر بها أوعاش فيها ..
إنه كعادته يفسِّر دوماً ما يريد أن يقوله في نهاية الكلام « فالنهايات دائماً في الأقاصي»
يكرر تلك العبارة في كل مرة ربما لأن العودة إلى المخيلة تكون دوماً المحطة التالية
يلتقط الصور المكانية على خارطة الكلمات:
« نحن, إذاً, البحارة !
البحارة الغرباء نحن...
إننا البحارة الغرباء»
ويكمل حكاية البحر في نصه الثاني...جاءت على هيئة حوار مسرحي بين صاحبة الحانة والبحار المتقاعد وصوت القبطان...
«قالوا أنك مفقود
هل سمعت بشمس فقدت في أحد الأيام
الشمس مفقودة دوماً في الليل
ولكن هل غرقت السفينة؟»
ربما كانت هذه العبارة هي الالتقاطة الشعرية الوحيدة التي أنقذت هذا النص كي يتناسب مع تصريحه المضمر على انه كتاب شعري.
أما نص الهند فجاء على هيئة تساؤل يقدمه لنفسه دون أن يصل إلى نتيجة, فتساؤله ممزوج بالنكران والقبول في دوامة من العبارة التي تدور حول نفسها بتراكيب مختلفة دون أن تصل، وكأنها معبرة عن عدم وصول سعدي نفسه إلى الهند ودورانه حول فكرتها... أو ربما كان يقصد, مكاناً آخر صارت الهند تكثيفاً رمزياً له...
«لا أحبُّ الذهاب إلى الهند .لكن أحبُّ الذهاب إلى الهند.لكني لا أحبُّ الذهاب إلى الهند.»
أما القطار الذي تحدَّث عنه مطولاً وذكره كثيراً في حديثه الشعري فلم يكن قطاراً واحداً فهناك القطار الألماني:
«أين تمضي بركّابِها كلُّ هذي القطاراتِ ؟
تلك القطاراتُ تمضي إلى الاتجاهِ المعاكس»
دائماَ يصعد في قطار مغاير لوجهته ففي قصيدة نداء الأرض يعود لذكر القطار أيضاً:
«أدور في بتلات وردتي , الدمشقيات يؤثرن المضي إلى النهاية .سوف أبني منزلاً قرب المعرة, كي أطوف, العمر, عند ضريح شيخي
يمضي قطارٌ شرقَ برلينَ .
أقرأ الصحفَ الصباحيّات فيلتبسُ الزمانُ عليَّ »
وعن القطارات أيضاً يكتب في قصيدة: صيفٌ برلينيّ: « القطاراتُ استفاقتْ
ستصفر , مرة أخرى , قليلاً
لتحملنا
وترمينا,
بعيداً...
حيث لن يعوي قطار»
أما تحت الشجرة الغريبة فكان يستعيد ظلال النخيل في مدينته القديمة «سأظلُّ جالساً تحت هذه الشجرة
الشجرة التي لا أعرف لها اسماً
الشجرة التي لا تعرفني
العصافيرُ فقط تطمئنُّ إليّ»
للأشخاص كما الأمكنة وجودها في حياته الشعرية فهي ترتبط بمفرداته, فيمارس لعبة الشعر مع هؤلاء الأشخاص الذين مازلنا نراجع مذكراتهم أمثال نابليون , هيجل , مايكل جاكسون , موزارات وغيرهم كثر من الأصدقاء الشخصيين له الذين يمرون كأخيلة في بانوراما صفحاته...
وكان أحد الأخيلة النابضة ابنه «حيدر» الذي وافته المنية في الفلبين:
«ستكون الفلبين قريبةً قرب الخنجرِ و الخاصرةِ.»
......................................
إلى خاتمة نصه هذا الذي جاء سردياً إلا في مقطعه الأخير فقد تناوبت الخاتمة بين الشعر الموزون والمنثور في المعاني المضمرة دوماً...
وحتى نهاية بانوراما أيامه في برلين بقي ينتقل على متن كلماته التي تبدو واضحة المعالم تارة وأخرى يغزوها الغموض...
«أنا برليني» كتاب استعادة للمكان والزمان ...لميناء البصرة والأجواء الأولى لذاكرته البكر, القطار و البحارة ...أشجار النخيل والأصدقاء ...وتلك المدن التي عاش فيها برهة من الزمن وغادرها، وربما كان سعدي يوسف في هذا الكتاب يحاول تدوين تاريخ الكتابة من خلال الإقامة في مشاهد مزدحمة....
 فهل تعتبر هذه النصوص بداية مرحلة مخصصة للذكريات مع أصدقاء الذاكرة والأماكن التي زارها واستعاد بها الوطن كنوع من السيرة الذاتية الجديدة؟...أم لعبة يخترعها في المنفى وأطلق عليها عنواناً مبطناً تحت ستار الشعر مستفيداً من لقبة الكلاسيكي كشاعر...
أو ربما هي إشارة الاستفهام التي وضعها صراحة في العنوان كي يجعل القارئ يشعر بها عند إكمال كل نص بمعزل عن الآخر؟ مع تأكيد قوي على دلالات واضحة بأن برلين ليست إلا مكاناً في ذاكرته لم يرغب بالتصريح عنه...

تشرين – ملحق أبواب الثقافي 12-12-2010