سعـدي يوسـف: رقادك في الثلج طباعة

 كاتب وشاعر عراقي مقيم في عمان
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته
 جالس هذا اليوم على طاولة زينتها، تلعب أصابعك بماكياجها، تلعب على جسدها بسعف يديك، أنت المتأمل الذي يأكل فاكهتين من سلالها، أنت المتأمل تجلس في شرفتها، تقرأ الصحيفة وتختار من ثمار جسدها الناضجة تفاحة فجة.
*
رقادك واجهةٌ في الثلج، لغة مذهبة تصنع الليل، وهذه المرأة من سيقانها تصنع الليل، من وردة خاوية ينضو

البرد عنها الثياب. مثل قطران مظللِّ  بالثلج، حب وقطران متوج بكل خرق البرد، مبخرٌ ومظللٌ ومصفى باللهب، وهذه البلاد ملتهبة ببردٍ مفاجئ في الليل.
*
 لست إنسانا يكون، أو سيأتي ليموت، أو ليحيا، أو ليموت في ثنية الورد، أو وردة تمنح اسمها لكل ثلج، لوردة مولودة في الأرض، وعائدة إليها مثل لحم خصب وحي، مثل ماء ليليّ يروق القلب، مثل لغة تمنح النعاس اسمه، حب ونسيان من الثلج، يحيا وهو مذعور من البرد.
*
 رقادك يمنح الريح أعضاءها، رقادك فارس العري في الهواء، أنت والحياة شقيقان تحتسيان شاي الريح ذاته، نجم تائه وشاي امرأة تجلس ويداها ملتهبتان بعد أن لمست برد التعري، شايك ساخن في الليل يذيب ثلج الليل في التراب.
*
 أنت أخيراً تلمس الثلج بيديك.. تلمسه.. وتذوقه، وفمك في النهاية معرى في الهواء، والشعر أمامك ساجد وأنت تطهره، الشعر أمامك ساجد ثم ها هي يداك أصبحتا حلما، وأصبحت أنت قلبه ..أنت الأرض والشعر شجرة.
*
 أنت الذي ضيعت اسمك المصنوع من الثلج، أنت الذي ضيعت اسم أكثر الفتيات عتمة، وأكثرهن عريا في التراب، أنت الجالس الحي حالما بكتفيك، حالما بهذا الماء، حالما بالتراب، أنت جالس حي وبياض وجهك من دم قان، يجعل ظلام الليل مشعا.
 معلق أنت، وردة مذعورة ومنقسمة إلى اثنين، نقطة لم يعد يرتقي إليها أحد، أنت لن تجد نفسك إلا في هذا الكلام الذي لم يعد ضروريا أبدا، لن تجد نفسك إلا في هذا المكان الذي وعدت نفسك به، هذا المكان المتوهج، مع صعوبة أن تجد نفسك وأنت مغمور في الثلج.
*
الكل مغمور هنا، الكل مغمور بالثلج إلى جوارك، مغمور في جوهره، هذا العدم الذي كنت تهرب منه فيما مضى، هذا ما كنت تهرب منه، هذا الذي يطبع كل حدث كنت تريد الوصول إليه، يطبع الوحي الموجود في ضميرك، نقطة فسفورية هابطة من نيازك بعيدة.
*
 قيثاراتك في الريح، قيثاراتك في المطر، الريح واللهب أثرك حينما تلتهب الفكرة وحدها في المطر، أنت لهب حي يرتجف، ولن يبقى في اللهب الحي إلا شجرة. أنت لهب وقيثارتك في المطر، وفجرك يبكي وحده على زجاج النافذة.
*
 أنت جوخ العشب الذي يبتل في الماء النقي.  لهب فكرك وهذا الحجر الكلسي حب، ولن يبقى في لهبك إلا شجرة واحدة لا تموت، هذا الحجر الكلسي حب وأنت قماش من العشب الذي يبتل في الماء الحي، يبتل ويموت في الماء النقي، في الماء الذي يمد لسانه إلى الصخرة مثل كلب.
*
مطلق ثلجك في الليل، لغتك مصباح أصلع وليل يهمسان، ويداك الذائبتان على الطاولة صخرة مهشمة، وخبز وجودك موضوع على الطاولة دون أن يمسه أحد، أيادينا نحن أيضا موضوعة على الطاولة، دون أن تمس صخرتك المهشمة.
*
 أنت ذاتك وبذاتك، ونحن نتطلع نحوك، مرفق كمانك الثقيل خشب محطم بين ساقيها العاريتين، خشب أكثر صفاء من كل خشب، أكثر صفاء من كل الغيوم التي تمر، خشب كمانك بين ساقيها العاريتين، خشب محطم في الحديقة.
*
 صورتك غيوم ملتهبة، غيوم تحترق في مسارح الريح، غيوم تلتهب في مسارح الريح والمطر، ليل من الثلج الحي والنار، جواد وشجرة يحملان علامة تبرق في السماء، علامة عارية أكثر عريا من امرأة، وأكثر صفاء من شجرة تحت المطر.
*
 أنت تتعرى متقهقرا في الثلج، تتعرى وتتغطى بالغيوم، تأكل الزهور وترمي الفاكهة إلى الكلاب، الفاكهة التي تتعرى وحدها على الشجرة، تبرق وتتعرى على الشجرة، وأنت تزرع في السماء النجوم بقليل من الأبدية.
*
 النهار يغطي الليل بالغيوم المضيئة ويجعل النجوم معتمة، هذا الجانب الحي من النجوم مع كتفك الملتهبة كلاهما يرشفان أبدية النهار، أبدية النهار الحية الملتهبة، أبدية النهار التي تشرب من النقاوة ماءها المصفى، ثمار حديقتها مصنوعة من ثلج، وحديقتك الثلجية ثمارها من لهب.
*
 حديقتها الملطفة باللهب، مانحة يديها الاثنتين إلى الثلج، مانحة يديها إلى عطية الغيوم، مانحة وجهها إلى من يشع مثل نار في النجوم البعيدة، نجوم اجتازتها الغيمة القادمة من الفكرة، نجوم تشع وتبكي، نجوم تبكي بكاء امرأة أوجعها العالم.
*
أنت سحابة من المعرفة، امرأة وجرح، امرأة مجروحة تئنَّ مثل قطة، أنت حمامة منبهرة بتمهل شديد، شجرة يحترق وجودها، وجود ملتهب يتعذر إخماده، وجود ليس وجود أحد، لكنه وجود مع المرأة الحية، وجود قليل من الموت، امرأة راقدة بحريق الصور.
*
 راقد في بلاد الثلج، راقد مع كماناتك، مع ورودك الشفافة بلا رائحة، معتم بعبور الغيوم، معتمة حياتك المغسولة بقطرات ماء مطلقة، معتمة حياتك وقلبك قلب المرأة المصنوع من شجرة، ووجهك غيمة تتوهج في ظلام البروق.
*
 وجهك مغسول بماء البحر، وجهك مغسول بماء البحر ومحترق بالزبد، وجهك وجه الماء في الظلام، وجه جمال ممسرح في الظلال، جمال برماد طفيف، أنت حي وميت، حي في غبار الأحياء، حي في غبارك، وعذوبتك جعلتهم يولدون من جديد، جعلتهم يولدون رمادا.
*
 مسرح وجودك العظيم تحت المطر، جسد المتاهة الجميل مضاء بمصباح من طرنجان، مضاء في مرآة ساطعة، حيث تلتهب غيمة فوق المطر، غيمة تصنع لنفسها قوة حمامة تشعل الحب في العيون، حمامة تخفق في وجهه الغيوم، وتحط تحت المطر، متروكة مثل سلاح مركون.
*
 هذا جسدٌك معرى تحت المطر، جسد خصبته الغيوم، جسد راقد في الثلج ومنتصب في ضياء شجرة، جسدك المهمل يتوسل مطلق الأمطار في وجه شجرة، وجهك يعانق العشب والثلج، يبكي تحت المطر، ويداك مرفوعتان إلى السماء مشعتين مثل نار.
*
 أرضك بعد أن يذوب الثلج، تضطرب وتشع مثل نار، تشع بحب هو الأكثر حماسة من كل حب، أكثر حماسة من طائر حن ضائع، ضائع تحت سحابة متوهجة، أرضك بعد أن يذوب الثلج تهتز مثل سراج أطفأه المطر، مثل يديك المرفوعتين وهي تحضن هشاشة اللبلاب.
*
 أنت تشع وحيداً في الأعالي، تشع من الحياة، أنت سراج يحترق بمهل، يحترق بتؤدة مثل روح، حجارة مرتفعة فوق الأرض، علامة خارجة من الماء مثل كتف غريق، امرأة تشع، جروحها تضيء مثل نجمة ضيعها النهار.
*
 أرض قديمة أخرى بلون القمح، أرض تثقبها الأحجار، مثل امرأة تحط على كتفها الطيور، الدم يجري منها ويسيل منها، أرض جريحة بحجرٌ معتم، أفخاذها حمامات لا تطير، أرض شاسعة يستقر عليه البرد، غير أن الرجال يصبحون أحلاما لا غير.
*
 صديق النار أنت ورقادك لا يكون إلا في الثلج، أنت ظلٌ دون غبار، طفل مع يدين ووجه نائم في اللهب، جسدك مظلل باللهب، بين نهر وبحر، بين موت ومنزل، بين ثلج وعشب، أنت لم تعد سوى فكرة واحدة راقدة في الثلج، راقد وحدك مع ظلك الوحيد وجذر وحيد من شجرة.
*
 تلتهب مثل سراج على منضدة تحمل زينة المرأة وماكياجها، سراج يلقي ضوءه على دولاب ملابسها وعلى سريرها وشراشفها، سراج يلتهب بعيداً في النهار من دون أن يسعفك أو يمد لك الفاكهة، صوت قيثاراتك يدخل من النافذة ويفاجئ المرأة الجالسة أمام ماكياجها وزينتها.
*
 حلزون يزحف في الحديقة التي ينمو بها اللبلاب، في الحديقة التي تنام بها أنت حيث البرد الشديد يساقط ورق الأشجار، ويجمد الندى فوق الزهور التي ترتعش في الضياء، أنت ركن الحديقة المرسومة ببياض أشجار اللوز، وتنتشر الحلازين على جسدك النائم مثل وشم حي.
*
هذا دربنا الذي لا يؤدي ونحن ننام قليلاً في الأبدية التي تعرفنا، ننام دون أن ندرك أجسادنا أو تنفسنا، تنفسنا الذي يأخذنا نحو الأبدية التي تعرفنا، أنت تدركنا في المكان ذاته، تدركنا وتتعرف علينا في الليل، ليل معتم وقمرك رقيق مثل شظية.
*
 هذا فراشك المصنوع من حجر خشن، وحجر مفتت، وبضعة أغصان مهشمة، وعضلاتك لا يجرحها الشجر، عضلاتك لا تجرحها الأغصان ولا الجذوع ولا الصخور الناتئة، عضلاتك يجرحها المطر، ونثار الثلج، وشرشف الريح الذي يعصف فوق المائدة.
*
 كأسك المجهول ولغتك الغريبة، عنفها الطبيعي وعصفها، والفتاة التي تمر حولها، الفتاة  التي تمر في ظلال كأسها، هذه أخيراً أوبة الغيوم، الغيوم التي نصنع منها وجدودنا ونتهدم بها، الغيوم التي نصنع منها لغتنا تنطفئ مثل سراج في الريح، سراج على طاولة تحت المطر.
*
 كلنا ولدنا من زمن قديم، ولدنا من قنديل السماء ومن عمودية النهار ومن مطلق الليل والمطر، نحن مجانين الأرض ولدنا من حلم قديم، ولدنا من شراشف متلوية مثل سدم، عيوننا بعثة طيور، وذاك مصباحنا عار تحت شجر قديم، يبكي في الثلج على شعاع القمر.