سعدي يوسف- يطرق ما تجمعه النافذة من فضاء طباعة

عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته
الحوار المتمدن - العدد: 1211 - 2005 / 5 / 28

إصغاء الأصم. والليلة أقلد بازوليني...
منذ سنوات قليلة ناقشنا، كنا ثلة أصدقاء، القصائد الأخيرة للشاعر سعدي يوسف وكيف أن هذه القصائد راحت تختلف عن الأولى: لم تعد قصائده كما كانت في السابق حيث كانت تدور في عالم نألفه! لقد علق أحدنا بأن الإلهام قد غادر الشاعر وهاهو أخيرا يجهد قريحته للاستمرار!
وأظن بأن السبب لم يكن في القصائد، التي بدت لنا فاقدة للشعرية آنذاك، بقدر ما كان فينا حيث أننا لم نتعاطف أو لم نمنح أنفسنا مغامرة اكتشاف النوع المختلف لرؤية سعدي يوسف

منذ مدة نشرت جريدة الحياة مقالة عن قصائد الشاعر وكانت المقالة تشير في النهاية إلى أن هناك رؤية مهاجرة في القصائد وفيها ضباب وبرودة أوربا... وقد عرض الناقد العراقي د.ضياء خضير في جريدة الزمان قراءة لقصيدة إصغاء الأصم. قال في مقدمتها بأن: ثمة شعور أساسي يخامر الشاعر... في هذه القصيدة هو فقدان الشعور بالمشاركة في حياة الآخرين... انغلاق الأفق أمامه وتضاؤل مصادر الإبداع التي تحركه.
وأظن أن المسألة كلها ليست كذلك. ليس انغلاق الأفق وتضاؤل مصادر الإبداع للعالم، وليس الضباب ولا البرودة. بل أنها حالة من رؤيا تتجاوز المألوف وتخرج عن المعتاد. إن الغناء في هذا النوع من القصائد هو غناء له أدواته الخاصة، فهي ( القصائد) لا تنتمي إلى المشاعر الجياشة التي تحمل في مضامينها طاقة الشعر-الشاب الروحية. ليست القصائد رشيقة بل هي قصائد بطيئة فيها كهولة- حكمة قد ارتفعت عن الأرض لتسكن في مكان بعيد حيث منه يتم استشراف الحول الأرضي. صور بطيئة لا تحرك كل الجسد للرقص بل تحرك عضلة صغيرة في الوجه: تعبير عن رقصة كاملة، كلمة واحدة أو سطر عالم سعدي يوسف. هكذا ثقل الكتل التي يمر عليها الشعر لا تسمح بالحركة الرشيقة فعالمها عالم يتحول بدرجات ميكروسكوبية كي يذهب في التعبير إلى مطالات بعيدة، الى حركة كونية ذات مقاييس مؤثرة كبيرة الحجم. إن الذي يقوم به سعدي يوسف هو ما يقوم به أصحاب الكلمة الأخيرة حين يكتفون بكلمة واحدة كي يسطروا كتابا على سبيل المثال. وليست الكلمة كلمة ما قل ودل بل أنها رؤية لجرم بعيد يعرض الشاعر فيها ما يراه من مسافة لا تسمع منها الصوت ولا يلمس منها الضوء.

ومن الصعب الإحاطة بالتصور الكامل لمقاطع القصيدة. فالمراقب الذي يتخيل الصور هو مراقب غائب عن الوعي- لحيازة النظرة الكلية ذلك لأن الوعي قد انهزم بسبب عدم قدرته على تفسير العالم. لا يقول كل التفاصيل بل كلمة واحدة تشير إلى المجموع، فالحر كما يقال له الإشارة. إنها إشارات متقطعة منفصلة لكنها موصولة بذبذبات داخلية تمور داخل الشاعر.
إصغاء الأصم:
شجرٌ
لا أعرف ماذا أسميه
يطرق ما تجمع النافذةُ
من فضاء...
كأن الغصون التي عريت صارت المعدنَ
المستحيل
الأصابع في مرسم لصديقي الذي جنّ...

كان الضباب يشف
قليلا
قليلا
عن النبتة- النقش في ما يقال الستائر،
أصغي إلى نفسي في البيانو المعطل
هل آن أن أرتدي ما يقيني
وأخرج؟
( إني أحس صلاصل في الصدغ)
لكنما الغابة الآن تدخل منأى الضباب...
إذاً، لن أغادر زاويتي،
سوف أتبع (أسمع؟) ما يصنع الكون
ما تفعل النغمات الخفية بي...
سوف أغمض خطوتي
وأهف همسا تلاشى
لأمضي إلى ما يريد الضباب.

في هذه القصيدة الثقيلة يعرض الشاعر الصمم. وعرض حالة الصمم نستدل عليه ليس من عنوان القصيدة فقط بل عن طريق الشجر الذي يطرق فضاء النافذة: لا يمكن لحاسة السمع أن تحس وتدرك هذه الصورة فتروي لنا طرق الفضاء! ذلك لأن حاسة السمع هي حاسة ضجيج، لا تسمع رهافة الطرق الذي يفعله الشجر بالفضاء، إذاً هناك حالة صمم هي التي تقوم بهذه المهمة. حين تتلاشى حاسة السمع فإن حاسة أخرى تظهر على السطح كي ترى العالم رؤية مختلفة غريبة. هذه الصورة (الطرق ) هي صورة لا صوتية تتعاضد معها صورة جمع النافذة للفضاء. وحاسة السمع المفقودة هنا هي ليست عاهة بقدر ما هي شبه غيبوبة تضع الشاعر بين أرضين.
وتشبيه غصون الشجر في المقطع التالي بأصابع الفنان- بالمعدن المستحيل، وإن أخذنا المقطع الأول بالإضافة إلى ذلك، فأننا نلمس تداخل عالمين من الصعب تحديدهما "لست أعرف ماذا أسميه: يقول الشاعر. عالمان تصاهرا كي يولدا عالما آخر لا صوت فيه: عالم يتم فيه جمع الفضاء من خلال النافذة. وفيه الشجر (النبات ) يتماهى مع النقش في مرسم فنان قد جنّ.
هذا التوحد بين الجماد وبين الحي: الشجر والنافذة والنقش. حيث يدلل الشاعر على التوحد حين يصغي إلى نفسه في البيانو المعطل أيضا. هذا التوحد يفتح بابا يشير إلى أن القصيدة قد دخلت إلى عالم آخر يتحد فيه السكون مع عطالة الحركة، وهذا العالم الجديد قد جاء عن طريق إبطال قوة الحركة وديمومة الحياة في العالم القديم. وهذا الإبطال هو رد الفعل الوحيد لنقد العالم. لقد تحولت الحركة ( حركة عالم القصيدة) إلى حركة صماء فراحت النافذة تجمع الفراغ وراح الشجر يطرقه.
أصابع الشجر هي أصابع الفنان الذي جن، يرسم النبتة النقش في لوحته ويطرق عالم الصمت فيها...
ولقد كان الضباب حاضرا منذ بداية القصيدة لكن الشاعر لم يلمح إليه إلا متأخرا. فالضباب هو عنصر الرؤية يملأ عالم القصيدة اللوحة. لم نكتشف وجوده إلا حين بدأ يشف عن الستائر. وهذا التشفف لم يأت من حركة العالم بل جاء من حركة روح الشاعر التي تريد الخروج أو العودة. وجاء من رؤيته المستديمة التي راحت تقشع الضباب قليلا فقليلا.
وهنا بعد أن راح الضباب يشف يصغي الشاعر (لأول مرة ) إلى نفسه فيكتشف بأنها موجودة في عالم معطل، عالم لا موسيقى له! هل آن إذاً الوقت أن يرتدي ما يقيه ويخرج؟! لقد أخذ الضباب يتبدد فسمع الشاعر نفسه في عالم البيانو المعطل والذي كان قد أسكت ضجيجه الضباب. (تبدو لي الصورة متداخلة حيث يصعب رؤيتها كاملة باستخدام فكرة واحدة. إنها صور في صورة تحتاج إلى أكثر من فكرة للإحاطة بها)
لكن الشاعر إن قرر النزول والخروج إلى عالم البيانو فسيحس بصوت العالم يصلصل في صدغه! فهو إذاً لن يفعل ذلك. لا يريد الخروج وهو هنا إذ ينظر إلى الغابة مرة أخرى يراها تدخل منأى الضباب: إذاً، لن أغادر زاويتي.
سوف يتبع خطى الكون وما يصنعه من نغمات خفية في نفسه.
إن المسألة كلها هنا، في هذه القصيدة، هي محاولة تهريب العقل والوعي من الحكم والمنطق البليد. حيث هناك إشارات خفية في القصيدة تشي بأن حطام العالم وقع فوق كاهل الشاعر لأنه يريد أن (يرتدي ما يقيه ويخرج ) وهو لا يريد بعد اليوم أن يمشي كما يمشي عامة الناس. سوف ينظر إلى عالم الجنون بعيون أخرى لا تمت إلى عالم المنطق بشيء، بل إلى نغمات الضباب ويهف همسا تلاشى- يسمع ما يصنعه الكون ويغمض خطوه
إلى ما يريده الضباب.
الضباب الذي لا يريد إلا إسكات عالم البيانو الصاخب...