من بادية السماوة إلى برلين طباعة

سعدي يوسف.. هل انطفأت فعلاً آخرُ شمعة في حانة المستقبل؟
 زيد قطريب
جريدة تشرين
 
تختصر فاتحة كتابه الجديد (أنا برليني ـ بانوراما) الصادر عن دار التكوين بدمشق، الكثير من انزياحات سعدي يوسف وصراعه المرير مع المنفى الاختياري الذي يتحول هو الآخر إلى محرض شديد الحساسية والتلقّف والانهمار على صعيد الكتابة، والاشتغال في القصيدة العربية غير التقليدية، تلك التي يسميها خارجة على اللعنة الثنائية الناشبة، فلا يبدو مشغولاً هنا بالشكل بل موغلاً فيما يراه حرية، وعلى اعتبار أنه (مدوّن حياة وليس شاعراً) كما يسمي نفسه، فإنه يعيد تشريح برلين كما فعل مع نيويورك وإيطاليا وباريس.. هكذا يخرج سعدي مع دفتره الصغير مبكراً كي يشهد العالم وهو يستيقظ.. إنها باختصار نصوص خارجة على الشكل المألوف لأنها منهمكة بالبحث عن الحب، فالشاعر يظهر كمن يشحذ أدواته وأحاسيسه حتى يستقبل العالم بشكل مختلف..

يحوّل سعدي يومياته في المترو والحافلة إلى أسئلة تتناسب وحجم المواجهة مع المكان الذي هو برلين أو سواها من المدن التي تتردد في القصائد، فيبدو هو  الآخر عائداً من، أو ربما قاطناً في الأقاصي التي (تحمل النهايات)!. رغم تلك الأقاصي التي وصلها جغرافياً وتخييلياً، لكن ما يمكن تسميته بالجذور مازالت تربطه بها بشدة، سواء كان منها الأيديولوجية أم الثقافية والاجتماعية، حتى في اللحظات التي يبدو فيها ساخطاً على تلك (النحن) القابعة في (مرفأ البركان) نظراً لتقهقرها وتراجعها نحو الوراء، يبدو كأنه يوقد مرثيةً لا تنتهي على زمن يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فيؤكد أن آخر (شمعة في حانة المستقبل قد انطفأت).. ففي هذه القصائد لا تظهر فوارق الثقافة والبون الشاسع بين المكان الذي يحاول تفكيكه في المهجر، ومجموع الأمكنة الراسخة في ذهنه القادم من الشرق، بل يحاول البحث عن مفردات وأدوات تستطيع الإفادة والتحليل حتى على مستوى شكل القصيدة والرؤيا وفاعلية المخيلة في التعامل مع مجموع الناس والمكان الجديد.. سعدي الحاد وشديد الحساسة لا يتوانى عن وضع الإصبع فوق الجرح وممارسة كل أشكال التعرية تجاه تلك (النحن):
صحيح أننا في مرفأ البركان
لكننا برابرة
وأوباش
قراصنة وأجمل!.
مفارقة هذه النصوص أنها بقدر ما تنطلق نحو الاختلاف والمستقبل، فإنها تحافظ على جذرها بشكل وثيق جداً، فمن برلين تحضر بادية (السماوة) حيث قتل المتنبي، كما يحضر في ذهنه مظفر النواب، فهو بكل بساطة يقطع المسافة التخييلية بين برلين وبادية السماوة في العراق كي ينبش تلك الحالات التي لا تفارق ذاكرته نهائياً في جميع ما يكتب تقريباً، فسعدي يوسف بقدر ما يبدو ثائراً ورافضاً لكلاسيكية الشكل فيما يخص القصيدة، فإنه ينطلق من إرث لا يقدر على نسيانه سواء من الناحية الثقافية أو الفكرية أم من جهة مجموع المفردات التي كونته في الأساس كشاعر وربما صنعت مخيلته بكثير من الأحداث العظام!.
بعد نصه الشعري الأول في مستهل الكتاب، يفاجئنا سعدي بمسرحية من فصل واحد تحمل عنوان (سفينة الأشباح)، هذا النص الذي يمارس نوعاً من القطع مع الأسلوب الذي بدأ به القارىء في النص الأول، يبدو نافراً بحيث كان من الأفضل لو أدرجه في آخر الكتاب، فالتصاعدية الكبيرة التي تحكم النصوص الأخرى تصنع جواً من التحفيز الكبير والحساسية المختلفة سواء من جهة طبيعة الصور والمفردات والجمل الشعرية، أم من جهة المواضيع التي يلتقطها سعدي بعناية شديدة ومهارة قوامها التركيز على الصورة قبل كل شيء، هكذا نعثر عليه في نص (الفلبين) حاداً ومرهفاً وصلباً في آن، مثلما هو ممسك بتلافيف السرد وسطوة المعنى التي يوجهها أينما أراد، فأصالة النص وشعريته لا تتعرض للحكائية بمعناها العادي أو السهل، بل تبقى موصولة بإحكام وثيق مع شعرية سعدي الأمر الذي بقدر ما يعطيه أمداءً مختلفة على صعيد الأسلوبية الممارسة في تلك النصوص، فإنه يفتح باب التجريب من أجل مقاربات تبدو جريئة جداً على صعيد نص يبحث عن حضوره المختلف والجديد!:
(تأخذني "بيني" إلى حيدر.. أرى ولدي ممدّداً، صبيح الوجه، ينام عميقاً. التابوتُ ذو غطاء زجاج. كأني رأيتُ بعوضة دقيقة على وجه حيدر. كيف أبعدها؟).
اشتغال سعدي على اللغة في هذا الكتاب، يبدو منساقاً بشكل طبيعي مع نضوج التجربة ومراسها طيلة سنوات كثيرة من اقتراف النصوص، فالقارىء يمكن أن يكتشف تلك الموجات المختلفة في التناول بين نص وآخر، كأنها في بعض الأحيان يكون لصيقاً أكثر بالأساليب القديمة فيعتني باللغة كثيراً أو يعمل على مفارقاتها وتضاداتها المختلفة حتى يدعها هي من يوصل القارىء إلى المطلوب، وأحياناً أخرى يترك العنان للمخيلة كي تعمل على الصورة وتخترع هي طبيعة الأسلوب الذي يميل للسرد غالباً، تلك المسألة التي بقدر ما تخلق عملية متباينة في تناول العبارات، فإنها في الوقت نفسه تؤكد أن سعدي يحاول الافتضاض الأسلوبي والمراهنة على الجدة دون قيود بالمعنى التقليدي للأمر:
(أين تمضي بركابها تلك القطارات؟.
أنّى ستلقي بهم؟
وإلى أين تتجه؟
العالم ارتدّ (نعرفُ؟)
.. تلك القطارات تمضي إلى الاتجاه المعاكس
(نحو محطتها قبل قرنين)
تمضي بركابها،
هي تمضي بركابها الغافلين..).
ما يفعله سعدي في نص (يوميات روما) أو سواه، يبدو مختلفاً جداً عن الجو السائد، فهو في بعض النصوص يبدو محكوماً بالتأكيد على المعلومة وإيرادها دون تدخل يذكر، هكذا يظهر أيضاً في نص (النواقيس) الذي يمتلىء بالشاعرية والتلقائية أو البساطة في الوقت نفسه.
يختم سعدي نصوصه البانورامية تلك، بضرورة التركيز على التجربة بحد ذاتها، تلك التي يسميها قصيدةً شاملة لبرلين التي زارها شهرين كاملين عند ابنته، تبدو كأنها أصبحت شفافة ومكشوفة تماماً أمام كلمات سعدي.. هذه التجربة الثرة!.