التنظير النصّي والقول بالشعر طباعة

د. محمد صابر عبيد
حول قصيدة " فنّ الشِعر " لسعدي يوسف

     انفتح الشعر الحديث في مغامرته الجمالية ـ التي تستدعي ضرورةً تطوير آلياته وتحسين مستوى كفاءتها باستمرار وتوسيع حدود عمل تقاناته ـ على آفاق جديدة في مستويات التشكيل التعبير والتدليل، منها ما يمكن وصفه بالكلام على الشعر بالشعر، بمعنى جعل الأنموذج الشعري ـ بوصفه فناً ـ موضوعاً مركزياً لقول القصيدة وتشكيل فعلها، يتجول الشاعر فيه داخل فضاء القصيدة وآفاقها وعنائها وتجربتها واستمرارية بحثها وكل ما يتصل بخصوصية تشكّلها ونماذج حالاتها، ليقدّم لنا تصوّراً عن رؤيته لتجربة التشكّل الشعري بين يدي أدواته وحالاته ورؤاه .

   وينطوي هذا النوع من القصائد على وعي تركيزي وتكثيفي عالٍ يتقصّى فيه الراوي الشعري الحدود والإمكانات والرؤى والفعاليات، على النحو الذي يتمكن فيه من رواية حكاية القصيدة وسيرة تشكّلها ونمو مفاصلها داخل مساحتها المكانية والزمنية والتقانية، تلك الحكاية الحرّة التي لا يلتزم فيها الراوي بقوانين معينة بل يخلق سبيله الخاص من داخل التجربة ذاتها.
   قصيدة الشاعر سعدي يوسف (( فن الشعر )) تخوض غمار هذه التجربة الكتابية بوعي نظري ورؤيوي وعاطفي متشابك وضمن حساسية شعرية واضحة التوقّد والمعرفة، وربما كانت عتبة العنوان بمثابة إعلان واضح وصريح وحاسم يتّجه حتماً إلى هذا الميدان بكل قصدية ومنهجية .
   إذ إن الدالين المتضايفين المؤلفين للعتبة العنوانية (( فن + الشعر )) يشتغلان بخصوصية عالية التمركز في بؤرة الموضوع وداخل حاضنته التشكيلية، فالدال (( فن )) بأنموذجه الشامل يتجه بفضاء التدليل إلى نمط خاص من الكلام خارج عن سياق الكلام الطبيعي، على النحو الذي يستدعي كل معاني التجاوز والانزياح والمجاز والجمال .
    وحين يضاف إلى دال (( الشعر )) ذي الصفات الكلامية الأكثر خصوصية وتفرداً فإنه يكتسب دلالات جديدة تخصص التوجّه نحو حقل معين من حقول الفن، وبذلك يكتسب التشكيل العنواني أنموذجه الدلالي الشامل والكلّي داخل السياق ويتحصّن في بؤرة قواه الدفاعية، وهي تناضل بالكلمة والصورة والدلالة من أجل المتن النصّي القادم للتدليل على رموزه وحلّ إشكاله والبرهنة على فروضه والإجابة على أسئلته .
   تبدأ القصيدة بفعل قولي ينقله لسان الراوي عن آخر (( مؤنث )) قد يكون القصيدة أو تجلّ معين من تجلياتها القولية أو الرمزية أو القناعية، ويتضمن الفعل القولي نقل كلام وصفي يصوّر بكاميرا ذات قوة تصوير حادّة وضعيةً من وضعيات الراوي :

وتقول لي :
(( عيناي واسعتان
   تدخل فيهما الأشياء كي تمسي إذا حلّ المساءُ
                                 شريطَ ألوانٍ )) ،
 
  إن اختيار (( عيناي )) للتصوير ونعتهما بـ (( واسعتان )) يتضمن دلالة تصويرية مركبة على أساس البعد التصويري الكامن في نشاط الإبصار في العينين، ويضاعف النعت المثنى ((واسعتان )) من قوة هذا التدليل التصويري ويفتحه على فضاء الترميز بما ينطوي عليه من إحالة واستشراف وبما يَعِد من طاقة احتواء واستقبال .
   وما أن يدخل القول الاستعاري اللاحق (( تدخل فيهما الأشياء / كي تمسي إذا حلّ المساء / شريط ألوان )) حتى تتشكل أولى ملامح الرؤية الشعرية، التي تجعل من (( عيناي / واسعتان)) البوابة التي تلتقط (( الأشياء )) من الخارج لتعيد إنتاجها في الداخل بعد سلسلة إجراءات شاغلة للزمن (( إذا حلّ المساء ))، ويتم تحويلها إلى مستوى جديد من الكلام ((شريط ألوان )) يندرج في فضاء الفن والجمال .
   وحيث لا يكتفي الراوي الشعري بنقل مقول الآخر (( المؤنث )) الذي يحتمل أن يكون ((القصيدة )) أو ما يتشكّل في فضائها من احتمالات، فإنه ما يلبث أن يشهر قوله ليتدخل في توجيه الحكاية ويقترح أنموذجه ويحقق حضوره من بداية تكوّن المشهد :

أقولُ : (( ، أرفّةُ هدبكِ الزرُّ الذي يصل الشجيرةَ بالتصوّرِ ؟
هل إذا أغمضتِ جفنكِ
سوف ينفتح التفكّرُ ؟
أم هما العينانِ واسعتانِ دوماً ؟ ... ))

  هنا يتضاهى ويتعامد ويتوازى حقل الفعل (( أقول )) مع حقل الفعل (( وتقول / لي ))، فضلاً على استئناف مسيرة الحكي والقول على النحو الذي يتكامل فيه المشهد الحواري سردياً ودرامياً .
  ينفتح قول الراوي (( أقول )) على محاورة استفهامية يتداخل فيها الحوار الخارجي بالحوار الداخلي، ويشترك في بنائها المنطق الشعري بالمنطق الرؤيوي، ويسير باتجاه الكشف عن طبيعة العقل الشعري الذي يعمل في الباطن، إذ يأتي الدال الاستنتاجي (( إذاً )) في مطلع القول ليقرّر نتيجة ما يشي الدال بالوصول إليها .
   لكنه ما يلبث أن يخيب هذا التوقّع بانتقاله مرة أخرى إلى موقع السؤال الذي يدفعه الراوي باتجاه عنصر الحوار المقابل (( تقول لي ))، وقد انشطر على ثلاث برقيات استفهامية متلاحقة ومتداخلة .
   تتساءل البرقية الاستفهامية الأولى عن ماهية اللحظة الخاطفة وخصوصيتها التي تنقل الأشياء بآلية المجاز الشعري من حدود الواقع إلى فضاء التخييل (( أرفّة هدبك الزرّ الذي يصل الشجيرة بالتصوّر ؟ ))، يتداخل هنا أنموذج الآخر (( المؤنث )) ـ المحاوَر ـ عبر صورتين مقترحتين بينهما الكثير من التوافق والألفة (( القصيدة / المرأة )) ويؤلفان كياناً واحداً .
  إذ إن الصورة اللحظوية الخاطفة (( رفّة هدبك )) تحيل على آلة التصوير والإغواء الأنثوية (( العين ))، وتحيل في الوقت ذاته ـ رمزياً ـ على إيقاع القصيدة، مثلما يحيل دال ((الزرّ)) على أداة تحويل الحال من السكون إلى الحركة، ومن الظلام إلى النور، ومن الركود على الفعل عموماً، ويتجه إلى فاعلية شعرية محددة (( يصل الشجيرة بالتصور )) تنقل واقعية الموجودات الفعلية إلى فضاء التخييل الذي يلتقط الصورة ويمتحن قدرتها على الاندراج في حركية القول الشعري .
   ويوغل السؤال اللاحق في هذا المسار على نحو أكثر عمقاً وتكثيفاً وتركيزاً وتركيباً، وينفتح على معادلة جدلية تقارب المشكلة الإبداعية وتحاورها في أدق مفاصلها إشكالاً وأكثر حالاتها غموضاً وأعمق مظاهرها التباساً (( هل إذا أغمضت جفنك / سوف ينفتح التذكّر ؟))، فالعين كاميرا الكائن الحيّ وجسر تواصله الصوري مع الطبيعة والأشياء والكينونات، تشتغل أولاً بآلية فوتوغرافية تقوم بالتقاط الصور للمشاهدات التي تصلها، وعلى ذلك فإنها ترتبط بالواقع ارتباطا حيويا وكليا .
  وإذا ما استجابت للسؤال الاحتمالي (( إذا أغمضت جفنك .. )) فإنها ستحجب الرؤية تماماً وتغلق دونها أفق الخارج وتنفصل صورياً عن الواقع وصوره ومشاهداته، لكن الجزء الثاني من السؤال يقترح بديل احتمالي لعزل الخارج ألا وهو الانفتاح على الداخل (( سوف ينفتح التفكّر .. )) .
   بمعنى أن ثمة قطبين يتجاذبان صناعة العمل الشعري ويسهمان في تشييده، أحدهما الواقع الذي يخضع لآلة العين المصورة، يمثل المعطى الخارجي المرتبط بالتجربة الواقعية والحيوية للشاعر، وما يتمخض عنه من طاقة تصوير تعبّر عن خبرة المعايشة والمشاهدة، والثاني هو الذهن الذي يخضع لآلة التفكّر الحلمية، ويمثل المعطى الداخلي المرتبط بالتجربة الروحية والتأملية وما يتمخض عنها من طاقة تذهين تعبّر وتستجيب للخبرة الحلمية والتأملية .
   ولاشك في أن هذه الجدلية التي تشتغل بآلية تناوبية تفاعلية متداخلة بين الانفتاح على الخارج ثم إقفاله والانفتاح على الداخل، من شأنه أن يغذّي صناعة الفن الشعري بجدل تكويني وبنائي خصب .
    إن السؤال الشعري هنا لا يستهدف الحصول على إجابة معرفية تكشف جهل السائل وتشبع فضوله الاستفهامي، بقدر ما يمثل خطاب إثارة يقارب الإشكالية ويتصدّى لفاعلية غموضها والتباسها .
   لذا فإن المتبقي الاستفهامي من فضاء السؤال ومساحته الكتابية يسلّط الضوء على مستوى احتمالي آخر في معالجة وحدة الإشكالية (( أم هما العينان واسعتان دوما ؟.. )) ، وتحيل ((العينان الواسعتان )) هنا على الطبيعة الشعرية للعينين وليس الواقعية، بدلالة الصفة الاستيعابية التي تزيد من انفتاح عدسة الكاميرا اللاقطة (( واسعتان )) ودلالة استمرارية الصفة الزمنية وحيويتها (( دوماً ))، على النحو الذي يجعل كاميرا العينين الواسعتين بمعناها الشعري قابلة للتصوير الواقعي والذهني معا .
   بعد أن تبلغ الصورة الاستفهامية مبلغها في إثارة إشكالية التكوين الشعري بكل ما تنطوي عليه من غموض وإشكال في جدل فاعلية الخارج والداخل، الواقعي والذهني، المصوّر والمتخيل، المُشاهَد والخبريوي، بهذا التركيز اللساني العالي لحركة الدوال في بؤرة تشكيل المعنى الاحتمالي، فإن الخطاب هنا يتوقف لالتقاط الأنفاس والتمهيد لجولة أخرى تستكمل حلقات المتن وتستظهر مقولته المركزية، على النحو الذي تتمكن فيه من تحقيق استجابة مقنعة وتفصيلية وظاهرة لعتبة العنوان (( فن الشعر )) .
  يتمثل هذا التوقف في الفاصل النقطي الثلاثي على الشكل الآتي :

.....................
.....................
.....................

    يخضع لقراءة بصرية متناسبة الأبعاد والأشكال إلى حدّ التطابق الكلّي، إذ يوفر توزيع النقاط المتلاحق والمتجانس على بياض الورقة فسحة رمزية وإيقاعية يستعيد فيها الخطاب قوته ويشحذ إمكاناته للمواصلة، وتأخذ العين القارئة في الوقت نفسه راحة بصرية وذهنية تساعدها على تأمل السابق والاستعداد للاستمرار في تلقي اللاحق .
   ينتقل الخطاب بعد ذلك إلى التصريح بالمخاطب الأنثوي وفتحه على الخطاب، والتوجه إليه بنداء مباشر وموصوف يحيل بمستوى رمزي معين على القصيدة الشريكة في احتلال فضاء التدليل :

يا فتاةً حرّةً
إني أجرّب ما تقولينَ ...
الضبابُ يشوّشُ المرآةَ
لا الأشجارُ تبدو في البعيد كما هي الأشجارُ نعرفها
ولا تلك البنايةُ ،
إن لي عينين واسعتين أيضاً ..
غير أنّ الزرّ مفقودٌ ، هنا ،
   في اللحظة الصمّاء هذي .

  فالمنادى ـ (( فتاة حرة )) ـ تفتح السياق التعبيري على الأنوثة غير المعرّفة أولا ((فتاة))، وعلى الحرية ثانيا (( حرة ))، ولاشك في أن صورة القصيدة لا تخرج كثيرا عن طابع الأنوثة وصفة الحرية، ويفضي النداء إلى إقرار الراوي الشعري بالتجريب (( أجرب )) في إطار المعطى القولي الذي تمنحه الفتاة الحرة (( ما تقولين )) .
   إلا أن فاعلية التجريب ما تلبث أن تصطدم بمعيق إشكالي يضعها في فضاء من الالتباس والغموض (( الضباب / يشوّش / المرآة ))، وهذا التشويش يمنع حرية التواصل والتفاهم والتنسيق مع ما يمكن أن تعكسه المرآة من مصورات ـ ذاتية وموضوعية ـ، على النحو الذي تنقل المستوى الواقعي من المشاهدة إلى المستوى الذهني .
   لأن الفاعلية الشعرية هي أساساً فاعلية تشويش تمنع المرآة من عكس المصورات الواقعية كما هي أمامها، حيث تسمح للذهن التصويري بإعادة إنتاج المصورات الواقعية على نحو آخر مخالف ومغاير لحدودها الفوتوغرافية، وتتمظهر فيه بأشكال أخرى وفضاء آخر ودلالات أخرى وسياقات بصرية أخرى، يتراءى تباينها وعدولها عن مرجعياتها باستنتاج الراوي الشعري (( لا الأشجار تبدو في البعيد كما هي الأشجار نعرفها / ولا تلك البناية )) .
   يقوده هذا الاستنتاج إلى اكتشاف جديد قادر على احتواء هذه المخالفة والمغايرة والانزياح الذي خضعت له الدوال بتركيبها اللفظي وإنتاجها الدلالي (( إن لي عينين واسعتين أيضاً ))، على النحو الذي يضع الأشياء في نصابها ويجعلها قادرة على التجريب والمغامرة في دخول هذا المعترك ، ومهيأة لقيادة دفّة القول وإنتاج الكلام .
   إلا إن الراوي الشعري يستدرك مثالية البناء والتشكّل الذي بلغته المكونات وينقل المشهد مرة أخرى إلى فضاء الحيرة والترقب والالتباس والإثارة (( غير أن الزرّ مفقود ، في اللحظة الصمّاء هذي ))، ليعيد الإشكالية بتفاصيلها المتداخلة إلى المربع الأول ويؤكد صعوبة المغامرة وتعقيد فاعلية التجريب، ومن ثم عناء فكرة الإبداع في التوصل إلى إنجاز الفن الشعري . 
   وأمام هذه اللحظة الغائمة المواربة التي تحيل دون استمرارية التواصل في مقاربة الفكرة ومحاورتها ومساءلتها، ينتقل الخطاب مرة أخرى إلى فاصل نقطي ثلاثي يستحدث فسحة تأمل أخرى يتوقف فيها التجريب ويستكين إيقاعه، من أجل مزيد من حشد القوى لاستكمال مشروع البناء :

...................
...................
...................
  وفي لحظة مباغتة وخاطفة تتكشف الحجب وينفتح فضاء آخر أمام بصر الراوي الشعري وذهنه لإتمام الفكرة، وإقفال المشهد على حرارة إنتاج إبداعي يستقيم مع عتبة العنوان ويستجيب لها :

يا فتاةً حرّةً
من لي بعيينكِ ؟
التفكّرُ سوف يدخلُ
سوف يقتلني ،
وداعاً ...

   فما بين تمني واستدعاء عيني الفتاة / الحرة / ( القصيدة ) بمعناها الواقعي الساخن والحساس المرتبط بحرارة الحياة ودفقها وخصبها ومرونتها وعمق دلالاتها وكثافة معانيها، وانهمار التفكّر التأملي الحالم إلى ميدان الفعل الشعري والتدخّل في مواضعه وطبقاته، يدعو الراوي الشعري إلى معادلة ثرية تتوازن فيها المكونات والأشياء من أجل خلق شعري أنموذجي .
   لأن الابتعاد عن روح الحياة وجدواها بكل ما تنطوي عليه من خبرة وكثافة ونشاط خلاّق يذهب بالقصيدة إلى شاطىء الموت (( سوف يقتلني ))، ويقلل من فرص نجاحها الفني والتقاني والشعري، ويدفع بالراوي الشعري إلى الهرب وإقفال المشهد إقفالا حميما وغاضبا ((وداعا )) ملؤه الحيرة والخيبة والإخفاق ، لكنه مع ذلك مفتوح سيميائيا على احتمال قادم أبدا.