الدَّامَابَادَا» كتاب بوذا بترجمة سعدي يوسف لنعش فرِحين، لا نكره من يكرهوننا.. ‏ طباعة

تشرين أبواب
الأحد 31 تشرين الأول
عمر الشيخ

يقدم الشاعر العراقي سعدي يوسف ترجمته الجديدة لكتاب بوذا المقدس بعنوان (الدّامابادا) الصادر عن (دار التكوين - دمشق 2010) وبحسب ما جاء في مقدمته يقسم العنوان حسب شروح قديمة إلى: الدّاما وتعني: الشرع. العدل. العدالة. الطاعة. الحقيقة، و بادا تعني: السبيل. الخطوة. القدم. حيث يذكر سعدي يوسف أن نصوص هذا الكتاب انتشرت وسجلت بلغة (بالي) اللغة الفقهية للبوذية الجنوبية، وصارت الكتاب الرئيسي للبوذيين في سريلنكا وجنوبي شرقي آسيا. ‏

«يضم كتاب «الدّامابادا» مجموعة ما قاله بوذا (483- 563 ق.م) والمرجح أن هذه الأقوال جمُعت في شمالي الهند، في القرن الثالث قبل الميلاد، ودوّنت أساساً في سيلان (سيري لانكا) في القرن الأول قبل ميلاد المسيح، وفي هذه التجربة تذهب ترجمة سعدي يوسف بالنصوص المقدسة إلى واحة لغوية شعرية بسيطة، يفسر خلالها خلاصة حِكم بوذا الحياتية بحساسية اللغة العربية الفصحى، مستفيداً من مخزونه الشعري في صياغة تلك (الأبواب) التي تتضمن مقاطع شعرية مقسمة كفصول مستقلة تتضمن (مقاطع نثرية). ‏
دستور محبة ‏
تنأى كتابات بوذا عن الثقل اللغوي في تركيب الجمل، فاعتماده على التشبيه المادي الحقيقي لنماذج البشر بمخلوقات الطبيعة الحية ونباتاتها هو ثيمة ساعدته في صياغة رؤيته الفلسفية على أنها نصوص أدبية تحمل مفارقات وكنايات بسيطة وسهلة الفهم. تدور فكرة معظم (أبواب) كتاب بوذا حول مفاهيم (الوعي - الأزهار- الحكيم - الفرح- العقاب- السرور-الحسن والرديء-العدل-السبيل- الطاهر..إلخ) التي يعتبر بوذا أن العمل بها هو دستور محبة في حياة الإنسان النبيل، نتلمّسه هنا بحذر ومسؤولية تنصب في نشر الخير والسلام بين البشر، وإقامة علاقة طيبة مع كل الناس حتى أولئك الذين يكرهوننا ويبغضون كل شيء وقد سوّدت الأنانية بصيرتهم وجعلتهم خدماً لأفعال الشرّ، نتقرب منهم ونحاول أن نفتح أمامهم الأمل في حبّ الخير وفعله، والتسامح مع أنفسهم ومحيطهم، يقول بوذا في باب الأزهار: (المرء الطيب يتغلغل في كل مكان) (لنعش فرحين، لا نكره من يكرهوننا./ وبين من يكرهوننا، نعش أحراراً من الكره)ص19. ‏
حكماء ‏
يبرِّئُ بوذا الحكماء من أنفسهم، لأنهم يرمون خلف ظهورهم أكاليل المديح وجبال الذم، يمضون في طريقهم غير عابئين، لا يثرثرون عن رغباتهم، بصيرتهم هي الحقيقة الصافية، والحكمة التي يبغون زرعها في قلوب وعقول البشر هي نتيجة سمو روحي يصدره العقل والقلب معاً ليقتنع الآخرون بعافية هواء الحياة الذي يعيش ضمنه جسد الإنسان وروحه، يقول بوذا في باب الحكيم: (الأخيارُ يمضون في سبيلهم غير عابئين. /الأخيارُ لا يثرثرون عن رغباتهم./ ومع السعادة أو الأسى لا يبدي الحكماءُ فرحاً أو ترحاً)ص28، كما يؤكد بوذا في هذا الباب أهمية حفاظ الإنسان على خفته التامة، حيث لا يحمل في ذهنه مسببات للسرور، ولا يقاتل من أجل التملك، جسده النقي من الخطيئة وباطنه الواضح كالشمس هما حكمته في الدنيا: (في التخلّي تُنشدُ المتعةُ/ حيث المتعة تبدو صعبةً/ في التخلي عن المسرّات كلها/ في التخلي عن الممتلك كله./ يتطهر الحكيم ممّا يُثقلُ ذهنه)ص30. ‏
سرور ‏
يربط بوذا في باب (السرور) بين الطمع والشهوة والسرور، وذلك من خلال مفهوم (الانعتاق) من سطوة تلك الحالات النفسية التي تصادف الإنسان فجأة، ويحذر من غرق النفس فيما تريد، فلا تعطي لذاتها كل شيء لتتجاوز عتبة التطلب والتكلّف: (عليك أن تنعتق من كل شيء./ إذ إن فقدانك ما تحبّ مؤلم) الطلقاء هم من ليس لديهم ما يريدون وما لا يريدون.. هكذا يشعل بوذا شمس الفرح من الترفع عن كل الشهوات في سبيل حرية التفكير والرؤيا ونصح الآخرين، حتى (السرور) في صدفته التي تجمعه مع الإنسان فإنه يترك في قلبه قلقاً مؤجلاً، نتيجة غيابه المقبل، وحزناً مستمراً بسبب قدومه متأخراً: (من السرور يأتي الحزن/ من السرور يأتي الخوف/ المنعتق من السرور لا يعرف حزناً ولا خوفاً) ص 75، ربّما يطالبنا بوذا بالترفع إلى درجة النبل المثالي وهذا ما يعتبر مستحيلاً! وإلا لتحول معظم من اتبعوا بوذا ومثّلوا فكره بدقة إلى أنبياء مصدقين للأبد وذلك لم يحدث حتى الآن.. ولكن ما المانع في هذا إذ إن كتاب بوذا المقدس (الدامابادا) لبساطة ما يحمل من تعابير يعتبر تجربة إلوهية خاصة في كيمياء النفس البشرية التي باعت معظم مبادئها بحثاً عن التملّك والوجهة الدنيوية البائسة: (عندما تتطهر من أوضارِكَ،/وتنعتق من ذنوبكَ،/ سوف تدخلُ العالم السماويّ لذوي النُّبل)ص87. ‏
طهارة ‏
يختتم بوذا كتابه هذا بباب (الطهارة) الروحية، في المكان الذي يعبّر فيه جمال الإنسانية وصدقها، حيث يتجنب المرء الخطأ ولا يؤذي أحداً ولا يعلق بالمسرات كالماء على زهرة اللوتس، يتسامح مع غير المتسامح، ويكتفي بنصيبه بين الطامعين، الطاهر لا يقتل أبداً ولا يتسبب في الموت: (المرء الذي أسميه طاهراً، هو من ينطق صادقاً. نافعاً. رقيقاً لا يستثير أحداً)ص138. ‏
يتمتع (الدامابادا) بدفق شعري لا يحمل تكنيكاً لغوياً ثابتاً أو صعباً، بل يتدفق بالحكمة الصافية والخلاصة الأخلاقية، ويترك القارئ في تأمل ذاتي بين حياته الشخصية وما قاله هذا الحكيم العظيم. وحيث تجعلنا الهوية البصرية للغلاف (تمثال بوذا) نجد أنفسنا أمام مخطوط تاريخي غيّر كثيراً من العادات في حياة شعوب مختلفة على وجه البسيطة.