المكان عند سعدي يوسف يبدأ من التناهي إلي الصمت قصائد تغور في لذة الحرمان طباعة

علاء هاشم مناف
في قصائد الحديقة العامة لسعدي يوسف تتشكل فاعلية سيكولوجية للصورة الشعرية ، حيث يبرز النمو الداخلي للصورة باتجاه درجة بالكثافة، والإضاءة للومضة ، وسعدي يوسف في هذه القصائد يتحرك وفق البنية المتشابكة في آثارها الكلية ثم ينفتح علي بؤر الذكريات والحدود القصوي للمكان ليضيء أبعادها، وفي الوقت نفسه يقوم برفض حدود السياقات الدلالية داخل بنوية هذه القصائد ويستعير أهميتها من النسق الموصل إلي المعني والمتواصل مع الصيرورة الشعرية كونها عنصراً دلالياً ويرفض في الوقت نفسه التصور كون الصور الشعرية تقوم بتحقيق فاعليات دلالية علي مستوي المعني، وعنده الصورة الشعرية هي أداة التوصيل للمعني، والدور النسقي الذي قام به سعدي يوسف في هذه القصائد، هو التوصيل الحكائي المباشر ولكن بضوابط إيمائية غير مباشرة.

من هنا كان سعدي في قصائد الحديقة العامة يتفاعل علي المستوي الدلالي كون الصورة الشعرية هي التي تقوم بعملية التفعيل في هذه القصائد وفي أداء دورها عن طريق إحداث المعني ذي البعد الواحد ومهمتها هو كشف الترابط بين المحور السيكولوجي ، والمحور الدلالي ولتصبح الصورة الشعرية، هي الكشف عن الأنساق المتركبّة سيكولوجياً ودلالياً.

مَنْزهُ الأنهار الثلاثةِ
The Three Rivers park

أشرعةًٌ بيضُ /بجعٌ ابيضُ /غيماتُ خريف بيض.../ ثمّتَ ما يجعلُ جلدي مرتجفاً /أ هوَ المشهدُ في لون براءتهِ؟/أمْ هوَ ما أستمعُ؟/ كان هديرٌ يخترقُ الجِِلْدَ/ أ طائرةٌ /أمْ شاحنةُ ؟ /أمْ هجّة قتلي يقتتلون؟
إن المسانيد الحقبية سيكولوجياً تتصف بالخاصة عند سعدي يوسف، فهو يُصْهر فرضية الذات التصوّرية أمام تلك الحجج المفترضة، ولشخص الإحالات البصرية بالفعل التعريفي في اكثر تلك التواردات الدلالية ، فاللفظ عنده يعتمد التحديد في إجماله للمعّرف ، لقد شخص سعدي يوسف المعني اللفظي المتطابق بعمق الفرضية " أشرعةٌ بيضُ، بجعُ أبيض ، غيماتُ خريفٍ بيض...." هناك افتراض اعتباطي للحدس اللفظي بطبيعته الثنائية " كان هديرٌ يخترقُ الجلدََ، أ طائرةٌ ، أمْ شاحنةٌ ؟ أمْ ضجة قتلي يقتتلونََ؟" هناك إستمرار لفظي يجمع المعايير المختلفة
الشمسُ تُسخّنُ في المرْج مراياها مراياها/ والاشجار/ كانّ ضحي الجنّةِ يفتحُ بوابتهُ.
إن معيار الإضافة يعطينا سمة التفاصيل الكتلية في اللّغة ، رغم الاستعدادات القبلية لذلك المعني الاعتباطي في الجملة الشعرية " الشمسُ تُسخّنُ في المرْج مراياها والاشجار" فالمنعطف الذي يأتي بالصورة الشعرية عبارة عن تفاصيل للاشياء بما هي أشياء كتلية باللّغة رغم الاسترسال في توصيف المعني ، وكان المقطع الشعري كائن حي يسيرُ باتجاه قناة شديدة الإحالة ويسعي سعدي يوسف إلي تحديد ذلك التنوع الأطلاقي للصورة الشعرية.
هل أ دخلُ؟/ نورسُ بحر من عَدَنٍ/ضلَّ ..../وها هو ذا يهبط مرتبكاً/بين البجع الأبيض/ والاشرعةِِ البيض
هناك تفاصيل لأشياء مجردة لها مجس لفظي سيكولوجي ، فالمعني يتعلق بالأشياء المعرّفة بالمكان ، باعتبارها كلا سيكولوجياً محدداً بإسترجاعات تعريفية مرجعها حدود المعني المراد توصيله، والصورة الشعرية تشكلت بالإحالة لأداة التعريف التي تحمل معناها المرجعي" هل أدخلُ؟ نورسُ بحر من عَدَنٍ" وهو الشيء المنطلق من المكان والقابل للتشخيص والتأويل لينتج النفي والانتقال إلي الفعل القبلي من الناحية السيكولوجية المباشرة لأنه تقصّي ذلك الفعل للنورس الذي تحددت تنويعاته الإحالية " بين البجع الأبيض والاشرعة البيض" من هنا تأتي وظيفة التوصيل الدلالية للصورة والمستوي الدلالي لبياض الأشرعة والبجع الأبيض وغيمّات الخريف البيض، فالتقابل للّون الأبيض يأتي من الشيء الذي يتمثل اختلافه في التطابق للّون الأبيض/ العاشقتانِ تحت المظلّة/ ربّما ارتوتا قبل أن تأتيا جنّة النار/ تحت المظلّة/ أو ربمّا سوف ترتويان/ إذا ما تمشّي النبيذُ الفرنسيّ كالبُرْء في الدم/ والخدِّ/والراحتين
إن تشكيل هذه الصورة يشير إلي خاصية في التغاير ، وهي تضمينات تتعلق بالمظلّة وبالارتواء الجمالي والحسي، قد يأتي متناسقاً في حالة الارتواء بالنبيذ الفرنسي ، لأن الارتواء يخبر عن شيء حدث بالمعني الجمالي لهذا المركب وهو يسير "كالبُرْء في الدم " و " الخدَّ، والراحتين ،..." فالصورة في الحالة الأولي، هو وجودهن تحت المظلّة وقد أحستا بالإرتواء، وفي الصورة الثانية بعدما" تمشّي النبيذ" وهو الشعور الذي تضّمن عند الشاعر في مركب اللاوعي ، لأنه أراد أن يقول: أن النبيذ هو السبب في إرتواء العاشقتان ، وهذه الصورة حققت المعني الوجودي للشاعر وهو المستوي السيكولوجي للصورة

الاسترسال المرجعي
المظلّة
أمْ هي تلك المحطة ذات الوصول؟/ سلاماً ...../ أقول لعاشقتين تمرَّغتا في هواء المظلّةِ .....
كان الشاعر سعيد يوسف يركز في قصائد الحديقة العامة علي الخصائص الحسية للاشياء ويستخرج من تلك الأشياء عوالم من الاسترسال المرجعي داخل عمليات تخضع إلي الجوانب التعريفية ، فالحدود التعريفية تضرب جذورها باللاوعي الإمكاني لتشكل ضرباً من الإسترسال ، حدوده الاحتمالات، لأن العاشقتان قد تمرغتا " في هواء المظلّة ...." وهو يصف هذه النهاية بغيوم خريفية/" كانت غيوم خريفية تعْبرُ الأفقََ"/ " والشمسُ دانية"
ويركز الشاعر علي الجانب اللّوني في الورق الأحمر " في المماشي" هذا الوصف هو تعبير عن إنعكاسات علي ذات الشاعر لإبراز الحس الجمالي ليصبح الشعر خلقاً وإعادة صياغة للوجود الإنساني إضافة إلي الخصائص الواقعية التي لا تنفصل عن الواقع الموضوعي ومكونات الحس السيكولوجي الذي يؤشر نقيضه في البعد الموضوعي ، وسعدي يوسف يعيد الصياغات والبؤر السيكولوجية بطراوة وهشاشة تناقض واقع الغربة، وهي تجربة جديدة تحمل إنعكاساتها في البحث عن الأشياء داخل الأمكنة والأزمنة الأوربية المختلفة ، والاسترسال المكاني في شعر سعدي يوسف يكاد يكون هو الطابع الذي يحدد مفهوم التجربة الشعرية في لندن بشكل خاص وهو مفهوم جامع لتلك التعيينات ، وينتقل هذا الاختلاف تلميحا في قصيدة مقام عراقي وبستة/ كان بليلي من شمائل دجلةٍ/ ، والمياه تدورُ تقلّب حال/ وفي/ دجلةٍ من طبْع ليلي أناقة/ ونُضرْةُ وجهٍ مُتْرفِ وسرورُ
والشاعر يضطلع بالاشارة إلي دجلة التي يجمعها الشاعر ليس للذكري فقط بل بالادراك المستمر فينومينولوجياً ، وبغداد ودجلة عند سعدي يوسف كالوجود لأنه يتستحّضر البعد الفكري ي تشكيل المعني ، وهي اشارة إلي جوهر المعني الفلسفي للمكان المقدس بالمعني الفينومينولوجي ، وكان المساق عند سعدي هو الاكتفاء بالتاسيس الانطولوجي للصورة الشعرية وبالتحليل المتعالي لبنية الوعي الذاتي الممتد موضوعياً في مهمة غير متناهية لأنه ينطلق دائماً من الطابع الاستكشافي للحس وأتخاذه مساراً للبنية الزمكانية التي تتمتع بالتجربة الواعية للمكان لأنه الهم
وََصلنا اليومَ، بعد الهّم ، دجلة
: وقال الربْعُ
: ماءُ الهّم دجلة
سيوف الاجنبْي ، دارت عليّهْ
إن القراءة الفعلية للمكان يعطينا مكمن العبارة الفعلية التي تشكلت بالهاجس الإداركي والتعرف علي الإختيارات في تصنيف الأنماط التعريفية للمكان ، فكانت دجلة هي الإكتفاء في الوضوح ولا شيء يمنعه من تمثيل الشيء في معني النهر الكبير الذي أصبح الرمز للمكان في عراق ما بعد الاحتلال ، فكان الشاعر يترجم هذا الوعي بالعشق إلي البستة العراقية " وشلون عيني وشلونْ، هذا الأمل ينساهُم؟" هذا المسند اللّغوي ينطبق علي معادلة إقتضائية وحسية وذهنية في إمكانية بينية تأخذ موقعاً في أستعمال ذلك التقابل المكاني وتحركه بالأسناد التعييني والأنتقال ذهنياً إلي الإسناد الانتقائي الذي معناه ، أن المكان تشكل بالزمان الانتقائي لأنه قابل للوصف وقابل لأستحصال ذلك التنوع المخصوص في القراءة الإقتضائية والعلاقة الإقتضائية لأنها تقتضي تلك الخصائص المركبّة التي يتضّمنها المركّب المتعالي الذي يدل علي قوة الفعل داخل الصورة الشعرية ، لأن نهر دجلة شكل المرجعية التكوينية للشاعر. كانت المقاربة السيكولوجية تكشف عن تأسيس للفعل اللغوي في تشكيل الرمز ، بحيث أصبح الرمز عند الشاعر هو حدود المقارنة والدال المزدوج سيكولوجيا ، وأصبح مدلوله منحولاً بسبب ذلك المعني الذي سبقه الشاعر باللامعني ، وقد تكاثفت العلامة حتي أصبحت حجة في التعالي الميتافيزيقي ، حيث تكون العلامة السيكولوجية الاستعادة للعلامة وهي جزء من الكشف لذلك الفعل المتعالي.
وقصيدة "ليس من تلاعُبٍ" قد أكتسبت حدة الإنفصال السيكولوجي داخل ملكة الإنفصال نفسها، وعن فعل ذلك التشكيل ، لأن التشكيل المكتوب متزامناً مع ما نقول في تزامنه مع الحاضر المسكون بالخيبة
ليس من تَلاعُبٍ/ لمن أكتب الآنََ؟/ لا شأنََ لي بالعراق ، ولا بالعواصم/ لا شأن لي بالصداقات فاترة/ أو بالنساء اللواتي تخلَّيْن عني/ ولا شأن لي بالبنادق والطائراتِ المُغيرةِ،/ ولا شأنَََ لي بنوادي الرياضة/لأ شأن لي بانتخاب الرئيس/ ولا بالمصارفِ، / ولا شأن لي بالعناوين في صُحُفِِ اليوم/لا شأن لي بالطعام الذي أ تناول ُ
أو بالقميص الذي كنتُ التبُسُه أمس /ولا شأنَ لي بالبريد/ ولا بالحديد الذي قد يفلَّ الحديدَ/ ولا شأن لي بالكتابِ/ وأهل الكتاب...
علي المستوي السيكولوجي، في هذه القصيدة هناك نمط من الحياة المتفاعلة داخل بنية الصورة، ويظهر ذلك من خلال هذا التفاعل الذي تجلوه حالة سيكولوجية يصعب إظهارها عبر هذا التفاعل المفرط في النفي لتفاصيل المكان ، والعلاقات ، والصداقات، والنساء.

عمق الوعي
وإن كل هذه الومضات جاءت بسبب الضغوطات الذاتية والموضوعية وهي جزء من لذة في الرفض ولذة في الحرمان الذي ركزه سعدي في هذا التعدد في عملية النفي ، وقد جاء كامناً في عمق الوعي، ولكن فيه نقلة إرتحال إلي مواطن الغربة، والوحشة، والفتنة بالأشياء الغريبة كذلك الغواية بالكلمات ، وسعدي يوسف أنا أحسه إفلاطونياً في هذه القصيدة لأنه صاحب فكر وصاحب موقف، وبأنه يقر أسبقية المعقول بكل استشكالاته المتباينة ووفق الضرورة كان مصراً علي الإقرار بهذه الحالة السيكولوجية وبشفافية ذلك الوجود المتلابس وإمكانية ذلك الإدراك الحضوري الذي ينبع من الفعل الخلاق للوجود، وهذا النفي في " اللاشأنَ لي" جاء في إطار القراءة الإقتضائية سيكولوجياً لا إخبارياً عن كنه الاشياء لأن الموضوع يتعلق بالتعبير المركّب لتعيين الإسناد وفق شروع إنتقائية اختارها الشاعر في ذلك التعميم الاقتضائي . إن وجود هذا التعمم وجوداً فعلياً ومقدراً وفق المسند اللّغوي من حيث الإختيار في تشخيصه للحدث" ولا شأن لي بالبنادق والطائرات المُغيرةِ،" إن هذه المساند في الجملة الشعرية تعطينا مزامنات للحاضر الساكن والآسن والذي نطلق عليه بتزامينة اللّغة ومساندها المدموجة في سكونية تلك اللّغة، وهذا ما يجعل من اللّغة ومساندها علامات حيّة بدلاً من الفعل التشكيلي العشوائي الاحتمالي، وسعدي يوسف ينتقل إلي فعل المعني " ولا بالحديد الذي قد يفلُّ الحديد.." وحالة التجذير داخل مشهد لغة " الزبور" أي أن حتي الإقتراب الهرمينوطيقي للغة في الكتاب "ولا شأن لي بالكتاب وأهل الكتاب" أي حتي الإقتراب من كينونة هذه اللّغة التي إنتشرت بشكل حلزوني علي هيولي الوعي، فهو يلخص الشك المتنقّل من الشيء إلي الشيء نفسه أي منذ " الكوجينو الديكارتي" إلي الشك حتي بالوعي النسبي، وهذه هي في تقديري الصلابة الابستميولوجية في بعدها الواقعي الجديد وتمثلاتها النصية وعلاقاتها الحوارية داخل بنية الصورة ، ثم ينهي سعدي يوسف قصيدته " لمن أكتب الآن؟ " ويجيب علي هذا السؤال "أكتب كي لا أموت وحيداً!" .
وقد حدد سعدي غاية الإبتداء في مساند اللّغة التجريبية ، في هذه القصيدة ، هناك مقوّم تاريخي لمحايث تطبيقي يشكله سعدي داخل "لوغوس" محسوس وبنبرة متعالية للفهم الفينومينولوجي وهو المفهوم الكلي المقاوم لتلك الإعتلالات في التجربة الحسية وهي الجهة التي ينعقد لها ذلك الإدراك وعند سعدي يوسف هو المفْصل الذي يتدحرج تحت طائلة ذلك الإدراك لأنه استباقاً لمفهوم الوعي التاريخي ، وهي ذاكرة عمّقها سعدي بعد أن ترسبت بقاع الوعي الإنساني. في قصيدة " سماءٌ مُوزية ، إلي جليل حيدر" ينطلق سعدي من وفرة في الجمل الشعرية التي تحمل حركية الحس الاعتقادي بالآخر وهذا يعود إلي حكم الوعي المعرفي بالمعطيات ، ونحن نعرف القراءة التعيينية والتشخيصية في " صنوف الاشجار" و" إنطباق الشفة" و" خطوط القميص " و" سترة باريس تلك التي لا تزال تحنُ إليها" أن حصر النمطية الشخصانية الحاصلة من شدة التعقيد الحياتي عند جليل حيدر لهي قاعدة لم تكترث للوهم بل تجعل من الومضة في تطبيق تلك التصنيفات لهو خير تعبير عن المعني الشخصي ومحاورة تلك البنية المزاجية التي تتوسط هذه النهايات والمحتوي الواقعي لأداة التعريف الحدسي وتقاطعاته إلي اقصي تقدير داخل شخصية جليل حيدر . هناك تحليل للزمكان وإسترسال يقود إلي نقاط عديدة وعلاقات تسمح بتقريب صنف تلك المواقع والمشاهد والمرجعيات الإستقصائية ، ويركز سعدي يوسف علي الشمولية لهذه الومضات ، وهو يفترض إمتداداتها باسترسال من التفصيل والإنتقاء العشوائي لإستقصاء الحدث ونفي الإنتقاء العشوائي " والشرفات التي لا تزال فرنسية بعد حربين ، تلك خطوط الستائر" وسعدي يفصح عن الأشياء باقتراب توزيعي إستقصائي وبعمليات إستعراض مركزة بحيث تستحيل إلي تشخيص إسترجاعي مبني علي أشياء تقديرية . في قصيدته " الشمسُ التي لا تأتي" هناك شد غير طبيعي إلي المكان وإلي اللّغة ومعانيها التي تمكنت من القبض علي إدراكات سعدي والقبض كذلك علي البنية الشعرية والنسق الشعري وكان التوصل إلي تلك الشفافية المؤلمة هو التوصل إلي التأويلية الحاذقة وإلي جميع معاني الغربة داخل المكان إنها " قصائد من فَورتيْسّا " السويد ، إن المعني العام للّفظ هي كلمة " إشتقت والاشتياق أخذ معناه الحقيقي في الغربة، لأنه تطابق مع حقيقة التعريف ، وقد أصبح إتصالاً وأسانيد يمكن فهمها بشكل ضبابي ولكن سعدي يحدد أسانيده الأسمي في الاشتياق وطبيعته التقديرية التي تنتهي إلي حوار مع النفس " حتي في ظلِّ النخلُ بغير ظلال" هذا الوصف الاسنادي يحتوي علي خواص ذاتية قاهرة، هناك الزمن المفترض مسّبقاً ، كان الحرص علي الإمتداد ، وتجنب الفضيحة ، والتحرر من الإرتباط والبعد الأتصالي يلّحُ علي سعدي لينزع عنه كل الصفات السرية وليستعيد سعدي مقاومته" في هذا الأحدِ المقرور اشتقت إلي بلدي " " وهن العظم ورأسي مشتعلٌ شيباً." من العسير أن نسترجع أزمنة الماضي المركّب ، والمكان يعود إلي ذاكرة سعدي لمسند يضّم هذا المنعرج الزمكاني حتي يتقصّي كل إمكانيات اللاوجود بالنسبة إلي الشاعر لأنه وافق أن يمتد إلي داخل هذا المنعرج ، وقد تقصّي إمكانية اللاوجود واللاجدوي ، لكنه واقع في كل الحلول ، وهكذا كان الزج في منعرج العراق وهو الخطاب الذي يجتهد فيه سعدي ، والعراق عند سعدي يوسف من الألفاظ الدالة في معانيها ، والكلمة تغري بالمنهجية التي استنفرها سعدي في تشكيل منعطف حسي يجمل هذا النص الذي إعتني بالإشتياق إلي بلده من حيث مرتبة عليا في تقوّيم الوجود من خلال الذات والوعي الروحي ، وقد بلغ سعدي في هذه اللحظة تجربة من التجرد في تشكيل العبارة ، والملامسة القصوي للغربة التي إستحضرها سعدي في هذه القصيدة التي التبست في الميدان داخل تجربة حسية من إنتظامات الوجود " أني، المسكين ، بلا بلد! " في قصيدته " في يوم السبت أكتملتْ في يوم الأحد" كان الاستحضار للأشياء صور وكائنات في المكان، هناك المكان البارز بالقصيدة بشكل مطلق وإرتحال الطير ومجيء الغيم ، وقد إرتدي سعدي قوقعة المكان المطلق ، فكان البيت والمطر، حديقة السنجاب، وأن وجود كل هذه الأشياء لخبرنا سعدي إنه يتنفسها من خلال العراق" بُحيراتٌ ترقرقُ بغتة، وترقَّ . يوقظني بها الأوزُ العراقيّ المهاجر" ومن نسيج هذه الصور يكون سعدي قد وصف قوة الحدث الشعري وليس الصور الكلامية داخل الجملة الشعرية، فكان الحدث يعطينا المرونة المتبادلة بين الشاعر والمكان، وبين الشاعر ووجه التناسق بين الضيفة الآتية من المجهول ، ويكاد سعدي أن يجعل المكان بين الأثنين . والمثير للدهشة أن سعدي يوسف كان قد غمر المكان بالسمك العائد إلي النهر والمكان قد غمره الضوء ، وهنا آثار سعدي موضوع السمك الذي يستدعي التكاثر المستديم لزائر المكان ، لكن العراق بعيد " وكذلك الأنهار" وهكذا ينقلنا سعدي إلي الأحساس المتناهي بالاشياء " ساحة المبني مغلقةٌ ، هواءٌ ثابتُ . قدماي ثابتتان ، لكني أطيرُ الضوءُ ملتبسٌ" فهو يمتلك المأوي لكنه غائب داخل المكان، وإذا اردنا أن نبحث عن تفاصيل الحدث الشعري نجده داخل دينامينات متنقلة وصور مستمدة من الأشياء ، وحركات الحيوانات.

تحب اللّون الأسود
" " أقول : حديقة السنجاب، والآيل إستحالت منزلاً لي... "
وحركة الحيوانات إستحالت إلي مكان، وهي محفورة سيكولوجياً وإن هذا الإنجاز في المكان عند سعدي في هذه القصيدة يعطينا عمقاً في المأوي وتعزيزاً لصورة المكان في الغربة عن البلاد، لقد أراد سعدي من زائرته أن تضفي دلالة غير اعتيادية علي المكان وقد أرادها أن تكون كاملة أولاً لأنها وهي علاقة غريزية ، وقد استعار سعدي الفراشة وشبه الزائرة بالفراشة، والفراشة هي احدي العجائب الحياتية الحيوانية وأقول لضيفتي أتكئي عليَّ، أنا الضعيف لتلبس جسد الفراشة ، أيّما إمراةٍ تجيء هنا، تصير فراشة" وسعدي يثير الصور داخل المكان ، فعندما يتلابس الجسدان "في الليل نستهدي بشمع النحل . عند الصبح نستعدي بجذع النخل" وهنا تنتهي المطاردة الجنونية للحدث داخل هذا الحلم، وسعدي كالطفل يحب الأحلام التي تهبط علي المناطق العالية، وصورة الحب في الشعر هي تعبير عن الصورة الطفولية ، وصورة الفراشة عندما تهبط علي غصن شجرة طري تتلابس به وهي صورة تعبر عن سمات إنسانية كبيرة داخل المكان. وقصيدة " نهارُ أحدٍ ملتبس " بها ينتصف الليل " بين الريح والمطر المُقعقع والسريع وبين دائرةٍ مهفهفةٍ باحلامي وأخري" فقد أختفت الزائرة المسائية ، لكن اختفاءها الجنسي ربما كان أكثر صلاحية لها، لأن سعدي حدد ظلال ذلك الوجود في الصورة بعد أن أصبح نهار الأحد ملتبساً، لقد رحلت الجارة "وتجنب العصفور نافذتي" وتجنب العصفور المكان إلي أقصي حدوده ، لكن سعدي يوسف بقي ينتظر عودة الزائرة المسائية وظل يعتقد أنه يمتلك " عشبة ايفان جول المعطّرة" لكن المكان أصبح مهجوراً ولكن بقي حياً وهو الذي يقود سعدي إلي فينومينولوجيا المكان الحقيقي لأنه يعيش في المحيط الطبيعي ليصبح هو مركز الكون . وينهي سعدي يوسف مجموعته الشعرية " قصائد الحديقة العامة" وهي الحديقة التي عانت الخيبة والقلق في العثور علي المكان الحقيقي بعد رحلة من التجوال وبعد فوات الأوان.