'أسير مع الجميع وخطوتي وحدي' طباعة
حسين سليمان

لن يتوقف سعدي يوسف عن القصيد ولن تخف نبرته الشعرية الموجزة الزخمة والتي تعلن بالخفاء مقاومة لا نهائية لمقولة ' أن الشعر قد مات'.
خبرته الشعرية جاءت من الطفولة أو الدهشة التي تعول على حكمة عميقة رافدها الموهبة الأصيلة. ولا أظن أن شاعرا عربيا قد ' بنى الصورة الشعرية كما بناها وأقامها سعدي يوسف'، وربما كانت إشارتي هنا محسوبة على التسرع أو الانبهار، ولكنني احتفظت بها لزمن عالجتها وقلبت مواضعها ولم تتغير، كفيل بمرور الزمن أن ينتهي الانبهار، وهو ما لم يحدث لدى المراجعة المستمرة لقصائد الشاعر العراقي، والذي يؤلمني إهماله أو الصدود الذي يلقاه من البعض، أحيانا، والذي يعكس بذلك الواقعَ المتخلف والأنا المتضخمة لا ترى الحق من الباطل. وأي حق وأي باطل في عالم الفن؟! فما عنيته ليس بالحق المستدل عليه بمحاكماتٍ لا تمت إلى الفن، بل الحق حين يغذى بالمشاعر التي لا يمدها ولا يجذبها المصير الذي يربطنا بشخص سعدي يوسف.
 
من موقع الشاعر في الفيس بوك (*) اخترت هذا المقطع لقراءته والبحث فيه:
' قارب، ثلثاه على اليابسة
ظل ينضح،
والبحر منكمش
لائذ بكثافته من حبال المطر..
قارب لن يقوم، ... ليبدأ عند السحر
رحلة الصيد
مثلي'
تتشكل في دفقات الخيال سُـكنة ُ العراق التي استنبتت جذورها من عالم غير مستقر، بعث التشتت في بنيانه إلى الهجرة التي اتخذت من مضامين اليتم والفقدان عاملها الحيوي في الاستمرار والتوسع، والإنسان الفنان بحد ذاته - على العموم هناك اغتراب شامل وسم الإنسان المعاصر وهو يعلم استحالة الخلود وانعدام القيمة لجريه اللاهث والذي في الجوهر والعمق يسبغ له قيمة عمل زائل - الفنان في ترحال مستمر لا يهدأ حتى تنتهي نار الفن، إذ لا تكون إلا عبئا زائدا، وقلقا قد هجر الخطو الذي يخطو على منواله العالم. والعراق المستنبت في داخل إنسانه والذي هو أكبر من عراق وأجدى من أرض ونخيل، لأقوى بأضعاف من الأراضي التي تبدو على أنها أنهر وأهوار وبرار .. وهذا ما تشير إليه قصائد الشعراء العراقيين وقصائد سعدي يوسف بالخصوص.
' قارب ثلثاه على اليابسة ظل ينضح' وبالسؤال عن صيغة الزمن في هذا المقطع، إلى متى سيظل القارب ينضح؟ الزمن يبدأ حين رأت عين الشاعر القارب ملقى على الشاطئ، وليس الشاطئ لنهر بل هو لبحر، لكن عادة الأبحر أن تجمع قواربها وسفنها إلى مرافئ وليس إلى يابسة! سنرى هنا أن البحر الذي تطالعنا به الصورة الشعرية ليس سوى نهر وقد تحول في معامل التخييل إلى بحر ذلك كي يقوم في القصيدة بفعل الاحتواء الكلي الحيوي، وحتى تجتمع فيه الوسعة والشمول والتعددية. ولو قال ' النهر منكمش' لانطفأت القصيدة ولفقد العمل المكانة الشعرية التي يهبها البحر. ولم يكن القارب ملقى على اليابسة، لم يكن هناك من ألقاه وابتعد، فعل الإلقاء هنا فعل كائن الجماد - الوجود المزروع بالفعل الطبيعي الصامت - مثل شجر البراري - الذي وجد ويوجد قبل حضور الشاعر، بمعنى أن القارب هو قارب طبيعة صامتة كمثل أرض أو نهر لم يلقه أحد في مجراه. وهنا يتضح المعنى المستمر من زمن- ينضح. ليس زمن فعل له بداية ونهاية بل هو زمن حيوي يتداخل مع المظهر الطبيعي الصامت لوجود القارب على اليابسة وهذا ما يجعل لحادثة القصيدة أن تنحو النحو الإنساني وتشير إليه بطبيعتها المجازية غير المباشرة.
ومع أن ثلثي القارب على اليابسة وثلثه الآخر في الماء، إلا أنه ظل ينضح - كله - بمعنى أن الرشح طال أيضا القسم الذي على اليابسة. وحادثة الرشح جاءت كما يقول المقطع من حبال المطر التي يلوذ منها البحر بكثافته. فهو قارب غير متين - مخروق ـ قديم ـ مهلهل - مصاب.
والمطر لا يؤثر بالبحر بعد أن لاذ منه بكثافته، أو أن التأثير هو تأثير مؤقت وعابر، أما القارب العاري فينزع مع فعل النضح المستمر- إذ يمنح أحدهما الوجود للآخر- نضح مستمر لا ينتهي حتى لو توقفت حبال المطر- إلى صورة وحيدة مترابطة، من ترابطهما معا يبزغ وجه جديد للصورة الشعرية وهي خفية ولا تلحظها العين المباشرة محمولة على اللغز الذي بسببه يلوذ البحر بكثافته.
والقارب مفتوح والبحر مغلق- وزمن الصورة هو زمن ليلي جاء من ترافق عوامل ثلاثة ' السحر- حبال المطر - انكماش وكثافة البحر' ومن هنا يتم تقدير الصورة على أنها ليست صورة للوحة فنية رآها الشاعر معلقة إلى جدار بل هي لوحة تم رسمها في الأعماق رسما مفاجئا غير محسوب مدفوعة بالطاقة الغامضة لليل وللنضح وللكثافة. وهي انعكاسات محمولة بطاقة سلبية تشير إلى أنه لا أفق قريباً ولا أمل ثمة أو مخرج.
هناك غرق غير كامل ـ مموه - لكنه ليس في ماء البحر بل في اليابسة. ويشير إلى ذلك انكماش البحر بكثافته والتي حجبته عما يجري، وبالتالي فإن تأثيره على القارب هو تأثير الغائب الهارب. النضوح المستمر هو عامل الغرق إذ لا يأتي من البحر المنكمش بل من حبال المطر والتي تميزت قوتها من ملاحظة وقياس ردود فعل البحر. وبالتأمل نجد أن المطر ليس مطر عواصف بما ستولده من تيارات وأمواج لا تلائم الإنكماش ولا التكتل في كثافة للحماية، وسرعان ما نجد أنها ليست سوى سهام جارحة لاذ عنها البحر بكثافته ولم يبق لها سوى القارب المفتوح الذي ثلثاه - القسم الأعظم منه- على اليابسة. وهناك في القصيدة حضور غير مرئي للشاعر، وهي المفاجأة، كونه سيقوم برحلة الصيد التي لن يستطيع القارب القيام بها، هذا الحضور يتجلى في عملية المقارنة بينه وبين القارب ' ( مثلي) - لن يقوم.. رحلة الصيد/ مثلي' وهو لن ينكمش بكثافته ولن يلوذ من حبال المطر، حضوره عند السحر - يأتي حضوره غير المشار إليه، ليقوم برحلة الصيد بغض النظر إن استمرت حبال المطر أو توقفت، وما مجيء رحلة الصيد والسحر في نهاية البيت الشعري إلا دلالة على نهاية النوء. هذا القارب (الشاعر) ينتظر ومن المحتمل أنه إلى جانب أخيه القارب المصاب يراقب ما يجري ويصف ويعد الساعات حتى يأتي السحر للقيام برحلة الصيد والتي نقرأ فيها التعويض ورد فعل للطاقة السالبة ولليل ولحبال المطر والنضح.
كاتب من سورية يقيم في أمريكا
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته
* http://www.facebook.com/'ref=logo#!/pages/sdy-ywsf/332069275436'ref=ts