سعدي يوسف : مشّاء المدن المستحيلة طباعة

Image «أنا الآن مدوّن حياة، ولستُ شاعراً». هكذا يختصر الأخضر بن يوسف مرحلته الأخيرة التي تمخّضت عن أربعة إصدارات جديدة عن «دار التكوين» الدمشقيّة. شاعر الفوضى والعزلة والترحال، يواصل التحديق إلى الموجودات من دون مواربة، ويرصد شعريّة اليومي والشفوي بأقل قدر من المجاز... داعياً إلى ثقافة وطنيّة مقاومة
دمشق ـــ خليل صويلح
كانت الشام على موعد مع سعدي يوسف (1934). الشاعر العراقي الكبير كان سيأتي لتوقيع أربعة كتب جديدة له، أصدرتها «دار التكوين» الدمشقية، بعدما أعلن القطيعة المطلقة مع خالد المعالي و«دار الجمل». اضطراب الطيران بسبب الغيمة البركانية ألغى الموعد فجأة، فكان علينا أن نكتفي بالوليمة من دون صاحبها. سعدي صنع الحدث في دمشق غيابياً. الأخضر بن يوسف، أم الشيوعي الأخير، أم الشاعر المشّاء؟ كل هذه الأسماء والعناوين بورتريهات لهذا الشاعر الجوّال تواجهنا دفعة واحدة، خلال تلمّس مفاصل تلك التجربة الاستثنائية التي أدخلت القصيدة العربية إلى مختبر بلاغي مختلف، يعمل على تأصيل اليومي والشفوي بأقل قدر من المجاز.

ذلك أنّ «حفيد امرئ القيس» يربك قارئه ببداهة مفرطة في بناء قصيدته، كأنّها من الطين المشوي وسعف النخيل، تفيء بظلالها، من دون زخرفة. ما يبدو مجرد تدوين يوميات ومشاهدات واستذكارات، هو في الواقع نتاج خبرة واشتغالات لغوية، نأت عمّا خارجها، وإذا بها تشير إلى صاحبها من دون تلكّؤ. علينا أن ندرك أن سعدي يوسف قد أحدث انعطافة جذرية في تجربته الشعرية منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، لجهة النبرة الخفيضة وتشذيب الجملة الشعرية من الهتاف والضجيج اللفظي، والالتفات إلى أهمية المعيش. ربما بتأثير من اطّلاعه عن كثب على أعمال ريتسوس، وكافافي، وويتمان، وأونغاريتي، الأعمال التي ترجمها إلى العربية بمذاقه الإيقاعي أولاً، ثم راح يحفر مجراه تدريجاً لتشف قصيدته إلى حدود المشافهة، والتحديق إلى الموجودات من دون مواربة.
في ديوانه الجديد «قصائد الخطوة السابعة» الذي يفتتح به المجلد السابع من أعماله، يتنزّه سعدي يوسف على هواه، في تجوال طليق، فيسجّل مشاهداته في مدن نائية، وساحات، وشوارع، وحانات، ومراكب، وجبال، كأنه لا يريد أن يقول أبعد من هذا الوصف العادي. لكنّ جملةً خاطفة، ستغيّر مجرى السرد، وتشحنه بكثافة غير مرئية، تتشكل على مهل، وغبطة شخصية في اختبار حياة أخرى، لم تكن متاحة. حياة رعوية متفلّتة من القوانين، لا تتشبّث بمكان، وإن كانت تستدعي مكاناً غائباً، بإشارات صريحة إلى «وطن لم يعد قائماً». يقول: «ترحّلتُ حتى ما عادَ من مُرتحلٍ». لعل هذه الجملة تختصر آلام الشاعر المنفي وارتباكاته ومكابداته في تدوين الغياب. وسنعثر على نبرة هجائية أكثر وضوحاً في الديوان الثاني «الشيوعي الأخير فقط» في تأكيد موقفه المضاد من الاحتلال الأميركي للعراق. فهو لا يتوانى عن استعمال خطاب ثوري، وعبارات مباشرة مثل «تعيش بغداد»، و«الرايات الحمر»، و«بدلة العامل الزرقاء». عبارات ناتئة طالما عبرت في معجم صاحب «تحت جدارية فائق حسن»، لكنّها على الأرجح باتت أكثر حضوراً، على الأرجح بعد صدمة الاحتلال، وتواطؤ رفاق الأمس، ونأي الوطن أكثر فأكثر. كان سعدي قد كتب مجموعة مقالات غاضبة في الفترة عينها، وها هو يجمعها في كتاب يحمل عنوان «مقالات غير عابرة»، في مسعى إلى تأريخ سخطه على الاحتلال، وفضح ما حدث ويحدث في بلاده من انتهاكات، داعياً إلى ثقافة وطنية مقاومة، لا إلى «قحاب وقوّادين وجوائز».
في مقالاته الأخرى، يسجّل صاحب «بعيداً عن السماء الأولى» انطباعاته عن مدن وأشخاص في بورتريهات حميمة، تمتد من لندن وباريس إلى برلين والرباط وكاراكاس، وانتهاءً بالصين. ويستعيد الصورة الأخيرة لمحمود درويش، وسركون بولص، وكامل شياع، وآخرين، إضافة إلى مقابلة معه تضيء جوانب من مشغله الشعري: «أظنني في مسيرتي الطويلة استطعت أن أروّض حواسي، على أن تكون أكثر إرهافاً. أثق بارتطام الحاسّة» يقول. ويلفت إلى أنّ قصيدته هي نتاج الفوضى المحتدمة، والعزلة القسرية، والترحال: «منحني الترحال سعادة المستكشف، وخفّة جوّاب الآفاق».
صاحب تجربة استثنائية أدخلت القصيدة العربية إلى مختبر بلاغي مختلف
وإذا به يقف في جغرافيا متحوّلة، هي في نسختها الأخيرة «لا وطن ولا منفى». ويلفت إلى اشتغاله المضني على إعادة الشعر إلى مادته الخام، والاعتناء بالملموسات واستنفار الحواس، «أنا الآن مدوّن حياة، ولستُ شاعراً». بهذا المعنى، فإنّ سعدي يوسف ينسف عامداً صورة الشاعر النبي، ليضع القصيدة في مرمى شباك الحياة مباشرة، بأقصى حالات الارتطام، وبأقل ما يمكن من الإغواء البلاغي، والعناية بما هو راهن وفوريّ «ليس لي من حياةٍ فعلية خارج الشعر. الشعر خبزي اليومي» يقول.
يكتب سعدي بغزارة، إذ نقع على قصيدة أو أكثر مؤرخة في يومٍ واحد... وقد لا نتوقف طويلاً عند بعض هذه القصائد لصعوبة الإمساك بجوهر شعريتها، أو مغزاها، لفرط عاديتها واستعماليتها، على رغم إلحاحه على تأصيل «بداءة اللغة» ووضعها في مهب الحدس وحده.
نتوقف أخيراً عند «الداما بادا» في ترجمة أنجزها الشاعر لكتاب بوذا المقدس، وهي سجل لأقوال بوذا (563 ـــــ 483 قبل الميلاد)، التي يسميها سعدي يوسف «قرآن بوذا». ويقسّم الكتاب إلى سور وآيات، تعبّر عن جوهر الديانة البوذية التي تتلمّس العدالة، والطاعة، والعقاب، والطريق إلى الحقيقة، وهي مكتوبة على طريقة الهايكو «لا نار كالشهوة/ لا سوء حظ كالكره/ لا ألم مثل هذا الجسد/ لا فرح أسمى من السلام».

اخر تحديث الثلاثاء, 08 يونيو/حزيران 2010 14:07