سعدي يوسف .. الشيوعي الأخير (لا) يعود إلى البصرة.. في قراءة مزدوجة طباعة

سنكون أجمل من نهايتنا
يشكل العنوان مفتاحاً دلالياً كبيراً في علاقة سعدي يوسف بالكلمة، إلى حدّ أن العنوان قد يشكل نصاً مستقلاً قائماً بذاته في الطريق إلى النص الآخر.. وفي هاته الحال تختلف طبيعة العلاقة ودرجة التعاشق بين العنوان والنص الملحق. ان النص هو الشخصية. ودراسة طبيعة وخواص البنى الدلالية والتقنيات اللغوية والتعبيرية يقدم صورة قلمية عن النزعات النفسية

والفكرية المستكنهة وراء أو خلل النص. وليس سعدي يوسف ذي التجربة الريادية الطويلة والمتنوعة ممن يخشى الوضوح أو يتستر بالقناع والتخفي وراء الحروف. ولذلك قد يبدو العنوان (الشيوعي الأخير يذهب للبصرة) أكثر وضوحاً من الوضوح تحت أضواء نيون كلماته العريضة. الخاصة الثانية للعنوان، كمدخل للنص وللشخصية، هو المحتوى الموضوعي. فتعبير (الشيوعي) واضح وغني عن الشرح، وصفة (الشيوعي الأخير) غنية بالدلالات والمعاني الواضحة لمن يعنيه النص، وأن (يعود) إلى (البصرة)، دلالة العودة من جهة والبصرة تحديداً كنص مكاني مجموعة قوائم أو أوتاد تحمل خيمة القصيدة. ولو أن سعدي يوسف لم يكتب غير العنوان وترك صفحة الورقة بياضاً تتخلله سطور منقطة كما يفعل أحياناً، لاستحقت القصيدة الدراسة والتحليل والعناية الفكرية والاجتماعية. لكن سعدي يوسف الأكثر شفافية وقرباً من القارئ، والمترهل بالحزن والغربة وعذابات المنافي المتعددة لا يبني علاقاته مع الحياة والوجود والمجتمع على جسور من الفراغ . سعدي يوسف المتهم بالافراط في (الكتابة) لا يجيد غير الكتابة، أنه ولد ليكتب. واللغة هي لعبته وعشيقته وخنجره البدوي. وعندما تتقرن ملامح الزمن العولمي وتتكشر القباحة تبقى أصابع البدوي امرؤ القيس المعاصر على مقبض لغته وحروفه. لقد ترجم، وهذا ما يحسب له، حياته شعراً على مدى أكثر من خمسين سنة. ترجم تاريخ بلاده وحياة مجتمعه وناسه وصيرورة فكره وإرهاصاته كلمات وموسيقى وحباً. ويعرف المتعامل في هذا المجال أي نزيف هو عندما تكون حياة المرء إقامة دائمة داخل اللغة، داخل الشعور، داخل الفكر. رهين محابس ثلاثة وليس اثنتين. لكن سعدي، الذي أصدر مجموعته الأولى قبل أن يبلغ العشرين بعنوان مثير للالتفات [القرصان/ 1952] معبراً عن كثير من الاعتداد بالنفس والعميق من الانتماء للوطن واللغة والعصر، ليس أسير ذاتية نرجسية منطوية وانما تتماهى لديه الذات بالموضوع، ويختلف هنا عن آخرين أيضاً، بتلك الجرأة والصلابة والاندفاع التي لم تجعل لعقدة الفوبيا مكاناً في علاقته بالوجود والعالم، لذلك أمكن له أن يحرق مراحل نفسية وزمنية بينما يراوح غيره سنوات طويلة داخل مساحة مقننة.
*
خصائص لغوية واسلوبية
تنتظم المقاطع الثلاثة الأخيرة من قصيدته [الشيوعي الأخير يعود إلى البصرة] والتي تنصبّ عليها هذه الدراسة المقاربة، ثلاثة أزمان (نفسية). وهو يدخل الموضوع بتأنٍ وحذر. يمرّ القارئ عبر مقاطع طويلة ومتعددة، كمن يريد أن يخبر بشيء ويتردد، أو يتطير، أو يخاف أن يجرح الكلمة. وفي اللحظة التي يقرر الأفصاح، يخرج عن صفة الشاعر متقمصاً صفة الراوي في مسرحيات (بغداد الأزل بين الجد والهزل)* أو (الفرحة والحسرة في أخبار البصرة) مستهلاً القول بدلاً من صيغة المسرحية (يا سادة يا كرام) بعبارة [القصة وما فيها، يا أصحابي، ويا رفاقي]. وكأنه يعتذر عن الاسهاب والإطالة في المقاطع السالفة، مقرراً كشف الحقيقة على ظهور الملأ. ويبدو من السياق استخدام الراهن للإخبار عن شيء حدث في زمن آخر (ماضٍ)، ويتأكد ذلك من استخدام الفعل الماضي [ذهَبَ قاصِداً البَصْرَةَ]. وإذا كانت المقاطع الأولية قد أتعبت القارئ، وزادت من فضوله للدخول في الموضوع، فقد شكلت للشاعر عبئاً نفسياً مضاعفاً، بعد أن بقي يدور حول البؤرة ويتحاشاها زمناً لذلك جاء (استهلال القصة) مندفقاً في جملة واحدة طويلة وبلا توقف [القصة وما فيها يا أصحابي ويا رفاقي (لا أدري إذا كنتم تستعملون كلمة رفيق.. لا يهم!) أن الشيوعي الأخير ذهب قاصداً البصرة بعد أن ودّع حبيبته (ليزا) التي أوصته بألا يدخل البصرة بعد طول غياب إلا تحت الراية الحمراء]. وقد أسقط في خضم الاندفاق جملة اعتراضية داخل القوس تقديرها (لا أدري إذا كنتم – لا زلتم- تستعملون كلمة رفيق.. لا يهمّ). بينما تبدو ثمة كلمة في مكان آخر كأنها وضعت مقصودة وحذفها لا يخل من السياق، بالقول: (ان الشيوعي الأخير ذهب إلى البصرة بعد أن ودّع حبيبته)/ فمفردة (قاصد) التي تفيد (التوكيد والنية) في الجملة قد تكون كناية عن (إسم) شخص [ذهب إلى البصرة] بدون راية حمراء. وهنا تبرز مفارقة النص. فالشاعر يستخدم الفعل الماضي ويؤكده، وهذا هو مغزى (الحكاية) وما يتعلق بالرايات السود والبيض ورايات من نخل ورايات الملكة الأعلى. ويدعم هذه القراءة تاريخ القصيدة (25/ 5/ 2006) التالي على زيارة (قاصد) قبلها بشهرين. وهنا نلمس جانب عتاب شفيف يقطره في أذن مدينته الأولى. ويذكر أن البصرة شهدت أكثر من مهرجان لتكريم رواد المدينة كالسياب ومحمود البريكان وأغفلت الشاعر الذي كان زميلاً لهما، وله من المكانة والأهمية ما يدعو للفخر والكبرياء، ليس للمدينة ولكن للعراق والعرب أجمع. لكن معادلات الراهن العراقي، وكما شخصها أحد ادباء الداخل* بقيت مطابقة لمعادلات ما قبل (الدمقراطية)، فمن كان متصدراً المشهد أمس استمر في تصدره ومن كان ممنوعاً ومهمشاً استمرّ منعه وتهميشه. وسعدي يوسف المصادرة كتبه وإسمه في ظل النظام السابق لم يقدم له (تحرير العراق) تغييراً حقيقياً. ونجد ملامح هذا العتاب في تقديمه لكتابه الشعري الأخير (حفيد امرئ القيس) وشبه التعتيم الذي ووجه به، ناهيك عن تفاصيل أخرى. وكل تلك مسائل جديرة بالتوقف والتأمل ليس في معنى الثقافة والدمقراطية وإنما في معنى الوطن والحكومة والمواطن والانتماء. [أسماء ليس لها سوى ألفاظها..] حسب تشخيص الرصافي، وهو ما أشار إليه كاتب عراقي آخر في مداخلة بعنوان (حرية.. دمقراطية!!!)***. ويستدل من هذا المنظور أن صياغة العنوان (الشيوعي الأخير يذهب إلى البصرة) تتضمن مستويين من المراوغة، الأول لغوي، والثاني نصي. فصيغة المضارعة في العنوان لا تنسجم مع صيغة الماضي في القص والنص. واختلاف ألوان الرايات [لا يدخل البصرة بعد طول غياب إلا تحت الراية الحمراء] لا تسمح بتحقق المفروض. وتهيمن صيغة المضارع على التشكيلات الاسمية (المبتدأ والخبر). ويتكون هذا المقطع كذلك من جملة واحدة متكررة في صيغة التأكيد أو البدل مفتاحها [في البصرة (ثلاث مرات) + لكن في البصرة] وهي جملة طويلة تتضمن جملة اعتراضية أو تفصيلية داخل قوس. وفي هذا المقطع والسابق له، استخدم الشاعر اسلوب الجملة الاعتراضية من جهة،  واسلوب (البوح المباشر الحميم) مع المتلقي [يا اصحابي.. يا رفاقي.. لا أدري إن كنتم..] و [وبلا أيّ كلام (أرجوكم!)]. أما المقطع الثالث فتتداخل فيه الأزمان الثلاثة [ها هي ذي..، تتبع، أظلّ (مضارع)/ ضاعت، نيسناها، ضعنا، تخذنا (ماضي)/ سوف نعود، يطلق ، نرفع، سنكون (صيغة المستقبل)]. وهي ختام القصيدة،الذي يشكل دعامة ثانية لعدم (تحقق) العودة حتى الآن، من جهة، وأن المقصود هو (عودة) أخرى اتخذها الشاعر قناعاً لتمرير فكرة النص.     
*
جدلية المكان ومقومات السرد واللغة
تتميز قصيدة سعدي يوسف  بشخصية واقعية موضوعية لا تمتح من الميتا فيزيقا ولا تحلق في مجازات اللغة واستعارات الاسطورة، فهي بذلك كائن اجتماعي مرتبط بجغرافيا وانتماء وهوية. وهذه أحد خصائص الشعرية العربية والحداثوية التي اختزلتها نصوص المتأخرين، في حمأة استنساخ النص الأجنبي أو تهيؤات العالمية. أحد أبرز مقومات كيان القصيدة هو المكان. المكان كنص اجتماعي سياسي حميم ومؤثر. وقد لا نجد قصيدة لسعدي لا تصرح بانتمائها للمكان، بأبعاده الوجودية والوطنية والشخصية. حتى صور سعدي المنشورة لا تغفل انتماءها لخصائص المكان المحدد، وهذا يختلف عن صور يبدو المرء فيها داخل فراغ أو فضاء أثيري. وفي هذه القصيدة يحتل المكان (البصرة) القسم الرئيسي من المضمون ومحور حركة النص اللولبية خلال مقاطع متعددة ومتمهلة وصولاً إلى الذروة (Top) التي ينقطع عندها الكلام ويترك المجال للصمت والتأمل [سنكون أجمل من نهايتنا!].
وقد تكرر ذكر البصرة في المقاطع الأخيرة ثمانية مرات، مرتين في المقطع الثالث (من نهاية القصيدة)، خمسة مرات في المقطع التالي له. أما في المقطع الأخير فلم يرد لها ذكر. وقد وردت منصوبة (مفعول به) في المقطع الثالث [قاصداً البصرةََ / يدخل البصرةَ]. بينما وردت مجرورة ومكسورة خمسة مرات (حرف الجر أربع مرات ومجرورة بالاضافة مرة واحدة) في المقطع (التالي) ما قبل الأخير [في البصرةِ (4)+ ملكة انجلترا والبصرةِ]. ولعلَّ من حق القارئ أن يفاجأ لماذا لم ترد مرفوعة مرة؟؟!. [نحن نحبّ العراق فنرفعه!!]، قال الجواهري مرة. هنا تكمن المفارقة. فالبصرة التي يريدها الشاعر، ويشغل بها وجدان القصيدة، ليست عائدة له، لأنها ليست عائدة لنفسها، وانما هي قبض الغزو، والغزو يكسر ويجرّ، وليس من شيم الغزو الرفع.
*
تقاسيم حبّ وانتماء
أولاً: علاقة الشاعر بالبصرة، هي علاقة الانسان بالأرض الأولى، وعلاقة العاشق بالمنزل الأول، علاقة روحية غير قابلة للفصم أو القسمة أو التبديل والتزوير. يجسد سياق المعنى العام للقصيدة وقوف الشاعر على جانب مدينته واعتداه بحياته وأصدقائه وذكرياته فيها ووعده بالعودة إليها. في أبي الخصيب ولد، وفيها درس، وطبع كتابه الشعري الأول وهو لما يبلغ العشرين بعد، و فيها صدر كتابه الثاني وهو طالب في الجامعة. وعندما ارتحل.. وبدأت علاقة قدمه بالبراري والبحار، نظر إلى الأفق.. نظر إلى نفسه، ليكتشف كم هي بعيدة عنه، تلك الجنة المسيجة بالنخيل يشقها نهرها العرمرم الدفاق مثل جمل يحمل ضفتيه على ظهره منذ الأزل ويتقدم نحو الأبدية.. نحو الجنوب.. نحو الخليج.. أما الشاعر فقد اتخذ طريقاً أخرى (بعيداً عن السماء الأولى)/ 1970، نحو بيروت، نحو (نهايات الشمال الأفريقي)/ 1972، معتقداً أنه من هناك.. سيرى بصرته أفضل.. كم يلزمنا أن نبتعد.. لنرى أنفسنا افضل!.. هل يستوي الخليج والبحر الأبيض.. هل يتشابه المحيط الهندي والمحيط الأطلسي ، [قديماً كان آلهة/ لنا من تمر في البصرة/ تحلي الروح في فمنا/ ومنها تعصر الخمرة]!. منذئذ لم تهدأ حركة الأرض، ولم يستقم دوران الأشياء، وكلما كانت الحركة تزيد، كان الناموس يضطرب، والمياه تختلط، والجغرافيا تضيع.. وعندما أصبح العدو في عقر داره، بصرته، كان سعدي يوسف يدور الحركة المعاكسة، ويحتل العدو في عقر داره، بكلماته، بشعره، بكيانه وروحه . ومن هنا (/هناك) صار يرى الأشياء أفضل (ربما!)، يعدّ سنواته المتراكضة ويحتفل بعيد ميلاده بصمت ووحشة ونافذة مسدولة الستائر. كلما تقدم المرء في الزمن، صار أكثر التحاماً بالماضي واستغراقاً فيه. فليس أجمل في هذه السنوات غير فرد الأصابع على مدفأة الماضي السحيق، حياة الطلبة، النصيرة والنصير [لا أدري إن كنتم تستعملون كلمة رفيق.. لا يهم!]. لا أدري إذا كان وصف اليسار بالتطرف ووصف الاشتراكية بالطوباوية بريئاً ومنسجماً مع العقل السوي، كما أشكّ في صحة وصف الرأسمالية المتراكمة - حسب تعريف نعوم تشومسكي- للعولمة بالنيوليبرالزم [New Libralism] أو اعتبار (الأمبريالية) الفاشية نهاية التاريخ حسب الموظف المخلص في خدمة الادارة الأميركية فرانسز فوكوياما. كما أشكّ، في صدق شعار [تحرير العراق] شكي في أغراض (عاصفة الصحراء) و (ثعلب الصحراء) وكل ما تنجبه الصحارى العاقرة. [لكنني، وأنا الشيوعي الأخير، أظل أحمل رايتي الحمراء]. ذلك [أن النهر يظل لمجراه وفياً.. أن النهر يظل.. يظل..] يقول مظفر النواب، والبصرة نهر، لأنه لا بصرة بلا نهر.. وابن البصرة هو ابن النهر.. الذي لا يغيره مجراه، حتى وإن حاولت الحكومة تضليله بين [القرنة والمدينة]. بين الرايات السود أو البيض، بين العجم أو الانجليز، بين التحرير أو الاحتلال ، بين الفتح أو الغزو.
ثانياً:- الشاعر الذي يحبّ بصرته ويرتبط بها بمشيمة الانتماء الجذري لا يتركها مجرورة مكسورة أو منصوبة على المفعولية، وانما يبعث فيها من روحه وينتشلها من رمادها ويرفعها عالياً.. يرفعها عاليا مساوياً بينها وبين المقابل فيقول [ملكة انجلترا والبصرة] ، واضعاً البصرة نداً لأنجلترا، رغم أن البصرة مدينة أو ولاية جزء من دولة تحت الاحتلال بينما انجلترا دولة سيادية متنفذة وهي تحتل (البصرة) وما جاورها بالجيش والجواسيس والشرطة والسياسة والاقتصاد. أما الدلالة الثانية التي يسجلها الشاعر لمدينته الحبيبة فهو اختزال سلطة المقابل. لأن اليزابيث الثانية هي ملكة المملكة المتحدة للجزر البريتانية المنتشرة في العالم الشمالي والجنوبي وليست (انجلترا) غير جزء منها. وعلى الصعيد القياسي أو المعادلات الحسابية يكون الشاعر قد حافظ على الانسجام داخل المعادلة بوضعه (جزء) البريتاني مقابل (الجزء) العراقي.  هذه المعادلة الجيو- بولتيكية هي نموذج للانتماء الحقيقي الذي تمليه المكنزم الشعوري والفكري والفطري من أرضه ووطنه ومسقط رأسه وأهله، مؤمنا أن القصيدة كنص تاريخي واللغة سلاح أكثر مضاء من أساليب وظواهر وادعاءات أخرى. ولكن موقفاً بهذا المضاء والوضوح، لا يقدمه غير سعدي يوسف، أبرز رواد الحداثة الشعرية العرب المعاصرين، بكل ثقل تاريخه السياسي وجهده الفكري وانتمائه الأسمى من أبواق الاعلام الصفراء. [بوق القيامة نحن] . سعدي.. هذا الجبل الوطني.. لا يرد كلمة بكلمة. لا يلاسن. وهو ذلك الأب الروحي الذي صرم سنواته السبعين وهو يحرث حقول المنافي الخصبة بلداً أثر بلد، بينما حقول بلده يحرثها جراد أسود وأبقع. (أنا حتفهم) قال الجواهري ذات يوم. ثمة بلد يتمزق. ثمة كيان يتهزأ. ثمة أمة ضاعت أو تضيع [ هل ضاعت بنادقنا.. أم أننا ضعنا وقد ضاعت بنادقنا؟]. لقد حدث ما حدث، بتغييب حقيقي لرواد فكر العراق وصانعي ثقافته ومستقبله الحقيقي. وما سيادة الجهل وطقوس الظلام إلا نتيجة لغياب الدور الثقافي الحقيقي وتزوير جوهر البلاد العلماني ومظاهرها الثقافية والعلمية.  
ثالثاً:- الجمل الأسمية في المقطع ما قبل الأخير اعتمدت تقديم (الخبر) على المبتدأ. وقد تشكل الخبر من (شبه جملة) تتكون من (جار ومجرور). وارتبط مغزى تقديم شبه جملة الخبر بورود البصرة فلم يشأ تركها في نهاية الجملة ليقول [رايات سود في البصرة/ رايات بيض في البصرة/ رايات من نخل ذي أعجاز خاوية في البصرة/ لكن، وبلا أي كلام (أرجوكم!) رايات الملكة الأعلى من كل الرايات في البصرة أيضاً]. فتقدمت البصرة على المبتدأ، تقدمت البصرة على الرايات السود والبيض كل حسب دلالاتها، وتقدمت البصرة على (رايات الملكة الأعلى). وهي إشارة متعددة ارتفاع قيمة الوطن على ولاته وغزاته. ولئن وردت مجرورة أو مكسورة، فقد حرص الشاعر على حفظ مكانتها ومقامها على سواها. وكما سبقت الاشارة، فان الحطّ من قيمة الآخر دالة نفسية لرفع مدينته والفخر بها. ويدخل في باب الاشادة والانتماء القسم الذي يسوقه النص [سوف نعود/ أحراراً/ شيوعيين/ نرفع راية مروية بدم وأوحال/ وندخل أرضنا]. قسم العودة والانتصار والخلود مضمخ بعبق خطاب وطني (منتمي) تأخر ظهوره في الأدب العراقي ويتحاشى كثيرون التقرب منه. ومن جهة أخرى، فعبارة (أرضنا) هي رفع البصرة من مدينة جنوبية لتكون رمزاً للوطن والأرض، وهو يتقابل هنا مع الوجه الآخر عندما جعل (البصرة) في مضاهاة انجلترا يضعها الان بمضاهاة [وطن / عراق].
رابعاً:- في سياق الاستهلال التدريجي للنص لدخول البصرة المُفترَض يستخدم الشاعر خاصة لغوية نفسية أخرى بتهيئة جوانيات المتلقي للمفردة. فنجد توارد حرف (الصاد) وهو حرف [النبر] القوي في ملفوظ (البصرة) خلال النص : [القصة~ أصحابي ~ قاصد~أوصته] ولا يرد لفظ (البصرة) إلا بعد سبقه بموسيقى (صول) داخلية. وفي المقطع التالي رغم تكرار البصرة المتعاقب في بدايات الجمل، استكمال أنغامها في [المقصود ~ القرصان].  وفي المقطع الأخير [نصيرة~ نصير~ صباح]. ومن الأحرف التي تنسجم مع الصاد [سين / ضاد – شين / طاء] وقد تكررت في أبنية لغوية متعددة مضيفة درجة من التلوين والتنوع النغمي في اللغة. ما يقتضي الاشارة هنا هو جدلية الضاد. وهي من أقرب أخوات الصاد النبرية في البصرة. فقد وردت في مفردتين في المقطع الأخير تحديداً، مرتبطة بـ [أرض~ ضياع]. فبعد تكرار مقصود لملفوظات (الضياع) .. [ضاعت~ ضعنا~ ضاعت] في صيغة استفهام محيلة على [نحن- بنادق] المنتجمة مع واقع معين (غزو)، ترد لفظة (أرض) في صيغة إثبات خبري وتأكيدي [سـنعود .. وندخل أرضنا] محددة الجملة ما قبل الأخيرة في ملفوظ النص. وثمة لفظتان وردتا في المقطع ما قبل الأخير [أيضاً - طبعاً] ولكل منهما دلالة واضحة فيما يخص معادلة المدينة والغزو.
وإزاء تجمع مبررات وضرورات لاختصاص النص بالبصرة، وعدم الاشارة المباشرة لبقية أجزاء الوطن، نجد خيطاً متيناً بين إقامة الشاعر في انجلترا وقيام هذه باحتلال مدينة طفولته وصباه وشبابه المبكر، فكل صباح وكل نسمة تخترق النافذة تذكره بصباح ونسمة مغتصبة. وما بين الغاصب والمغصوب يقف الشاعر وحلمه. 
*
القصيدة:
سعدي يوسف    
الشيوعي الأخير يعود إلى البصرة
 (هنا المقاطع الثلاثة الأخيرة فقط من القصيدة لغرض الدراسة)*
" القصة وما فيها، يا أصحابي، ويا رفاقي (لا أدري أن كنتم تستعملون كلمة رفيق.. لا يهم!)
ان الشيوعي الأخير، ذهب قاصداً البصرة، بعد أن ودّع حبيبته (ليزا) التي أوصته بألاّ يدخل البصرة بعد طول غياب، إلاّ تحت الراية الحمراء.
*
في البصرة رايات سود
في البصرة رايات بيض،
في البصرة رايات من نخل ذي أعجاز خاوية
لكن في البصرة ، أيضاً، وبلا أي كلام (أرجوكم!): رايات الملكة الأعلى من كل الرايات!
[المقصود بالملكة هنا اليزابيث الثانية (الأولى كانت تمول – القرصان- فرانسس دربك في القرن السادس عشر، الميلادي طبعاً) واليزابيث الثانية هي ملكة انجلترا والبصرة وما جاورها في القرن الحادي والعشرين].
*
وها هي ذي، إذا...
إسطورة الآيات تتبع فوهات من بنادق أهلها،
لكنني، وأنا الشيوعي الأخير،
أظل أحمل رايتي الحمراء..
هل ضاعت بنادقنا؟ نسيناها؟
اتخذنا غيرها؟.. أم أننا ضعنا وقد ضاعت بنادقنا..
سلاماً ..
للنصيرة،
للنصير،
لفتية وضعوا على القنن الغريبة والروابي..
الراية الحمراء.
سوف نعود للقمم..
الصباح الجهم يطلق بوقنا؟؟
بوق القيامة نحن..
أحرارا، شيوعيين
نرفع راية مروية بدم وأوحال
وندخل أرضنا..
.................
..............
.........
سنكون أجمل من نهايتنا. "

لندن 25/ 5/ 2006
------------------------
·                    من أعداد واخراج الفنان قاسم محمد – تقديم الفرقة القومية للتمثيل وفرقة المسرح الفني الحديث.
·                    الكاتب حسن عبد الرزاق – جريدة المدى ..
·                    الكاتب مهند حسن السماوي (حرية دمقراطية..) على الشبكة.
·                    القصيدة منشورة في صفحة الشاعر في (الحوار المتمدن).
·                    وديع العبيدي شاعر وقاص وناقد مقيم في النمسا له عدة اصدارات أدبية ونقدية ونشريات في الصحافة منذ السبعينيات.
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته