الخطاب اللغوي والخطاب الأيقوني: صورة سعدي يوسف مثالاً طباعة

Imageقراءة في سيميائيات الصورة
 سببُ هذه المقالة أمران: صورة للشاعر العراقي سعدي يوسف (في النادي اليوناني، القاهرة 2007،  تصوير صموئيل شمعون):
ثم تصريحه لجريدة (أخبار الأدب) المصرية الذي يقول فيه: "شطبتُ تماماً علي فكرة العراق والتعامل معه كوطن [...] منذ زمن لم أعد أعتبر العراق وطنا".
وها هنا مناسبة ثمينة لإشكالية من طراز رفيع: هذا الكلام يتنافى مع (محتوى الصورة) الملتقطة أثناء وجود الشاعر بالقاهرة لأن الصورة تظهِرُه وهو يرتدي قلادة تتدلى منها خارطة العراق.

 هذا تناقضٌ فادحٌ. لنرَ كيف يمكن أن نحلله انطلاقاً من هذه العلاقة المعقـّدة بين الخطاب اللغوي وخطاب الصورة (الأيقوني).
العلائق بين الخطاب اللغوي، بمجازاته واستعاراته، المُباشِرة أو المُرْهَفة، تتقاطع مراتٍ مع خطاب الصورة، لكنها أيضا تتفارق معها.
Imageللعلاقة بين الخطاب اللغوي وقرينه الأيقوني مراجع ومصادر قليلة في التراث العربي. توقف الفلاسفة والمناطقة المسلمون عند اغتراف الشعر والتصوير كليهما من (التشبيه). والمراد بذلك هو سعيُ الفنيّن لمحاكاة الطبيعة وهذه هي  فكرة أرسطوطاليسية عن جدارة. يرى الفارابي، من بين آخرين، أن بين صناعة الشعر: "وبين أهل صناعة التزويق مناسبة، وكأنهما مختلفان في مادة الصناعة ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها، أو نقول إن بين الفاعلين والصورتين والغرضين تشابهاً، وذلك أن موضع هذه الصناعة التأويل، وموضع تلك الصناعة الأصباغ – وأن بين كليهما فرقاً- إلا أن فعليهما جميعاً التشبيه وغرضهما إيقاع المحاكيات في أوهام الناس وحواسهم"[1][1]
إن اللغة الأيقونية، مثل اللغة المنطوقة، تعطينا نوعين من الدلالات: الدلالات القاموسية dénotations[2][2]، أي المباشرة (أو التأشيرات) والدلالات المتداعية connotations[3][3] (أو غير المباشرة، ما يحيط بالتأشيرات من معانٍ).
نعرف أن الدلالات القاموسية Les significations dénotées مصنـّفة بقواميس وهي مشتركة نظرياً بين جميع Imageمستخدمي نفس اللغة. فالمرأة هي جنس المرأة المعروف، والساحل هو بقعة يابسة على البحر لا يخطئ أحد في معرفة معناها. أما الدلالات المتداعية (يُترجمها البعض الحافـّة) فهي تـُوْقِظ فينا فهماً خاصاً بنا نحن، أو فهماُ نشاطره مع البعض فحسب من دون أن تكون العلاقة بين العلامة والإدراك إجباريةً. فالمرأة نفسها يمكن أن تمثل في ذهن كل واحدٍ منا (معنى متداعياً) مختلفاُ: الحب، الخيانة، اللذة الحسية، الأمومة،الغيرة، المنافسة،...إلخ. بينما الساحل المعرَّف قاموسياً بالنسبة للجميع فقد يمثل الخلاص بالنسبة لغريق، أو العطلات والشمس لشخص آخر، الحب واللقاءات العاطفية لثالث، البيع المربح بالنسبة للباعة الجوالين، ساحة لعب رياضي بالنسبة لهواة الرياضة.... الخ.
إن الصورة يمكن أن تمثل شيئا أو شخصاُ، ويمكنها كذلك أن تؤشر connoter Imageمفهومات تجريدية، سوى أن ذلك يجري بطريقة طيعة ولينة قابلة للتأويل، لأن من النادر أن تفرض الصورة فرضاً معنى وحيداً واحداً وهو ما يحصل غالباً عندما يجري التعبير بالكلام. وهذا ما يُقصد بالمصطلح المكيَّف للصورة (تعدد المعاني polysémie).
تعدد المعاني هذا ضروري في تأويل الصورة وقراءتها. يمكن للصورة أن تقول عدة أشياء في أن واحد وأنها يمكن أن تحتوي على عدة مجازات في نفس الوقت.
تعدد معاني الصورة  Polysémie de l'image
Créée par William Hill en 1915, cette caricature est intitulée "Ma belle mère / Ma femme".
هذا المثال صارخ ومعمول عمداً في الغالب ليعبر عن معنيين مختلفين في داخل الصورة نفسها. يمكن أن نبدأ برؤية منظر جانبي لامرأة شابة تلتفت إلى الجهة اليسرى وتنظر من أعلى كتفها الأيسر. ولو تأملنا ملياً في الصورة فسنرى أيضاً منظراً جانبياً لسيدة عجوز ذات ذقن طويل ومعقوف بعينين غائرتين وبأنف كبير محدّب، فمها ذو الشفتين الرقيقتين يحل محل وشاح المرأة الشابة. ليس من المستغرب لذلك أن يُطلق الرسام وليام هيل William Hill على عمله "حماتي، زوجتي" 1915، لأن الصورة تنطوي علي السيدتين كليهما. وبطبيعة الحال ترمي فكرة العمل الجوهرية الطريفة إلى القول باندغام وتمازج موقف الزوجة مع مواقف الحماة في لحظة من اللحظات أمام الزوج.
على أن الاستشهاد بهذه الصورة شبه الكاريكاتورية يستهدف، فحسب، إظهار المعنى الجوهري لتعدد المعاني الخاص بالصورة، مع الانتباه إلى أن أية صورة أخرى غيرها، مرسومة أو فوتوغرافية، تحتوى على تعدد معانٍ وإنْ بطريقتها الخاصة. وهو أمر حاضر لكن أقل مرونة في اللغة المنطوقة.
تعدد المعاني في البلاغتين اللغوية والأيقونية؟
في الخطاب اللفظي الجملة "هذه عجوز" لا تعني البتة "هذه شابة". لماذا يصير تعدد المعاني أقل مرونةً في اللغة المنطوقة بالمقارنة مع اللغة الأيقونية؟
إن علامة تماثلية analogique  (الصورة غالباً) تشابه مدلولهاsignifié  هناك شيء ما في الدال  signifiant  مشابه للمدلول: ثمة تماثل analogie.
إما العلامة الرقمية ( digital اللغة المنطوقة هنا) فهي، خلاف ذلك، لا تشابه مدلولها  signifié، فإن شكل الكلمة (تفاحة signifiant) لا يشابه التفاحة المرئية. العرف فقط، أي القانون المُتعلـَّم هو الذي يجبرنا على قبول أن الحروف (ت فْ فَ ا ح ة) تشير إلى مدلول محدد، يعرفه لنا القاموس فيما بعد تعريفاً دقيقاً ويجعلنا نتفق عليه. لا شيء في الطبيعة نفسها يبرهن وجود العلاقة دال- مدلول الرقمية digital، لذا فإن هذه العلاقة الرقمية هشة جداُ. وهذه العلاقة اعتباطية كما هو معروف منذ دوسوسير. وبسبب هشاشتها تبذل المجتمعات البشرية جهداً مستمراً لاستخدام العلامات الرقمية بشكل صحيح بمساعدة القاموس وبإملاء دقيق...إلخ. وبالعكس من ذلك لا يجري عملياً تعلّم العلامات التماثلية. إنها تتكون في الذهن رويدا ًرويداً وتنهض من دون جهد في الذاكرة وتُفهم بسهولة نسبية.
ثمة اختلافات أخرى بين هذين النوعين من العلامات لا مجال لسردها هنا.
المشكلة أكثر تعقيداً قليلاً عندما يتعلق الأمر بالمجازات البصرية. لا يوجد بالطبع تطابق حَرْفي بين اللغة المنطوقة واللغة الأيقونية طالما أننا في نظامين إشاريين محددي المعالم، ويشتغلان في حقلين خاصين بهما. لا يوجد تطابق بين مجازات هذين النظامين لكن يوجد تماسّات، كما هو الحال في تماسّ الدوائر الهندسية. توجد حقول مرجعية كبيرة أكثر مما توجد أدوات متماثلة حَرْفياً. وإذن ثمة أدوات خاصة بكليهما تحيلان إلى بعضهما ضمن الحقل الدلالي الواحد الواسع. حقل التشبيه في اللغة البصرية مثلاً لا يحتوي بداهة على أية أداة مثل (الكاف و"مثل") لكن الأداة متضمنة رغم ذلك وحاضرة بطريقة ملائمة للحقل البصري: إننا نرى التشابه ملموساً بعيوننا في حين تحضر أدوات التشبيه منطوقةً هناك.
صورة سعدي بقلادته يمكن فهمها بصفتها مجازاً. ويمكن قراءة تصريحه للجريدة انطلاقا منها كذلك. على أن تصريح سعدي يوسف لـ (أخبار الأدب) لم يُقرأ بالتوازي مع صورته، بل قرأ البعضُ من قليلي البصر والبصيرة في لباس الشاعر، وربما بقلادته تلك، تصابياً لا يليق بسنه، كما قيل هنا وهناك[4][4]. البعض لم ير القلادة - الخارطة البتة لأنه لا يعرف كيف يقرأ الصورة، ولا يستخدم عينيه أصلاً في ثقافة تـُفضّل الأدبي، خاصة الفضائحي منه من بين كل ضروبه الأخرى.
لدينا في حالة سعدي يوسف الراهنة علامتان، واحدة رقمية (اللغة) والثانية تماثلية (الصورة). تنفي إحداهما دلالة الأخرى ظاهرياً. التماثلية تحتمل تأويلاتٍ متعددة كما هو طبع الصورة دائماً. الثانية، اللغوية تحتمل القليل من التأويل. الصورة متعددة المعاني polysémie إذن مثلما قرأت بالفعل (شاعرٌ متصابٍ، عربيد... إلخ، بسبب اللباس والقلادة). والثانية، النص، قرأتْ بمعنى واحدٍ دون الغوص في عمقها، ووُضعتْ في تناقضٍ كاملٍ مع مجمل السيرة الشخصية للشاعر: لقد تخلى الشاعر عن وطنه، وانتهى الأمر.
المعاني المتداعية connotés في أذهان البعض عن الشاعر خبتْ وخفتتْ بسبب النص. النص يُعلن معانٍ قاموسيةً dénotés مباشرَةً فُهمتْ هذه المرة بمعناها الحَرْفي فحسب، من دون نأمة من التأويل الضروري رغم ذلك.
يمكنني الآن أن أفهم بشكل أفضل ذاك التناقض المُعْلَن بين صورة الشاعر وخطابه. تناقضٌ ظاهريٌّ مراوِغ فحسب، يفضحه لنا الخطاب الأيقوني في المقام الأول. صورة الشاعر العراقي تحتمل تأويلات عدة، مثل كلامه المستشهد به أعلاه. خارطة العراق المتدلية في سلسلته هي دالة ودليل أيقوني على ضرورة قراءة النص (أي تأويله) أبعد من ظاهره. العراق الحالي ليس وطني. وطني سيبقى يتدلى إلى الأبد قرب قلبي.

تونس 15- مارس (آذار) 2007
شاكر لعيبي أكاديمي عراقي، مقيم في تونس
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته

الصورة الكاملة: رنا التونسي وسعدي يوسف في النادي اليوناني، القاهرة
خاص كيكا
--------------------------------------------------------------------------------
 [1] الفارابي : رسالة في قوانين صناعة الشعراء ضمن كتاب فن الشعر لأرسطو، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ط2، دار الثقافة، بيروت 1973، ص157-158، وفي مكان آخر يشير إلى أن "الألحان … على مثال ما عليه كثير من سائر المحسوسات الأخر المركبة مثل المبصرات والتماثيل والتزاويق.." كتاب الـموسيقى الكبير، ص1179-1180.
 [2]  الدلالات القاموسية = dénotations. اجتهاد منا في ترجمة المفردة.
 [3]الدلالات المتداعية = connotations. اجتهاد منا في ترجمة المفردة، يترجمها المغربي سعيد بنكراد (إيحاءً).
 [4] نتحفظ عن إيراد النصوص المقالة بهذا الشأن، المنشورة في الصحافة الورقية والإلكترونية، وهي كثيرة بعد تصريحات الشاعر للجريدة المصرية.