عودة الأخضر بن يوسف طباعة

أمجد ناصر
18/05/2007
ما ان فتحت الكتاب حتي تحركت في رأسي مروحة واسعة من الأصوات والصور والروائح.
انه كتاب سحري. وككل كتاب سحري لا تستطيع التحكم بمصيرك وأنت تدخل ردهاته المقوسة، المفتوح بعضها علي بعض. تكون أنت قبل أن تدخله ولكنك لا تصبح كذلك بعد ان تنصت الي ذبذباته الارضية الخفيضة. أول ما تفقده هو الكثافة. ثم الذاكرة السابقة، إذ تمحو كلماته ما سبقتها من كلمات. وفي حالتي الخاصة رجعت ثلاثين سنة الي الوراء. فصرت

أخفَّ. أنحفَّ. أسرع. صار لي شعر طويل وشاربان مكسيكيان وقدمان تمشيان علي وجه الأرض وعينان تتراءي فيهما قمم أشجار باسقة وشواطيء زرقاء وفتيات تنط من اكتافها فهود صغيرة. أعرف تلك الحالة. خبرتها من قبل عندما فتحت الكتاب نفسه الذي جاء به الي عمان شاب ذو شَعر منفوش وقامة طويلة ناحلة وعرج خفيف في احدي قدميه. كان الشاب قادما من بغداد، وبغداد هي بلاد علي بابا وأرض السندباد، فصار صاحبي. مثله صرت مسحورا بالكتاب. تنقل الكتاب في أيد اخري لكن سحره لم يعمل، كنوزه الدفينة لم تتكشف. تقاسمت مع الشاب ذي الشعر المنفوش تلك الهبات السرية. تغيرنا كثيرا بعد ذلك. اختفي الكتاب. افترقنا عن بعضنا البعض، برهة من الوقت، ثم التقينا في بيروت، بحثنا عن الكتاب ولم نجده، لكننا اكتشفنا اننا لا نحتاج اليه، فالكتاب كان قد فعل فعله ولم تعد هناك حاجة اليه.
XXX
أتحدث عن كتاب غيرنا صاحبي وأنا. كنا نظن أننا وحيدان في ذلك العالم السحري. لكننا اكتشفنا أن ثمة غيرنا من تغير أيضا. ثمة من نقله ذلك الكتاب من حال الي حال. لم يكونوا كثيرين في البدء، لكنهم تزايدوا، ببطء، مع مرور الوقت. الكتاب يدعي الأخضر بن يوسف . أما مؤلفه فهو شاعر عراقي يدعي سعدي يوسف عَبَرَ القرن الماضي الصاخب الي قرننا الحالي الأكثر صخبا بنفس الهمة والانزواء.
كنت أسكن مع صاحبي في شقة بعمَّان. قرأ لي، بعد أن استل كتابا ذا طبعة متواضعة من حقيبته التي لا تحوي أشياء كثيرة، هذه الأبيات:
نبي يقاسمني شقتي
يسكن الغرفة المستطيلة
وكل صباح يشاركني قهوتي بالحليب وسر الليالي الطويلة
وحين يجالسني، وهو يبحث عن موضع الكوب في المائده
ـ وكانت فرنسية من زجاج ومعدن ـ
أري حول عينيه دائرتين من الزرقة الكامده
وكانت ملابسنا في الخزانة واحدة:
كان يلبس يوما قميصي
وألبس يوما قميصه،
ولكنه حين يحتدّ
يرفض أن يرتدي غير برنسه الصوف،
يرفضني دفعة واحده .
شيء يشبه القشعريرة سري في أعماقي وتخلل كياني كله وأنا أسمع تلك الكلمات بصوت صاحبي المؤثر. كنت أري في عينيه، وهو عاكف علي الكتاب، مياها تترجرج وأقواسا تتطامن وسماوات تتعالي فيها أشجار نخيل. كان صاحبي الذي يدعي داود ، ثم أصبح يدعي زكريا ، يشبه ذلك المتساكن مع راوي القصيدة. شعرت أن أحدا ما، في نهايات الشمال الافريقي، أطل، قبل سنين، علي حياتنا وكتبها. هناك من كتب حياتي. هناك من قال ما أريد قوله ولم أعرف، حتي تلك اللحظة، كيف أفعل. قلت لصاحبي، بعد أن انهي قراءة القصيدة كأنه يقرأ لنفسه: أعطني الكتاب. ذهبت الي مقهي في وسط البلد اعتدت أن اجلس فيه مع صاحبي نقرأ لبعضنا البعض ما نكتب أو نتحدث عن كتب قد تكون غيرت غيرنا ولكنها لم تغيرنا. كم مرة علي أن اتغير؟ كم مرة علي أن أعثر عما ابحث عنه وعندما أجده لا يكون هو. هذا ما قلته لنفسي بعد أن قرأت الكتاب ودخنت علبة تبغ كاملة، سيجارة من عقب أخري.
كنت قـبل بضع سنين قد قرأت كتابا يدعي انشودة المطر وغيرني. كان مطر ينهال علي بايقاعات ثابتة وأنا أسلك طريقا ترابية الي بيتنا. كنت أصل مبللا ولم يفهم أهلي مصدر تلك الأمطار التي بللتني تحت سمائنا الجافة. عدت من المقهي الي الشقة المستطيلة بعد وقت لم أدر كم طال، وقلت لصاحبي، كأنني أواصل معه حديثا انقطع قبل دقيقتين: حدثني أكثر عن صاحب هذا الكتاب. هل هو في بغداد أم ما يزال في نهايات الشمال الافريقي؟ فقال انه علي الأغلب في بغداد. فقد عاد من وهران أو من وجدة . لكني لم أره. قلت له: أريد أن أراه. فقال: ربما ستراه وربما لن تراه. ثم أضاف: المهم هو الكتاب وليس صاحب الكتاب.
XXX
عادت الي هذه الذكريات وانا اقرأ، الآن، الكتاب أمام نافذة تطل علي سماء لندن القاتمة. عادت الي صورة الشقة المستطيلة بعمَّان التي سكنت فيها مع صاحب لي كان يدعي داود ثم أصبح يدعي زكريا . كنت يومها ادعي يحيي . تذكرت أنني أنا الذي سمي صاحبي زكريا عندما لم أعد ادعي يحيي . ولكن هذه حكاية ثانية. رأيتني شابا نحيلا بشعر طويل وبنطلون شارلستون أعبر الحد الأردني الي الأرض العراقية بسيارة اجرة يسوطها الحر والغبار. ثم عادت الي صورة شارع في بغداد يدعي الرشيد نزلت في أحد فنادقه الصغيرة. ثم المكتبة في نهاية الشارع. في تلك المكتبة سألت عن صاحب الكتاب فقال لي البائع انه موجود في المدينة ولكنه لا يعرفه شخصيا. قال انه صدر له كتاب جديد. ثم دخل في عمق المكتبة المعتم وعاد بكتاب ذي غلاف أسود مكتوب عليه الليالي كلها . كان وقت الظهيرة. ولم يكن هناك زبون غيري في تلك الظهيرة القائظة من شهر تموز. دعاني البائع الي شرب استكانة شاي . أشار، ونحن نحتسي شايا ثقيلا، الي حامل خشبي للصحف في مدخل المكتبة ثم قال: انه يكتب في تلك الصحيفة. كانت هناك صحف كثيرة علي الحامل الخشبي ولم أعرف الي أي صحيفة صوب البائع يده. نهض وجاء بصحيفة تدعي طريق الشعب .
قلبت الجريدة ذات الارواق القليلة وبدت لي مختلفة عن الصحف الاخري. لكن لم تكن هناك كتابة لصاحب الاخضر بن يوسف و الليالي كلها . قال لي البائع انه يكتب فيها ولكن ليس كل يوم. ثم قال انه لا يعلم في اي يوم يكتب ولكنه، بالتأكيد، يكتب فيها. كنت متعجلا للانصراف. أريد أن أذهب الي الفندق كي أقرأ الليالي كلها . أردت، كذلك، أن أشتري الصحيفة لكن البائع قال لي: أنت غريب في هذه المدينة. لا أنصحك بأخذ الصحيفة معك. قلت له ولكنها ليست صحيفة سرية. قال انها ليست سرية وها انني ابيعها مع الصحف الاخري ولكن، ثم تطلع في اكثر من اتجاه، وقال لي بما يشبه الهمس: اشك ان هناك من يراقب الذين يشترونها.
لم تكن تهمني الصحيفة، خصوصا، وان لا شيء فيها للشاعر، فعدت ادراجي الي فندقي القريب من تمثال برونزي صغير مرفوع في منتصف الشارع.
كانت الليالي كلها امتدادا للكتاب الذي قرأته في عمان. السحر نفسه عاد، والتحولات التي أصابتني تجددت. رحت اقرأ بصوت عال مقاطع منه، ثم أستعيدها. وها أنا، الآن، أري بعض تلك المقاطع في كتاب آخر يدعي مختاراتي عليه صورة الشاعر. بحثت عن مقطع بعينه. مقطع كررته طويلا بصوت عال في غرفتي بالفندق التي تخض هواؤها الساخن مروحة كبيرة تتدلي من السقف:
غادر الراقصون الموائدَ، ضوءُ الصباح الشفيفُ،
علي الشجر المتطاول والأعين المجهدات.
الشوارعُ تمتصُّ أقدامَنا والحديثَ الأخيرَ، تجيئين أنت معي؟
بل تجيء الي شقتي. اين معطفك؟
البرد يمضي بنا مسرعين، تلوكين كل الحديث انا انتهينا، وانا بدأنا، وأنا نسير الي شقة في الضواحي .
XXX
لم أر الشاعر في تلك الزيارة. ولكني عدت بكتابه هذا الي صاحبي داود في عمان. ورحنا نقرأه معا. ثم اختفي الكتاب مثلما اختفي الكتاب الاول. اختفينا نحن أيضا بعضا من الوقت وظهرنا في بيروت . لم أنس الشاعر رغم لعلعة الرصاص. قلت لصاحبي داود الذي أصبح يدعي زكريا : سأذهب اليه. ذهبت فعلا. ورأيت صاحب المكتبة. قال لي ان شاعرك لم يصدر كتابا جديدا ولم يعد يكتب في تلك الصحيفة. ثم قال لي اذهب الي أرشـــــيف الري ستــــراه هناك بين أضابير متربة وفيضانات جافة.
فذهبت ورأيته.