نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. تعبئة وتعميم الشر: كلاب بشتآشان! طباعة

سلام عبود
" القتلة، الذين ذبحوا أحلامنا البريئة،
نعرفهم فرداً فرداً.
حين تحين الساعة،
سنبطش بهم واحداً واحداً:
سنجمعهم كلّهم في قبضاتنا،
ونرفع أيادينا عاليا في مهبّ الريح العاتية،
ثم نفتح أكفّنا."
في تلك الأسابيع- لمن لا يفهم تاريخ الصراعات الثقافية الحزبية العراقية جيدا- ولا أكون مبالغا لو قلت في تلك الأيام تحديدا، انقلب السحر كله على السحرة كلهم: سحر الايديولوجيات واليوتوبيات، وسحر الماضي البطولي، وسحر الزهو بشهداء معاداة الاستعمار والإمبريالية. قبل تلك الساعات كان سعدي يوسف مثلا يوصف

من قبل شيوعيي المؤتمر الوطني، أصحاب الأسبقية في المشروع الأميركي، بأنه " الشاعر السوفيتي" و"الأحمر" و" آخر الديناصورات الشيوعية". بعد ذلك النهار حسب، غدا سعدي، فجأة، بطرفة عين، ربيب الديكتاتور. أما شيوعيو المشروع الأميركي الجدد فقد أبدلوا بسعدي يوسف رفاقَ درب جدداً، أقل عتقا وسوفيتية ودموية من " الشيوعي الأخير". وجدوا في بريمر ورامسفيلد رفاقا جددا، تربطهما بالشعب العراقي " لحظة التقاء وتوافق تاريخية" و"مصالح مشتركة" تهدف الى تحقيق حلم الكادحين العراقيين بوطن حر وشعب سعيد!
ولم يكد يمضي عام واحد على الاحتلال حتى وجدنا قيادات عليا من الشيوعيين: "مفكرين" حزبيين، وقادة منظمات دولية، وهمية، لا يكتفون بتأييد المشاركة الفعلية في الحكم تحت قيادة الحاكم الأميركي، بل يتصدرون أيضا قائمة مهنئي بوش وبلير على تحرير العراق: "ان ارواح الجنود الامريكيين والبريطانيين والايطاليين والكوريين والبوليفيين والاسبانيين والاوكرانيين والبولونيين واليابانيين والاستراليين والحلفاء الاخرين ستبقى حية بيننا تشهد على امثولة التعاضد والمساندة بين البشر الذين يعون ان الكوكب الارضي وطن واحد وان مصيرهم لم يعد مجزأ" (بيان المثقفين العراقيين 2004-07-02 )
بأي معايير أخلاقية وسياسية تقاس المبادئ والقيم الوطنية؟ ما الفرق بين لمّة فرح ولمّة استباحة وتضليل؟
عن هذه الأسئلة يجيبنا عبد الرزاق الصافي في آخر مدائحه: " وبودي ان اضيف الى ما ذكروه من ابداعات هذه المؤسسة المرموقة ثقافيا وادبيا وسياسياً واجتماعياً فأذكر بنهارات المدى، التي كان من بينها، رعاية الزواج الجماعي لمئة واربعين شاباً وشابة، وتكفلها بجميع نفقاته وتسميته بـ "لمّة فرح" اشاعت الفرحة في بغداد المبتلاة بجرائم الارهابيين من انصار تنظيم القاعدة وايتام نظام صدام حسين." مرة أخرى نعود الى مبادئ الواقعية السحرية في الأدب والفن والصحافة. ظلت الواقعية منذ ظهور البيان الشيوعي حتى قيام الاحتلال الأميركي للعراق، تتهم كل من يهرب من سلطتها بالغموض والخور الرومانسي والترف البرجوازي. بعد الاحتلال يرسم المسؤول السابق عن تحرير صحيفة حزب الكادحين واقع بغداد المبتلاة، فينسى، لشدة بهجته، العناصر "الإرهابية" الواقعية التالية: قوات الاحتلال ( عديدهم ربع مليون)، والمرتزقة الأجانب (عديدهم مئة وعشرون ألفا)، والميليشيات المحلية والعرقيّة ( لا يعرف عددهم سوى الله)، والعصابات الخاصة، والحمايات الشخصية والحزبية ( استعصى حتى على المجلس الوطني تحديد عددهم وحجم مرتباتهم). كيف يغبى على عقل ماركسي سليم هذا الجمع الكبير من القتلة؟ أليس هؤلاء جزءا من الواقع ومن أخطاره الممكنة، الواقع الذي اعترض عليه الكاتب نفسه حينما خاطب عزيز الحاج قائلا: "رغم ما يمكن ان تحمله (الحرب) من اخطار وما تجلبه من دمار لا يعرف احد مداه وتسميه الثمن الباهظ الذي يمكن ان يدفعه شعبنا " ببعض الآلام"؟ تحت أي غطاء طُمر الإحساس بآلام الشعب؟
على أنقاض الواقعية الاشتراكية في الأدب، واقعية ماركس، يؤسس شيوعيو الاحتلال واقعية المحاصصة في السياسة، وواقعية عمياء بضفاف كونكريتية في الأدب والفن!
إن البحث عن معايير للمنطق في وطن مستباح ضرب من الجنون.
فقدان المنطق هذا يشمل كل شيء في زمن الفوضى الخلاقة، يشمل الصغائر والكبائر. فعلى سبيل المثال كتب عبد الستار ناصر مقالتين دفاعا عن مهرجان المدى وصاحبه نشرتا معا في المدى. كانت إحداهما ردا على مقالة استفزازية مؤذية استهدفت شخصه دون غيره من الكتاب. أما مقالته الأولى، السبّاقة في الدفاع عن فخري، والتي أنكر فيها حق منتقد فخري في أن "يفترض أو يتكهن أو يعتقد او يتوهم أو يظن أو يشك أويرتاب" فكانت موضع استحسان كبير، أشاد بها عدد من الكتاب منهم عبد الرزاق الصافي, كما أضحت المقالة ملهِما لكتاب آخرين. فقد أجابه عليها كاظم الحجاج بمقالة اسماها "لأنهم يكرهون العراق يا عبد الستار"، أهداها الى عبد الستار ناصر شخصيا. لكن المفاجأة الثقافية التي اجترحها رئيس المدى يجدها المرء في الملف الخاص بدعوى الآداب، الذي حوى جميع المقالات التي كتبت دفاعا عن فخري ومؤسسته، والتي بلغت أربعين مقالة. في هذا الملف التوثيقي لم تظهر مقالتا عبد الستار ناصر! مثل هذه الأفعال يصعب على المرء فهمها بيسر في مملكة فخري السحرية! وما يزيد الأمر التباسا أن الارشيف لم يحفظ تتمة المقالة الأولى المنشورة على الصفحة الثانية، كما أن هذا العدد على وجه التحديد لم يتم الاحتفاظ به مصورا. مثل هذه المصادفات السحرية ربما تعطي للبعض الحق في أن "يفترض أو يتكهن أو يعتقد او يتوهم أو يظن أو يشك أو يرتاب"، أليس كذلك يا عبد الستار؟
حينما اقتحمت القوات الحكومية أرض كردستان لصالح البارزاني ضد غريمه الطالباني وأزهقت أرواح المئات من الكرد، أثار هذا الاقتحام ريبة وشك وتكهن ودهشة البعض. ألا يحق لـ "أحد" أن يشك ويرتاب ويتساءل: من الشخص أو الأشخاص الذين وقعّوا وثيقة الاقتحام؟ ما البنود السرية لهذا الاتفاق؟ ما الشروط التي تم بموجبها؟ من قام بالتنسيق العسكري المتعلق بإدارة المعارك؟ وما طبيعة التنسيق الأمني والاستخباراتي المتعلق بالجرحى والمعتقلين والمطاردين من الفريق الآخر، ومن كُلف به ؟ ما طبيعة التنسيق الأمني والسياسي بعد إنجاز المهمة؟ ألا يحق لنا الآن، بعد سقوط الصنم، الإطلاع على أسرار ووثائق ورجال وأثمان هذا التاريخ المخزي! مثل هذه الصفقات والصفحات السود نجدها بالقدر ذاته من الخزي السياسي لدى الطرف الآخر: الطالباني، وفيها تكمن أسرار غامضة كثيرة، منها اختفاء عشرات الكوادر الشيوعية القادمة من الخارج، عبر أراضي كردستان. إن الشك هنا ليس جريمة، على العكس، إن غيابَ الشك مشاركةٌ صريحة وكاملة في تسويغ الجريمة.
لم يكن النقد الموجه الى المهرجان وليد "الوهم والظن والتكهن والإفتراض والشك والريبة"، كما "يتوهم" ممجدو فخري. على العكس من ذلك تماما، كان هذا النقد مبنياً على يقين صادق، هو يقين العراقيين المكتوين بنيران الهجمات العرقية والصفقات السريّة. فحينما كان المجتمعون في أربيل يواصلون "استمتاعهم الباذخ" كان لفيف من المثقفين العراقيين يتعرضون الى نيران الحقد العرقيّ. كانت قوائم التأييد والاستنكار الانفصالية تملأ الصحف ومواقع الانترنيت. كان موقعو القوائم يمنّون المحتفلين بأعياد الحرية والديموقراطية داخل المهرجان، بينما كانت أقلامهم تشن هجمات نارية على كل من يحاول الوقوف في وجه سياسة الإلحاق والضم العرقي الكردي. كانت قضية "إلحاق" كركوك- ربما لم يسمع بها المهرجانيون- هي التي تغطي سماء المعركة الدائرة خارج أسوار المهرجان، كما كانت المقابر الجماعية هي الخلفية الوطنية لمهرجانات صدام التعبوية. لماذا نلوم مثقفي المقابر الجماعية إذن؟
في الخامس عشر من أبريل 2007 نشرت مواقع الانترنيت بيانا بعنوان " الى الديمقراطيين حول مشكلة كركوك"، رافقته حملة جمع تواقيع وسعار إعلامي محموم، أكدّوا فيه على وجود "مؤامرة كبيرة" تحاك ضد المدينة, وأن التأخير في تنفيذ إلحاق كركوك بالإدارة الكردية " سيخلق ظروفا معقدة وقد تؤدي إلى نتائج كارثية على عكس ما تروج لها الدوائر الشوفينية والإقليمية", وتوعدوا الشعب العراقي بأنهم على أهبة الاستعداد لرد " الكيد الى النحر".
الى أية كارثة يذهبون؟
كيد من ونحر من؟
لا يعرف المرء أكان المهرجانيون على علم ببيانات النحر والإلحاق والتهديد بالكوارث، التي سبقت ورافقت وتلت أيام المهرجان، أم أن ذلك حدث من وراء ظهورهم؟ وربما أعمت أبصارهم ضخامة الحضور وحجم لمّة الفرح!
سيتبرأ كثيرون من مشكلة كركوك ومن بيانات رد "الكيد الى النحر" بدعوى الجهل والغفلة. لكن الثمن كان أكبر من هذا، لأن الصحف العربية التي أرسلت مندوبيها الى المهرجان رفضت نشر آراء وطنية عراقية ترد على من يهدد الشعب العراقي بسلخ كركوك فورا، وعلى من يهدد بقطع النحور! أليس هذا ثمنا مدفوعا سلفا ( لا نريد أن نقول رشوة ثقافية) في هيئة دعوة الى مهرجان ثقافي؟
سيقول قائل نحن نجهل هذا أيضا. والجواب نعم، إنهم يجهلون هذا. يجهلون كل شيء، يجهلون حروب صدام، وأنفال صدام، ومقابر صدام، ويجهلون وجود قوات محتلة، ويجهلون وجود مشروع انفصالي، ويجهلون وجود أزمة في المجتمع العراقي تستوجب الخلاف والجدل والنقد بالكلمة بدلا من السلاح والملاحقات والإقصاء. نعم، الجهلة يجهلون كل شي. ولكن، لماذا يحشرون أنفسهم في مهرجان للمثقفين إذن، إذا كانوا على هذا القدر العظيم من العمى الثقافي؟
وهل نقد السياسيين الحاكمين أكثر إيلاما للضمائر من قضية "إلحاق" كركوك؟
لماذا يسمي المرء نفسه عراقيا إذن؟ ما معنى الانتساب الى حقل الثقافة؟ وما معنى التشدق بالعراق الجديد والتباكي عليه؟ متى يكون العراق قضية تستوجب أن يدافع المثقف عنها؟
لنتأمل هذا الخراب الكبير:
يقول أحد المدافعين عن فخري كريم: "لن أتوقف أمام اتهامات افتتاحية الآداب ضد السيدين بارزاني وطالباني، لسببين، أولهما أن هذين السيدين رئيسا دولة واقليم، وما تعلمت في حياتي أن أدافع عن حكام. والسبب الأخر هو، أن باب هذا الموضوع لو فتح فأنه سيكون أشبه بحفلات الزار التي نشاهدها في الفضائيات العربية: أنت خائن، فيرد الأخر: أخرس، أنت عميل، وينبري الأول: هذه أوراق تثبت عمالتك، فيرد الثاني: أخرس يا جبان هذه مستمسكات تجسسك...."
مما لا شك فيه أن التعففَ عن الاقتراب من موائد الحكام حكمةٌ وفضيلةٌ، بيد أن التعفف عن نقد أخطائهم، أو تبريرها، والتطوع في حملة التصدي لمنتقديها لا يدخل في باب الحكمة أو الفضيلة البتّة. فلا عفة ولا كرم حينما ننكر وجود أنصار بواسل، مثقفين وشغيلة وطلبة شجعان، ذهبوا الى الجبال البعيدة بنكران ذات، وعفّة حقيقية، وحب عارم للوطن والحرية والإنسان، فتم "نحرهم" من قبل ميليشيات غادرة، في حفلة إعدام جماعي، لم يسلم منها سوى شخصين: كريم أحمد وباني خيلاني، اللذين أسرا، ثم أفرج عنهما بعد إذاعة بيان من صوت كردستان "يدين الاستفزازات التي قادت الى وقوع حوادث مؤسفة". لا كرامة لمواطن يُصنّف شهداء شعبه على أنهم "حفلات زار". شهداء رائعون، ورفاق مصير أوفياء، كرماء، لم تزل الجبال تحتفظ برفاتهم، ولم تزل الصخور ملطخة بدمائهم، بعد ربع قرن على نحرهم. قتلى (بشت أشان) على يد قوات الطالباني، وقتلى الأنصار على يد قوات عيسى سوار التابعة للبارزاني، والكوادر الحزبية المرسلة الى الداخل، المنحورة في أوكار كردستان وغيرهم، ليسوا "حفلات زار" على الإطلاق. إنهم أرواح وطنية طاهرة، ودماء عراقية مقدسة. أيهما أكثر بشاعة: جريمة الدجيل، التي حوكم الطاغية بسببها، أم جريمة بشتأشان؟ ألا يستحق هؤلاء لمّة عطف في هيئة دعوى قضائية؟ ألا يعتبر نحرهم جريمة قذف بحق الشعب كله؟ من يجرؤ على وضع اسمه على دعوى للتضامن مع تلك الكوكبة المضيئة؟
لا نريد أن نتحدث عن آلاف الشهداء الكرد، شهداء ما سمي بالاقتتال الداخلي ( الذبح الحلال)، فقد قام الكتاب الكرد بفضح ذلك بشجاعة لا نستطيع مجاراتهم فيها. لكننا نعيد على مسامع الصم البكم شريط الكلمات الذي يسجل حفلة إعدام الشهيدة الأنصارية البطلة: شابّة في ربيع العمر, تركت أهلها, وبيتها, وشوارعها, وحبها, وأحلامها الفتيّة، وذهبت الى الجبال البعيدة، لكي تقيم مدرسة ومركزا طبيّا، وتحمل البندقية دفاعا عن الحرية التي أحبتها. لكنها فوجئت، في ليلة ظلماء، بمن جاءت لنصرتهم يزغردون وهم يرون عصابات الطالباني يغتصبون جسدها الفتي الجريح, ثم يجهزون عليها بعدد من الإطلاقات. كان صراخها يختلط بطلقاتهم وبزغاريد مشجعيهم، كما تختلط الآن كلمات فخري بزغاريد مناصريه كاتمة صرخة منطلقة من فم جريح. وليتهم اكتفوا بذلك. حينما فرغوا من جريمتهم الأولى: استباحة الجسد والكرامة والروح، قاموا بتعلق صورة الشهيدة العراقية المنتهكة على واجهة صحيفة حزبية متواطئة ، يحررها أديب كونكريتي، مصحوبة بتوضيح يقول: استشهدت في أقبية الأمن العامة! وما اكتفوا بهذا أيضا، بل راحوا ينعتون كل من يذّكر الناس بشهداء المجزرة بـ " أيتام صدام". ( ورد هذا التعبير في دفاع كريم أحمد، شريك الطالباني في جريمة بشتأشان).
رئيس العراق الحر يسمح لمقاتليه باغتصاب الشهداء! وزعيم الحزب الشيوعي الكردي يتستر على الجريمة النكراء!
الموقف من المشروع الثقافي الزائف والمخادع, الذي هو واجهة لعمليات غسيل أموال قذرة، هو نقطة التشابه الجوهرية بين مصير هذه الشهيدة البطلة ومشاريع فخري الثقافية. كم شاعرا مهرجانيا خلدّ مأساة تلك المرأة العراقية المناضلة؟ كم مثقفا محبّا لـ "بلاد السواد" وقف دقيقة صمت أمام أسماء الذين نُحروا في أعالي الجبال ودنّست أسماؤهم وجثثهم؟ ألا يستحق هؤلاء صورة مرسومة بالقلم أو بالفحم أو حتى بالسخام؟ ألا يستحقون تفعيلة صغيرة هاربة من قصيدة شاعر لم تسكره أفراح المهرجان؟
إن أي شيوعي شريف كان من الممكن أن يكون واحدا من تلك الكوكبة المنحورة، لو تصادف وجوده في تلك اللحظة البربرية، في ذلك الموقع المصبوغ بالدم والعار والخيانة.
أين أصدقاء كاظم طوفان؟ أين أصدقاء منتصر؟ أين أصدقاء عميدة؟ أين مثقفو الحقيقة؟
ماذا سيقول الكاتب والفنان المتباكي على مهرجان فخري لأمهات الشهداء وأبنائهم؟
لا أحد يملك الحق في منع أحد أو انتقاد أحد بسبب حضور مهرجان. ولكن، هنالك دين في أعناق الحاضرين: حينما تطأ أقدامهم أرض كردستان الديموقراطية الحرة عليهم أن عليهم أن يخصصوا يوما من أيام المهرجان القادم للبحث عن رفات الشهداء الأنصار، الذين ذبحتهم العصابات العرقيّة. هؤلاء أمانة في أعناق المثقفين. وحينما تشارك أديبة عراقية أو عربية في عرس الحرية القادم عليها أن تطلب من رئاسة المهرجان تخصيص ساعة واحدة للشهيدات النصيرات، اللواتي ذبحن على يد ميليشيات قادة المدن الدول الكردية. أمّا الشعراء والرسامون والممثلون فهم مطالبون بأن يجعلوا مغارة أعدام الشهيد منتصر لمّة حزن تاريخي تذكر بقتلة ما انفكوا يتحكمون بمصير شعب. لا تدعوا الغرباء "غير العراقيين" يحملون نيابة عنكم مسؤولية هذه الأمانة! إنها أمانة يضعها آباء الضحايا وأبناؤهم وبناتهم في أعناقكم. تكفّلوا أنتم بطرحها في مهرجان المدى القادم! أضيفوا اليها الأسئلة المتعلقة باستخدام الثقافة كواجهة لمحو تاريخ إجرامي كامل, والثقافة كوسيلة لتمرير مشروع تمزيق الوطن.
يقول أحد أحد كتاب التعبئة الحربية الرخيصة: أغاظتهم " الوردة العراقية المتفتحة للتو "، " اغاظهم مهرجان ثقافة عراقي، عُقِدَ في أربيل، وكان المهرجانُ حقيقياً، ذلك هو مهرجان المدى الخامس، فكان نجاحهُ ربما قد آلمهم، وأبكاهم حضور المثقفين من جهاتِ الارض كلها، وهو يخوض في بحر ثقافةٍ جديدة ٍ، ثقافة الهواء العليل. .. في عراق اليوم المتدفق بالعمل، وبتعبير اخر فقد اصبح العراق ورشة عملاقة تنتج في كل الحقول " بذرات " خير لن يبقى محصوله محصوراً بين حدود بلاد الرافدين حسب، بل ربما يتسع الى الحواضر العربية والانسانية وهذا حسبي ما اغاظهم"
هكذا يصور كتّاب التعبئة السابقون الواقع العراقي الجديد في ظل أزمة نظام الحكم وأزمة مرحلة الاحتلال. وهكذا يبدو العراق، لمّة فرح، بالضبط كما كان جنود وضباط الكاتب نفسه يذهبون الى القادسيات في لمّة فرح. إنها الأفراح العدوانية المتوارثة وما يرافقها من مشاعر كاذبة، مزيفة. في أية لمّة يضع رئيس مؤسسة المدى آلاف الرؤوس المقطوعة؟ كم هو صادق أدب التعبئة في أكاذيبه وجرائمه الأخلاقية! إن وردة المدى التي يتحدثون عنها هي الوردة ذاتها التي رسمت على غلاف قصص الحرب العراقية-الايرانية، والتي منحت كتّابها شرفا ظلوا يتباهون به زمنا، في عهود الزهو الحربي الجميل. كان جنود ناقلات الإيفا يتضاحكون في لمّة فرح وهم يسيرون الى قبورهم الجماعية، وكان العريف ينظر من كوة دبابته الى المستقبل العراقي المنير، كما يفعل الآن شاكر النابلسي ومبيضين وصاغية وغيرهم! لا نريد أن نلوم أحدا على تاريخ مضى، ولا نريد أن نحقّره بسبب ذلك. ولكن التسامح مع الآخرين شرط أساسي من شروط التصالح مع الذات والحياة. دعوا زهرة أخرى تتفتح، زهرة أقل ذبولا وبشاعة من زهرة النفاق، التي يهبها التعبويون للطغاة في كل الحقب.
كثيرون من كتاب التعبئة هرعوا الى نجدة رئيس مؤسسة المدى. أما أسباب هذه الشهامة الثقافية فواحدة دائما. أحد هؤلاء يشرح للقرّاء سبب تعاطفه مع فخري قائلا: " لأننا لا نخط السيف على يافطاتنا بل نحمل الحكمة أينما توجهنا". إن الحكمة تقتضي أن يرفع المهرجاني رأسه وهو يتوجه نحو مدخل المهرجان، علّه يجد أثرا لعلم وطنه الذي يتباهى بانتسابه اليه! ليس فخري وحده من يقوم بعمليات غسيل أموال ثقافية، كتاب التعبئة السابقون وجدوا في ابداعات فخري مطهّرا سحريا مُجرَّبا يغسلون به ضمائرهم الحربيّة المثقلة بالرزايا.
إن الخطر الأعظم الذي يهدد الثقافة هو استغلال الثقافة لغرض تأصيل نوازع الشر والإذلال والعنف في ذات المثقف وفي المجتمع. في دفاع كتاب التعبئة عن فخري نكتشف أمرين ثقافيين- اجتماعيين - نفسيين خطيرين. أولهما أن التعبوي - بدلا من أن يتصالح مع ذاته- يقوم بتوظيف مواهبة لصالح مشتر جديد. وبدلا من أن يضع نقطة كبيرة خلف ماضيه "غير المفرح" ويبدأ صفحة جديدة، يقوم باستخدام مهاراته السابقة لنصرة معركة تعبوية جديدة. وفي الجانب الآخر يقوم المشتري الثقافي، أو "القمّام الثقافي"، بتوظيف وتعبئة هذه المواهب والخبرات لمصلحة استمرار حروبه وخلافاته وللدفاع عن مملكته الشريرة. وهذا يعني أن المجتمع العراقي لم يفد كثيرا من تجربة قيام وسقوط الديكتاتورية، ولم تنضج فيه بعد عناصر ومقومات بناء مجتمع خال من العنف المباشر ومن والسلوك العقلي والروحي المصاحب والمتتم للعنف. هنا يكمن الخطر. حينما تتحول الثقافة ومؤسساتها الى خط سير تاريخي ناقل، يحمل من جيل الى جيل ميولَ الخراب الروحي والانحطاط النفسي وما يلازمها من نوازع الاستكلاب السياسي والاجتماعي والثقافي.
تحت سماء محتلة تعيش ثقافة العنف والخراب أبهى مواسمها!