خماسية الروح» لسعدي يوسف.. إعادة تشكيل الفضاء الفلسفي شعريّاً طباعة

* سلطان الزغول
 
Image هذه محاولة لقراءة قصيدة سعدي يوسف "خماسية الروح" من ديوانه "قصائد أقل صمتا"، تعمد إلى ربط المعنى بالتشكيل اللغوي والصوتي، ولا تدعي أنها تفسر الحقيقة أو تقود إليها، بل هي تقدم ولوجا خاصا إلى عالم القصيدة، تأمل أن يرقى إلى مستواها، وأن يثير أسئلتها.

عناصر العالم أربعة عند الفلاسفة، هي الماء والهواء والنار والتراب، يعيد سعدي يوسف تشكيلها لتصبح: التراب فالهواء (شقيق البحر) فالحجر فالشجر فالنار. ليتحوّل الماء (أصل العالم في التراث الديني والفلسفي) إلى مجرد تابع لا يُذكر صراحة بل يُتَذكَّر عرضا بذكر البحر شقيق الهواء، وليغدو الحجر الذي لا يُلتفت إليه عادة،حيا مؤثرا، وليصبح الشجر أساسا وأصلا، إنه الماضي الحبيب والقديم الممتدّ. هكذا يعيد الشاعر تقسيم الأشياء كما يحسّها، يلتفت إلى المهمل والمُقصى. هكذا يحتفي بالتراب وشجره وحجره، ولا ينسى الهواء الذي يمدّ الروح بعناصر الواقع، وهو الوسيط النزيه الذي لا يزيف ولا يزين روائح هذا الواقع، كما لا ينسى النار المتسرّبة إلى الروح من بين أصابع الشعر الخالد.

يسطر الشاعر مداخل قصيدته الخمسة ما يوحي بالحكمة الجاهزة، لكنه ينفذ من خلالها إلى ذكرياته الحميمة، إنّ هذه المداخل حجته للتغلغل في جسد الذكرى، وفي حين تبدو المداخل للوهلة الأولى منبتّة، فإنها في الحقيقة علامات يفسّرها ما يليها في كل مقطع.
إذا قرأنا المدخل الأول تراءى لنا تعبير الشاعر عن علاقة الروح بالجسد الترابي، وكيف تشعله وتتوهّج فيه إلى درجة الاحتراق، عبر صورة غنية تقوم على الراوي مؤثِّرا (عالجت)، ومتأثرا (احترقت):
"يوم عالجتها بالترابْ
-هذه الروح- قال التراب:
بالضياء احترقتُ".
ورغم أن الدلالة النحوية المباشرة تفتقر إلى إيضاح الصورة كاملة؛ حيث يظهر الراوي في الحالتين فاعلا، فإن الفعل "احترق" يمارس مع التاء دورا إيحائيا بأن الاحتراق لم يكن سلبيا، بل هو سبيل الحياة.
إن العلاقة بين الروح والجسد الترابي، والتي يبدأ بها المقطع، ماثلة في التراث الفلسفي، ولا نلحظ أنّ الشاعر يقدم فيها جديدا، لكنه ينفذ من خلال هذا المدخل للتعبير عن علاقته هو بالتراب: التراب طريقا للسفر، وأداة لعب، ومكان زرع ومكان موت، ومكان راحة جميلا، ومموّها بالعابرين، ومتعِبا إذ يقوده دفاعه عن أصالته إلى متاعب السياسة. ثم يخلص إلى ضياع الهدف والحيرة التي تلبسه مع زيادة الضغط، وتشتت السبل.
كما أنّ التاء المفتوحة في "احترقت" ختمت مدخل القصيدة، ليسرّب الشاعر -بما يشبه القافية- التاء المربوطة خلال جزء القصيدة الترابي هذا، في قوله: "القاتلة" و"الحائلة" في وقفتين وحيدتين بعد المدخل، يمتدّ النفَس قبلهما لاهثا باتجاه هذه التاء المربوطة المسكّنة، التي ترسم في الذهن صورة وقوف إلى درجة الجمود، يدفع القارئ إلى الركون والتفكر في دلالة هذا التوقف بعد دوران السطور السريع في ذهنه باتجاه هذه الوقفة التائية التي جعلت التاء هاء، وكأنها ارتداد ونكوص الشاعر بعد جريان الأحلام إلى ما يشبه عقم أفعال الإنسان ولا جدواها. وهو ما يعود بنا إلى أن التراب –رغم احتراقه إذ لامسته الروح النورانية- قد جعلها مادة لليأس والشعور بالخيبة، بعد أن كانت سابحة في النور والضياء والتوهج، لا تتصور هزيمة ولا نكوصا عن الامتداد بحرية في ضيائها ونورها وتوهجها المتجدد.
يمكن القول تبعا لما تقدم إن الروح الحارقة ارتبطت بالجسد الترابي، فخفَّت حدة نورها. وكذلك أحلام الشاعر المتوثبة التي ارتبطت دوما بالتراب –بأصالته وأرضيته وواقعيته- بدأت تنكمش بعد سنوات من لا جدوى النضال. ويتبين لنا كيف بثّ الشاعر الحياة في هذه الفكرة الفلسفية الجامدة، وكيف استفاد منها للتعبير عن خيباته وذكرياته، عن علاقته بالتراب الحقيقي، لم تعد علاقة التراب بالروح فكرة فلسفية في كتاب مغبر، لقد غدت شيئا ملموسا عبر القصيدة التي بثت الحياة في تجردها، وأعطتها إشارة الدخول إلى الواقع.
فإذا ما ألقينا نظرة على لغة الشاعر وجدناه يعمد إلى المتقابلات لبناء المقطع:
"البذرة الأمّ/الدرَنةَ القاتلةْ
بالأظافير يجتثّه/بالأكفّ الرقيقات يحثوهُ..
هذا التراب الجميل/يقتادُه للمتاعب".
ما يسهم في جلاء الرؤية، ويعطي للفكرة التي يطرحها عمقها. إنّنا أمام بانٍ ماهر يشكل لوحة مبهرة، وسرّ إبهارها في خطوطها المتقابلة التي يزيد كل منها قبيله وضوحا واتساقا. فإذا ما وصلنا آخر المقطع وجدنا الإنسان ملخصا في كلمات محدودات؛ لاعبا لاهيا، فمضيعا طريقه، فخائفا وهو يواجه مصيره المحتوم:
"دارت به السنواتُ: التراب المبعثر بين أصابعه،
والسبيل المبعثرُ،
والنظرة الحائلة".
كما تقدم كلمة بسيطة هي "المبعثر" إيحاءين متناقضين تناقضا صارخا؛ فكم بين البعثرة في اللهو، وبعثرة السبل من فروق شاسعة؟ إنها لغة طازجة تصنع روحها الخاصة المتميزة دون بهرجات طاغية، أو صور فاقعة، بل عبر ألفاظ بسيطة تكتسب عبر سياقها غنى وكثافة فريدة في المعنى.
فإذا انتقلنا إلى المقطع الثاني من القصيدة، الذي يفتتحه مدخل هوائيّ هذه المرة، وجدنا الروح إذ لامست الهواء قد منعته الهبوب:
"حين عالجتها بالهواءْ
-هذه الروح- قال الهواء:
يومَها، ما هببتُ".
والهواء هنا يرتبط بالبحر، لكنه ليس الريح التي اعتمد عليها عبر التاريخ في ركوب البحر، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل إنّ ألفته بالبحر أعمق تصل إلى درجة الاندماج، فهو يتشرّب روائح البحر قبل أن يهبّ إلى الشاطئ، فيمسّ بها الناس، ثم يضيف إليه روائح البشر، قبل أن يعود ليتسرّب بين القواقع، مشكلا حميميّته التي يمسّ بها وجه الماء فيزهر فقاقيع تميّز البحر وتعطيه خصوصيته. إنّ الروح تلامس الهواء في البحر وليس في مكان آخر، فيتوقف الهواء، وتتجمد كل الروائح الأليفة، فيتساءل الشاعر:
"من يملأ الرئة اليوم؟
- إني أحشرج بين الرفوف التي سكنتها الرواسب، والفيضانات..-".
ترى هل يملأها "الهواءُ الذي جاء من نينوى"، أم يملأها: "الهواءُ الذي ظلّ قنينةً..."، أم أنّ: "الهواء – الهواء" هو الذي سيعبئ هذه الرئة ويساعدها على الحياة؟.
ينطلق هذا التساؤل من توقف الهواء الذي أشار إليه المدخل، إنه موقف الحيرة الذي صنعته الروح إذ لامست الهواء الذي كان ماضيا في حياة ذات لون ورائحة تتكرر، لا تقدم جديدا، إنها أشبه بحياة لا حياة فيها، أو هي حياة في الموت. لكن التساؤل يدخل في إشارات أشمل؛ فالشاعر –أو الإنسان العربي اليوم- أمام خيارات ينبني عليها مصيره في هذا العالم: إما أن يتنفّس "هواء نينوى" ويبقى يعيش على أمجاد الماضي، وإما أن يأخذ من "هواء القنينة" ويرضى بما يعطونه من هذا الهواء الذي يصرف بحساب معلوم، وحسب مشيئة السلطة القاهرة، أو أن يتمرّد وينطلق باحثا عن "الهواء الهواء".
لقد خرج الشاعر بالروح من دلالاتها المطلقة ليعبّر عن حال الإنسان المقموع، أما البحر الذي يجلوه باحثا عن هواء نقيّ يتنفّسه بحرية، فقد غدا الوطن بما فيه من رواسب وما فيه من فيضانات. أما الرواسب فبعضها يشدّه إلى الخلف، ليبقى في إسار أمجاد بادت واندثرت، ورغم أنها تعطيه عمقه وتميزه إلا أنها لا تكفي وحدها لاستمراره حيا في هذا العالم، وبعضها يشدّه أفقيا ليعيش في رداء الزعيم الأوحد. وأما الفيضانات فتمضي به إلى الأمام، ولعله يصل إلى الهواء.
يعمد الشاعر إلى الصور الصادمة والألفاظ الثقيلة، التي تضفي على هذا المقطع خصوصيتها، فما إن نحاول التخلّص من روائح اليود والسمك المتعفن والثوم الصادمة حتى تركب أسماعنا ألفاظ مثل "القواقع" و"فقّاعة" التي تشيع ثقلها فينا، وتجعلنا نلمس اضطراب الشاعر ومحاولته التعبير عن جوّ مشحون بالترقب، ثقيل على نفسه، إنه على مفترق مصيري إما أن يتمكن من التنفس وإما أن ينخنق بهذه الروائح، وهذا الثقل الذي يكتم أنفاسه ويعيق تقدمه.
في المقطع الثالث تصبح ملامسة الروح للحجر طريق نهاية هذا الحجر:
"يوم عالجتُها بالحجرْ
-هذه الروح- قال الحجر:
هل أكون انتهيتُ؟".
كان الحجر سيدا، بل إلها، والروح هنا لا تتفاعل معه بل تسحقه وتقضي عليه لتبني عالما جديدا خاليا من الأصنام التي ملأت الكون منذ أن بدأ الإنسان فيه. رغم تاريخ الحجر الزاهي الطويل، ومكانته التي لم ينازع عليها تتأكد للشاعر مواجهة محتومة بين الإنسان الناهض والحجر الجامد، إنها مواجهة في سبيل أن تبدأ حياة خالية من الأحجار.
ينسال إيقاع الكلمات في هذا المقطع ويتدفق دون اضطراب، كأنما هو تعبير عن إيمان الشاعر المطلق بنهاية عصر الحجر. ففي حين كنا نحسّ اضطرابه عبر المقطع السابق وهو يركّب كلمات ثقيلة منفّرة، نراه يسيّل –في هذا المقطع- كلمات أخفّ على السمع، وأرشق في حركتها على الأذن.
كما يكثر الشاعر من استخدام الاستفهام لتأكيد وجهة نظره، سواء للهروب من التقرير المباشر: "هل أكون انتهيتُ؟"، تعبيرا عن الانتهاء، أو للتكثير: "أيّ زمانٍ قطعْنا معاً! أيّ أرض حللنا! وأيُّ مواطنَ لم تنفتح وطناً!"، تعبيرا عن طول الاغتراب وتعدّد الأماكن التي لم تصلح بديلا عن الوطن، وحتى لإظهار إصراره ونفي إمكانية تراجعه: "هل أنثني؟". مما يضفي على المقطع حيوية ونموا دراميا متصاعدا، بدأ يظهر منذ مدخل المقطع الأول، لكنه يتجلى في هذا المقطع برشاقة عبر زحام الاستفهام والتعجب، وهو يلخص تاريخ الحجر منذ كان معبودا حقيقيا، مرورا بكونه رمزا لمعبودات بشرية، حتى أصبح رمزا للإله الآلة أو الآلة الإله.
أمّا في المقطع الرابع فإنّ الروح تلامس الشجر فيحترق كما احترق التراب بالحياة:
"يوم عالجتُها بالشجرْ
-هذه الروح- قال الشجر:
كالتراب احترقتُ".
لكن احتراق الشجر يدفع الشاعر إلى عالم الطفولة، في محاولة لمنع احتراق ذكرياته، وهو دفع معبّأ بالحنين والرقة، يبدأ بنداء ملحّ:
"شجراتِ الطفولةِ، يا شجرات الطفولة، يا شجرات الطفولةْ".
وينتهي بنداء محدِّد مؤكِّد:
"أنت يا شجراتِ الطفولةْ".
وخلال ذلك يستمرّ باستخدام حروف المدّ التي تضفي على الكلمات إيحاءات النداء الذي يحاول استدعاء الذكرى مرة تلو مرة، والتي تلحّ على بقاء الكلمات حيّة في قلب اللفظ أطول مدّة ممكنة: (واضحين، الحنين، الجبين، الغصون، العيون، أبكي)، لعل الشاعر يطيل الذكرى ما وسعته الإطالة، فإذا شعر أنّ طول المدة التي منحها المدّ للّفظ ليس كافيا لجأ إلى التكرار في إلحاح واضح على حياة الذكرى في وجدانه.
ولعل التكرار يمنح الألفاظ حياة جديدة قبل أن تمارس حياتها الأخرى على الورق، وهي حياة تختلف بين قارئ وآخر. ولا يقتصر التكرار على إعادة جمل النداء، والإلحاح على هذه الإعادة، بل نرى كلمات بعينها تأخذ مكانها في المقطع، وتشعرنا بعلاقتها العضوية بذكريات الشاعر وطفولته، في حين أنه يمكننا حذفها دون أن يؤثر ذلك في إيقاع القصيدة الخارجي من حيث الوزن والعروض، لكن علاقتها بإيقاع المشاعر الدافق واضحة جلية. من ذلك الإلحاح على لفظة "مرّة" المجردة في الزمان، فكأنما تجريدها يساعد في دفع الماضي إلى الحياة من جديد، وكذلك الفعل "لنقل" حيث يؤدي ارتباط الفعل المضارع بلام الأمر إلى إشعارنا بقيمة القول، واستخدام المضارع يجسّد حياة هذا القول، وارتباطه بتجريد "مرّة" يلحّ على استمراره وبقائه عالقا في ذهن القائل ثم القارئ.
في ألفاظ الشاعر رقة وعذوبة تتسرب إلى الصور، تميز هذا المقطع وتطبعه بطابعها:
"لنقلْ مرةً إن أبهى الغصونْ
ما اختفى في العيونْ".
ولا حاجة للحديث عن عذوبة ألفاظ هذين السطرين، فإذا اكتمل تركيبهما في أذهاننا خطرت لنا صورة غصن يتشرّبه الشاعر ليعلق في قلبه وعقله، ولا يأتي هذا التشرّب إلا من جهة العين التي تخفي الصورة وتختزنها إذا كانت محببة، وتشيح عنها إذا كانت غير ذلك.
لكن الشاعر يخلص إلى أنّ كلّ محاولاته لحفظ ذكرى طفولته وشجراتها باءت بالفشل رغم امتداد هذه الشجرات، فهذا الامتداد –على ما يبدو- لم يستطع أن يقيه مرارة العمر وخساراته المتواصلة، فاضطرّ إلى مواجهة الأقسى والأمرّ:
"لنقل إننا ما عرفنا الطفولةْ:
أنت يا شجراتِ الطفولةْ
كنتِ ممتدّةً..
وأنا كنتُ أبكي".
لكن الروح في المقطع الخامس الأخير تستريح إذ تختلط بالنار:
"يومَ أطعمتُها نارَه
قالت الروح:
إني استرحت".
والنار التي يقصد هنا منسوبة إلى الروح وليست خارجة عنها، فهي منها ولها، وإذا كانت قد فارقتها فخبت الروح وقتا فليس معنى هذا أنها فقدت التوهج إلى الأبد. إن الشاعر يصورها وثّابة متألقة:
"طلْقة هذه الروحُ.
مجنونة..".
وهي تشتري العذاب والآلام بسبب من الوعي والانفتاح على كل الجهات والأفكار؛ فهي تجمع "رامبو" الغرب ببشار الشرق دون تعصّب أو انغلاق، ولا تحدها حدود، معبّأة بتاريخ زاخر يبدأ منذ بدأ الإنسان يسطر مدنيّته على الأرض، لم تحطها الممالك ولم تخضع لسلطات القهر، تتنسّم من بابل شعلة، ومن التراث العربي شعلة، ومن تراث التضحية عند كل المظلومين شعلة، ومن القادم المنتظر شعلة ما زالت تتكون.
ويختم القصيدة بأن يصف الروح:
"كالريح تعوي وتذوي
وكالريح تذوي فتعوي
وكالريح تعوي...وووووووووي...".
فهي بعد صراخ وظهور تنام، وما إن تملّ نومها حتى تصرخ ثانية وتحاول التوهج.
في هذا المقطع توهّج في اللغة يتناسب مع توهج المشاعر؛ فالروح طلقة، ومجنونة، تَأخذ من شحنات البنادق، وتُأخذ بارتعاشات الموت، وهي قد أودعت نيران جنّ يغنون، ونار مجمرة الحرب والتضحيات. كما أنّ لفظة "طلقة" -التي يربطها الشاعر بالروح، والتي توحي بالاستبشار والانطلاق والسرعة- تسم المقطع عبر تكرارها التأكيدي، وتمارس مع الألفاظ المتوهجة المشار إليها دلالات التمرد والاشتعال والتوهج التي يطلبها الشاعر في هذا المقطع المعنيّ أساسا بإشعال اللغة لتتناسب مع احتراق الروح الذي يعطيها ولادة جديدة بعد أن ذوت لتصرخ من جديد بالحياة.
ثم يجعل الشاعر ختام المقطع، ختام القصيدة، تلخيصا لتاريخ الروح التي يشبهها بالريح، من حيث الهبوب القوي الذي يليه انحسار فهبوب آخر، ثم يبثّ الحياة في هذا الهبوب عبر الفعل المضارع "تعوي"، الذي يحيل إلى صورة تراثية يقف فيها الذئب في ليل الصحراء خائفا جائعا يطلب الحياة، ويعبّر عن ذلك بصوت وجل حزين مؤثر ومرعب في الوقت عينه. كما أنه يبثّ الذبول في الانحسار الذي يوحي بالموت عبر الفعل الآخر "تذوي"، الذي يحيل هو أيضا إلى الشجر الذي يكاد يموت قبل الشتاء، ثم يعود إلى الحياة ما إن يمسّه ماؤها.
إننا أمام حضارة تعوي ثم تذوي، وهي إذ تذوي تعود لتعوي وتعوي حتى تصل إلى الحياة. ويمارس الفعلان المضارعان (تعوي وتذوي) ها هنا دورهما الصوتيّ الممتدّ، إضافة إلى الدلالات اللغوية التي أشرنا إليها، عبر تتابع حرفين قويين متتابعين من حروف المدّ، يضفيان إلى الصورة توهجا خاصا يلحّ عليه الشاعر بتكريرهما في نهاية المشهد، موحيا بلانهائية هذا التكرار الممتدّ في الزمن والمعبر عن سنّة في الكون، لكن الفعل "تعوي" هو الذي ينزل الستار على صورة المشهد محاولا أن يدفع بالأمل إلى الواجهة.

الراي الثقافي الأردن
العدد 14474 الجمعة ٢٨ أيار ٢٠١٠
 
من ملحق الراي الثقافي

Image

اخر تحديث الأربعاء, 16 يونيو/حزيران 2010 07:38