سعدي يوسف شاعر مرتحل عبر المنافي طباعة

Imageلتجربة المنفى في شعر سعدي يوسف تميزها وخصوصيتها, فأكثر شعره مكتوب في المنافي, ويبدو كما لو كان الوقت الذي أتيح لهذا الشعر كي يكتمل حضوره في وطنه أقصر بكثير من أن يمنحه الصفات الفريدة التي أصبح معروفا بها على امتداد خارطة الإبداع الشعري. 
تحتل أعمال سعدي يوسف مكانة رفيعة ومنزلة سامقة في الأدب العربي, ولا يقتصر الأمر في هذا الجانب على ديوان (بعيدا عن السماء الأولى) (1970) أو الكثير من قصائد (نهايات الشمال الإفريقي) و(الأخضر بن يوسف ومشاغله) (1972) وإنما يمتد ليشمل أكثر قصائد الشاعر الموزّعة على العواصم المتباعدة في ارتحال صاحبها, فيصل (تحت جدارية

 فائق حسن) (1974) بديوان (الليالي كلها) (1976) و(الساعة الأخيرة) (1977) وذلك في التتابع الذي يضم (قصائد أقل صمتا) بدواوين من مثل (يوميات الجنوب...) (1981) أو (خذ وردة الثلج) (1987) أو (جنة المنسيات) (1993) أو (كل حانات العالم) (1994) أو (أربع حركات) (1996).
Imageوعندما استرجع في ذهني, الآن, عفو الخاطر, قصائد سعدي التي عرفتني به شاعرا كبيرا, قبل أن ألتقي به, ودفعت بشعره إلى صدارة الحضور الإبداعي الذي زاحم فيه حتى الأصوات التي سبقته, حين مضى بعيدا وعميقا في اكتشاف الآفاق التي وقف دونها أصحاب هذه الأصوات, أجد أن كل هذه القصائد مكتوبة في المنافي التي أكسبت شعر سعدي يوسف نبرات صوته المتوحد الذي عرفناه, أول ما عرفناه فأعجبنا به عبر قصائد متتابعة من طراز: (حانة على البحر المتوسط), و(البحث عن خان أيوب), و(الأخضر بن يوسف ومشاغله) و(الليالي كلها) و(القنفذ) و(خماسية الروح).. إلخ.
أقنعة الشاعر
Imageولاأزال أذكر, إلى اليوم, كيف قرأت قصيدة سعدي يوسف (الأخضر بن يوسف ومشاغله) مع أمل دنقل في مطالع السبعينيات, وشدّنا القناع الذي تتبعت تجلياته في الدواوين اللاحقة, ولاأزال معجبا بقدرته على الانقطاع عن الامتداد الأسطوري للأقنعة التموزية, وحرصه على تقديم نموذج إنساني ينتسب إلى زمننا السبعيني, ويشبهنا نحن البسطاء الذين رأينا فيه تحطيما إبداعيا متعمدا لمجلى الشاعر المتمددي, واستبدال مجلى من نوع آخر به. مجلى لكائن مألوف, ملموس, يقاسمنا شقتنا ويسبقنا إلى حدود المنافي التي يعيش فيها, والتي تصل النوافذ المغلقة في الرباط بالنوافذ المغلقة في العراق, على امتداد النوافذ المغلقة في كل مكان, فيلفتنا هذا الكائن, ولايزال إلى أهمية المنافي في صياغة تجارب سعدي يوسف الشعرية, وإكسابها الملامح التي مايزت بينها وبين غيرها من التجارب التي اعتصمت بالأقنعة التموزية, ورأت فيها سبيلا إلى تجسيد أحلام الزمن الآتي بالبعث.
ومنذ أن قرأنا (كيف يكتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة) عرفنا الكثير من أسراره وتوقفنا عن ملحوظاته التي كتبها بعد سبعة أيام معذبة, تمشي فيها على رمال وهران البحرية (في الجزائر) لعشرات المرات, فكتب ملحوظته التي تقول: لا تسكن في كلمات المنفى حين يضيق البيت, وتحيرنا في معناه, متوقفين على المفارقة التي لا تخلو من التباسات المعنى وتعدده, وفهمنا منها الرغبة في الابتعاد عن التعبير المباشر لمشاعر النفي, كما فهمنا الرغبة في الانطلاق بعيدا عن كلمات المنفى الداخلي حين يضيق البيت - الوطن - السماء الأولى. كما فهمنا الرغبة في معانقة الفلوات الفسيحة والاتحاد بعناصر العالم, ومن ثم الانتساب إلى الفئة الضالة التي لا تتوقف عن العيش في حال الخطر التي تستمد منها الإبداع, مثل نبع خفي التدفق, لا نرى منه سوى الهدير المكتوم الذي يعرفه كل المنتسبين إلى الفئة الضالة, وكل من يتسعون بالعبارة حين يضيق البيت والكلمات, هكذا, أنصتنا بتمعن, ونوع من التوقع, إلى الأخضر بن يوسف وهو يفسر ملحوظته السابقة بقوله:
تتدافع الأمواج بين يديه
 يمسك, بغتة, حجرا, ويبرؤه محارهْ
 ويظل ينصتُ:
 هبة (للريح ثانية), تهبُّ, تهبُّ, ثابتةً
 سيدخلُ في العناصر
 كلُّ ما في البحر يُصبحُ موجةً كبرى
 وما في الأرض يصبح موجةً كبرى
 ويدخل في العناصر
 قبضة مشدودة
 حجراً
 ووجها ناتئ القسمات
 هاهو في شوارعه الأليفة, ماثل
 خطواته عجلى
وفي يده محاره
 
 ولاأزال أرى في هذه الأسطر علامات السفر الدائم للمرتحل عبر المنافي, المرتحل الذي أنصت إلى كل شيء جديد رآه, وتقرى تضاريسه, متنقلا ما بين التفاصيل في شوارعه الأليفة التي لا يتركها حتى في تدافع الأمواج بين يديه, ورغم الإعلان عن الرغبة في دخول العناصر كي يغدو بعض الموجة الكبرى للكون, فأوتاد الواقع المتحول ما بين محطات النفي تجعل منه قبضة مشدودة حجرا, حتى خطواته العجلى التي لا تمنعه من الإنصات والتحديق والتمعن في كل ما ينتسب إلى شوارع الدنيا الواسعة التي ارتحل بين منافيها, عابرا كل حانات العالم من جلجامش إلى مراكش, في جنة المنسيات من التفاصيل التي أغفلها الشعراء.
مدن وقصائد
           ولاشك أن أي قارئ لدواوين سعدي المتلاحقة - على امتداد نصف قرن, منذ أصدر (القرصان) سنة 1952 - سوف يلفت انتباهه على الفور التعدد الدال لأسماء المدن العربية والأجنبية التي شهدت ولادة قصائده, وحرص الشاعر على تسجيل أسماء هذه المدن كما لو كان يتعمّد لفت انتباه القارئ إلى خصوصية الفضاء الذي تتولد فيه قصائده (بعيدا عن السماء الأولى) للعراق الذي لا يكف عن النائي, تاركا الشاعر متنقلا ما بين سماوات سيدي بلعباس, ووهران, والجزائر العاصمة, وباتنة, ومليلية, والدار البيضاء, وتونس, والكويت, وعمان, وبيروت, ودمشق, واللاذقية, وعدن, وأديس أبابا, وغرناطة, وبرلين وبلجراد, ونيقوسيا, وباريس, وأخيرا: لندن, هذه المدن هي الفضاءات التي تنتسب إليها قصائد سعدي في ارتحالها الدائم, القلق, ما بين المنافي التي تحوّلت إلى عنصر تكويني في شعر سعدي يوسف, ذلك الشعر الذي وصفه أدونيس, محقا, بأنه (شعر سفر دائم في الداخل والخارج) من أجل استحضار عالم جديد لايزال عصيا على الحضور, هذا العالم الذي يظل عصيا على الحضور هو عالم الإبداع الذي تظل فضاءاته في حاجة إلى المزيد من الكشف, وكل كشف فيه يغوي بالمضي إلى ما بعده, حيث المابعد يغري بالمابعد, في المدى اللانهائي الفاتن لعملية الإبداع التي هي رؤيا كشف مستمر لا حدّ له ولا نهاية.
           وأحسب أن هذه النقطة تومئ إلى التميز الكيفي لشعر سعدي, على امتداد منافيه التي صقلته كما تصهر النار المعدن المخلوط كي تستصفي عنصره الأنقى, فتختفي أوشاب البلاغة المباشرة والشعارات الرنانة والهجاء السياسي الذي يعرفه القارئ لدواوين عبدالوهاب البياتي, ابتداء من (أشعار في المنفى) أو (عشرون قصيدة من برلين) مرورا بقصائد (يوميات سياسي محترف) وذلك في المسار الذي لم يتغير إلا بعد أن تخلى وعي البياتي عن حديثه ومطلقاته, ودخل إلى منطقة المابين التي يناوشها الذي يأتي ولا يأتي, في المسافة التي تنوس بين الرماد والورد, وتفضي إلى ما بعد بوابات العالم السبع, حيث التوحد المطلق في المنفى - الملكوت. ولا يعرف شعر سعدي الشعائر التمهيدية لهذا المنفى - الملكوت, التي استحضرت أقنعة الخلاص الكونية أو التموزية بلا فارق, كما لا تعرف الأبطال الأسطوريين من الآلهة أو أشباه الآلهة, بل لا تعرف الشاعر المتأله أو المتنبئ, ولا تغوص في الرؤيا حتى تضيق بها العبارة, ولا تستهويها قرارة القرار من أندلس الأعماق التي تتفجر فيها حمم اللاوعي, مدمرة قواعد المنطلق والمنظور وحدود المكان والزمان, وإنما تعرف الشاعر الإنسان, العادي, المواطن البسيط, الماكر, المراوغ كالقنفذ, المرهف الحواس, الشاعر الذي يفتح العينين على ملامح العالم الدالة مهما دَقْت, مشرعا حواسه التي تتلقى أصغر هذه الملامح وتواجه العالم بها وفيها, مستبدلا الفيزيقي بالميتافيزيقي, المجاز بالتصريح, الكناية المباشرة بتداخلات الاستعارة المكنية, مأخوذا بالأشياء كالطفل, مشدودا كجلد القوس:
والعينان تشتفان صوت النمل
 والرجفة في الماء الذي يخترق الجذع
 
رموز المنفى
وليس مصادفة أن يترك هذا الشاعر مطلقات ت. إس. إليوت (1888 - 1965) ليستعين بشيء يشبه مفردات الحياة اليومية التي استخدمها إليوت في وصف النساء, حين يرحن ويجئن, أو يثرثرن, حول مايكل أنجلو, لكنه يعبرها سريعا إلى مفردات أمثال يانيس ريتسوس (1909 - 1990) في استخلاص رموز الحياة, وبخاصة حياة المنافي, من التفاصيل الصغيرة والحركات البسيطة والأفعال التي تبدو تافهة في الظاهر, عيناه على علامات المكان وتضاريسه, وملامح ناسه المألوفين, غير مغفل فائدة المفارقة التي تقترن بالسخرية والمعارضة أو المحاكاة التهكمية, ملمحة على الكنايات البصرية والتوافقات الصوتية, متمردة على انتظام الإيقاع بما يفضي إلى اللامقامية النغمية التي تنتهي إلى قصيدة النثر, فتغدو القصيدة قصيدة حادة كالمسامير وأليفة كالنباتات المنزلية ومرهفة كالأسئلة, مليئة - دائما - بالمفارقة التي تنبني بها, مثل تلك المفارقة.
كما فاضت الأرض حتى تتالت عواصمها بين كفيك
 كم غاضت الأرض حتى غدت محض زنزانة.
 
 وليس معنى ذلك أن قصيدة المنافي في شعر سعدي ولدت دفعة واحدة, أو اكتملت منذ البداية, فهي قصيدة تنتسب إلى شعره الذي لا يكف عن التحول والتبدل, متحفظا بجذوره الأولى التي لم تعرف الثبات الجامد, ولم تبق على حالها منذ أن تركت مطلقات القصيدة الخمسينية (نحن):
إننا أقوى من الموت, لنا دفء الدماءْ
 والغدُ الأحمرُ, والدنيا لنا
 
وأحلت محلها رغبة التحليق في قصيدة (المهاجر) التي كانت إرهاصا برغبة مكبوتة غير معلنة للآخرين, حتى لو تعارضت نهايتها مع بدايتها التي تقول:
يا أيها الطيرُ المهاجر
 إنا نحبُّ البحر, والأرض البنية, والغدائر
 ونود أن نمضي إلى مدنٍ غريبهْ
 ثلجية الطرقات, مزهرة الأغاني والمنائر
 أبوابها صدف, وعتمتها ضفائر
 مدنٍ من البلّور تجري في منازلها المعاصر
 
تجارب إنسانية حميمة
           ودع عنك الحرص على التقنية الذي هو علامة من علامات البدايات, وتوقف على هذه الرغبة في تحقيق المشابهة بالطير المهاجر, المشابهة التي دفعت الشاعر إلى أن يكتب في شبابه (أغنيات ليست للآخرين) الجامدين في الحزب, ويبحث عن أفق جديد في التجارب الإنسانية الحميمة والتفاصيل الصغيرة, مستهلا طريقا من التمرد على المسلمات والمطلقات, سرعان ما قاد إلى تحقيق فكرة الرحيل, والاتحاد مع الطير المهاجر في اللقاء الأول الصعب بالمنفى, في وهران جزائر الستينيات, حيث النخل الوهراني لا يشبه نخل الفاو, والبحر غير البحر, ولا نهر يقتسم المدينة, ولا غابة من السعف الشحوب تعمق في النهر صوته, لا شيء غير النخل في وهران - كالأسدين - يمشي في الظلال متمهلا, يدنو من البارات المغلقة, وأبواب المنازل والبحر والساحات, تاركا غصنا صغيرا وحيدا تتلاعب به الريح التي تستدعي ريح العراق:
الريح من بغداد, طعم الريح في شفتي, طعم الريح طين
 يا أيها الغصن الحزينُ
 يا أيها الملقى على أرض - وإن قَرُبَتْ - غريبه
 
           هذا الصوت الأول لغربة المنفى لا يخفي علامات البداية, سواء في توحده, أو رومانتيكيته الناضجة بالحزن, أو إطلاقه الحكم الذي يدنو بالمعنى من أفعل التفضيل, لكنه - مع ذلك كله أو رغم ذلك كله - يرهص بما سوف يغدو تقنية لاحقة, ناضجة, مكتملة, مائزة.
           هي تقنية التركيز على التفاصيل الصغيرة, والعثور فيها على الموازيات الرمزية لتوحد المغترب المنفي عن وطنه. وسوف يغدو هذا الغصن الحزين الذي كتب عنه الشاعر - في الجزائر سنة 1965 - فرعا مقطوعا من غصن بعد ما يزيد على ربع قرن, في باريس سنة 1991, حيث كتب الشاعر قصيدته (مصير) التي نقرأ فيها:
في الصالة
هذا الفرعُ المقطوعُ عن الغصنِ
 الفرع المنقوعُ بكأس الماء
 مع الأوراق الخمس
 الصامت في غير هواء الشجرهْ
 والثابتُ
 والنابتُ
 والباهتُ
 هذا الفرع إلى كم سيدومْ
 منقوعا في كأس الماءْ
 مقطوعا عن سر الشجرة
 مرتعشا كلّ مساء
 مختلفا عن كل أثاث الصالةْ
 
           وهي قصيدة تتحدث عن المنفى, وعن تجربة النفي, من غير أن تذكر كلمة واحدة عنه, فلا لزوم للتصريح في مقام الموازيات الرمزية التي تؤدي المعنى المقصود بالتلميح, مستغلة القرينة التي تصل الحضور بالغياب, أو ترد علاقات الغياب على علاقات الحضور, فتبين عن مصير الانقطاع عن الجذور, الابتعاد عن الأصل والحياة في أرض غريبة, تحت سماء أخرى بعيدة عن السماء الأولى, وفي ماء محبوس في كأس مقطوع عن أصله المتدفق, تماما كالفرع المقطوع عن الغصن, وعن سر الشجرة, رغم إرادته, أو بإرادة غيره, فإرادته المنفية ماثلة في البقاء الصامت في غير هواء الشجرة, البقاء الثابت الباهت بلا نمو. وذلك وضع يطرح السؤال عن النهاية, عن المدى الزمني الذي يدوم فيه هذا الفرع, أو يبقى مرتعشا في اختلافه عن كل أثاث الصالة, ولا حاجة إلى الإجابة, فمصير الفرع المقطوع عن الغصن, وعن سر الشجرة, كمصير الماء المحبوس بكأس الماء, العطن والموت. وكل ذلك دون صراخ, أو إعلانات حزن, أو حتى تصريح, بل استغلال الموازاة الرمزية الدالة التي تبين عن تجربة المنفى في أعمق معنى لاغترابها وانقطاعها بصاحبها عن نسغ عصارة الحياة في شجرة الأصل تحت السماء الأولى.
النخلة والمنفى
           ولن ينسى قارئ سعدي مصاحبات الغصن الحزين في البدايات, أو الفرع المقطوع عن الغصن, وعناصر الشجرة, فيما بعد البدايات, فالغصن والفرع يستحيلان إلى نخلة, والنخلة تغدو رمزا متكررا, تتعدد تجلياته أو تتبدل عبر تتابع المنافي وتسارع إيقاع السنوات الممتدة, ولكنها تظل ملمحا ثابتا مقترنا بحضور المنافي الذي غدا مرآة أخرى لحضور سعدي يوسف, شعريا, مرآة ترينا تحولات هذا الحضور, ومتغيراته, في الليالي كلها, لكن مع الإبقاء على الصور الثابتة كالنخلة التي لا تفارقها منافي سعدي ابتداء من المنفى الأول في الجزائر, في الستينيات, حيث قرأنا:
هنا بيني وبين النخل آلاف الفراسخ, بيننا الصحراء والبحر,
 وبين البحر والصحراء آلاف الفراسخ, بيننا القبرُ.
 وبيتي في جذور النخل كان ستارة خضراء مفتوحة
 تمر بها الرياح الأربع الرطبات أرجوحة
 وكان الليل فيه يضمه الفجرُ
 ويسقى ورده الشوكيّ إما يبخل النهرُ
 وكانت بابه للشمس مفتوحهْ
 فكيف أغلّق الأبواب, والأصوات تأتيني
 أكفاً لا تُرى, مائية اللين
 تحشرج, ثم تعلو, ثم تعلو, ثم تلقين.
 وتشربني وتسقيني
 فأسمع سرها وحدي.
 
           والعناصر التكوينية للنخلة, رمزيا تظل باقية كالعلامات الدالة على أصل الهوية, الامتداد الكثيف الذي يجعل من أرض العراق (أرض السواد), الجذور العفية التي لا تنزعها الرياح الأربع للفصول الأربع, الأفق المفتوح لامتداد النخيل كالأبواب المفتوحة, المربى, ذكريات الطفولة, والأهل, لقاءات الحب الأولى, الرعشة الأولى التي تهز الطفل حين يحتضن النخلة للوهلة الأولى, أو يحاول صعودها, كل ذلك يبقى على امتداد أزمان المنافي, وتقلبات أحوال الاغتراب. ونقرأ ما خطه سعدي في عمان, في التسعينيات, بعد ثلاثين عاما حين كتب:
كم بعدت عن النخل الأهل
 هل تتذكر أولى خطاك?!
 
           فندرك أن النخلة راسخة كأصل الهوى, على امتداد المنافي التي يتكرر اغترابها حتى في تلونه, في أمسيات تبدو بلا نهاية, تتزايد وطأتها كلما أوغل الظلام, وتزايد التوحد الذي يبعث على ذكر الموطن البعيد, السماء الأولى:
موطني.. لو نسمة من موطني
 لو شراعْ نحو يحملني
لو تخفيت كعصفور فما يعرفني
 حارس يغلق عن عيني سمائي